الكاتب والإعلامي ناظم السعود في حوار مع النبأ

عن تهميش المثقف ونزيف الثقافة وعقم التحولات الكبرى

حوار: شبكة النبأ/خاص

 

- المؤسسة العراقية التي يفترض انها قانونيا وأخلاقيا تمثل حصن الامان للمثقف نجدها في أحايين كثيرة تمعن في تهميشه

- لا يمكن لحكومة ركنت الثقافة وتعاملت معها كوجود كمي مهمل ان تقوم بدور إيقاظي او إصلاحي لما أسقطته من حساباتها او برامجها لا آنيا او قادما

- منظمات المجتمع المدني لافتات ثقافية تتحرك خلفها قوى ابعد ما تكون عن الثقافة كما ان البعض منها استغلت اللون الثقافي الاكثر انتشارا في البلد حاليا اعني ثقافة النهب والفساد

- لماذا أصبحت ثقافتنا (اليوم والأمس والغد) مجرد جهود وانجازات فردية لا يمكن ان ترتقي لمرتبة (التحولات الكبرى)؟

  

شبكة النبأ: غالبا ما يدفعنا الحرص على ثقافتنا الى البوح بما نراه ونؤشره في هذا المجال او ذاك حتى لو كان هذا الرأي او الملاحظة أو التأشير  متشحا بالقنوط، لأن الصمت او التغاضي عن تأشير المحن التي يمر بها الانسان ستقود الى محن أكثر ضررا، وطالما أننا نخوض في اتون تجربة سياسية جديدة على واقعنا كما يصفها كثيرون من داخل العراق وخارجه، هذا يعني إننا يجب أن نتصدى لكل ما يرافق هذه التجربة من النواحي الثقافية والسياسية في السنوات القليلة الماضية ونؤشر ما صاحبها او يصاحبها من عثرات من اجل العمل على تجاوزها او التقليل منها في أضعف الايمان ..

 وفي هذا الحوار مع الكاتب والاعلامي المعروف ناظم السعود الذي اجرته (شبكة النبأ المعلوماتية) نطلع على آراء فيها الكثير من الحرص والجرأة المنبثقة من رؤية صادقة تدعو الى تصحيح وإصلاح ما فاتنا في الماضي البعيد او القريب، لاسيما أن المثقفين هم أهل الصدارة في التصحيح والاصلاح كما يُفترض، وهنا حاورنا السعود لكي نضع رؤيته بين أيدي السياسيين القادمين أملا في إصلاح الثقافة العراقية وفق مشروع جريء ومتوازن، فحصرنا حوارنا هذا بأسئلة مباشرة تبحث في الواقع الثقافي وتحاول ان تشير الى مكامن الخلل، وكان سؤالنا الأول:

* ما هي رؤيتكم للبرنامح الاصلاحي المناسب في مجال الثقافة؟

- الإجابة ستمر على أطراف ثلاثة (الحكومة/ منظمات المجتمع /المثقف الفرد):

لا يمكن لحكومة ركنت الثقافة وتعاملت معها كوجود كمي مهمل ان تقوم بدور إيقاظي او إصلاحي لما أسقطته من حساباتها او برامجها لا آنيا او قادما، وسآتيك بمثال رياضي للدلالة على ما أقول:

لو تصورنا حلبة رياضية تقام فيها مبارة بالملاكمة بين خصمين غير متكافئين (في الأقل من الناحية البدنية او ما يطلق عليه الوزن ) فقام الأول ( الذي يبلغ وزنه 130 كغم ) بإسقاط خصمه ( الذي لا يتجاوز وزنه 60 كغم) بالضربة القاضية وفي الجولة الأولى، ثم تبين للحكم ان هذه الضربة أدت الى مصرع الثاني على الفور فهل من المنطقي قيام الأول (القاتل) بإقناع المتفرجين والحكام بأنه يرغب بإسعاف الثاني (القتيل) او يحسّن أحواله في الراهن والمستقبل؟ أي راهن للقتيل؟ وأي قادم ينتظره المقتول؟!.

ثم هاك اقرأ الدستور الراهن أترى فيه أي ذكر للمثقف والثقافة؟ هناك مئات البنود التي قننت كل جوانب الحياة العراقية ولم يسن بند واحد يعترف به المشرعون لهذا الدستور الخامل بان هناك وجودا للثقافة العراقية ينبغي إثباته او الإشارة اليه في القانون!!.. فكيف يتم الإصلاح لشيء لم يتم الاعتراف به في الحياة العراقية؟ ولهذا حين يسال وزير المالية او أي مسؤول عراقي اخر عن جانب يخص الثقافة العراقية فانه يرفض الإجابة او يسطحها معللا هذا الإسقاط الشائن بان لا وجود لبند دستوري او برنامج حكومي لبحث المسالة المبحوثة فيدحض السؤال!، وهكذا تلاحظ ان الحكومات المتتالية (فانا لا أشير الى حكومة راهنة بل الى حكومات ذات نسق مستنسخ) عاجزة كليا عن إحداث إصلاحات ثقافية (فضلا عن المجالات الأخرى) ولسببين:

انتفاء الوجود التشريعي للثقافة ان كان على مستوى الدستور او المسميات المحدثة، وعدم وجود مؤسسات ثقافية رقابية تقوم بادوار بديلة او إشرافية لما لم تقم به المؤسسات القائمة فعلا (وهي مؤسسات هزيلة وشكلية في غالبيتها).

واذ قلت ما قلت بخصوص ( الإصلاح الحكومي للثقافة ) وكيف انها غير قادرة او غير مؤهلة للقيام بدور حقيقي للاصلاح او سواه ( لان الحكومات العراقية المتعاقبة لا تمتلك موروثا ثقافيا يمكن التعويل والبناء عليه)، فيصبح من الضروري ان أشير الى الجهة القادرة على الإصلاح واعني بها منظمات المجتمع المدني التي يفترض ان تفعل مشاركاتها وعلاماتها طالما ان الفضاء مفتوح أمامها للقيام بحركات وتواجدات مؤثرة في الساحة ولكن هل حصل هذا فعلا ؟.

الحقيقة العيانية تقول ان خيبتنا كبيرة وخسارتنا ماسة لو وضعنا ممثلي المجتمع المدني في دائرة السؤال عن الحصيلة الحقيقية التي خرجت بها عشرات المنظمات والجمعيات والاتحادات بعد ممارسات عملية اتضح فيها انها لم تع بعد الدور المناط بها لتفعيل العمل الثقافي وإشغال المساحة الخالية والحاضنة للثقافة، والكثير من تلك العناوين ظهر انها مخترقة بأجندات حزبية وسياسية او انها كانت لافتات ثقافية تتحرك خلفها قوى ابعد ما تكون عن الثقافة! كما ان البعض منها استغلت اللون الثقافي الاكثر انتشارا في البلد حاليا اعني ثقافة النهب والفساد ودخلت في صراعات ( بعضها مكشوف) للحصول على المغانم المشاعة!.

ولا يبقى بعد هذا الا المثقف الأعزل للقيام بالبرنامج الذي يقترحه السؤال فهل ان هذا المثقف خليق بهذا الدور؟!..من المضحك / المبكي اننا لو رجعنا الى التاريخ العراقي القديم ( أيضا ) لوجدنا المثقف العراقي ( وهو في تلك الحقب البعيدة ) يعيش في حالة مدقعة من العسف والهوان والبؤس الشديد حتى ان السومريين كانوا يطلقون على الأديب والفنان والكاتب ( أي على المثقف ) يطلقون عليه اسم (المشكينو) وتعني بلغتنا الان ( المسكين !!) فتصور ان مسكنة مثقفنا ليست ابنة الحاضر بل هي حصيلة التاريخ العريق! فأي برنامج إصلاحي يمكن ان ينهض به مسكين ؟!.

* كيف ينظر ناظم السعود الى طبيعة العلاقة بين الثقافي والسياسي.

- لكي تعرف طبيعة هذه العلاقة (ان كانت موجودة خارج الورق والكلام) سأحيلك أولا الى ما كان يجري في مقاطعة (سكسونيا):

كان في سكسونيا (مقاطعة في ألمانيا القديمة ولا اعرف مصيرها اليوم)  قانون معروف يفترض مشرعه أن الشخص الذي يعمل في مجال الفن لا وجود له في الواقع وانه غير حقيقي أو لا ينتمي لحياة البشر بمعنى أن الفنان يعد (ظل رجل) وإن محاولة تشخيصه أو إعطائه أهمية او أثرا مجرد خرافة ليس إلا!.. والأغرب من كل هذا إن الذي يقتل فنانا لا جرم عليه ولا يقدم أمام القضاء لأنه إنما قتل (ظلا) أو شيئا موهوما لا حقيقة له.!

بمثل هذا التشريع لم يعش في تلك المقاطعة أي شخص يعمل في هذا المجال وأصبح لزاما على المحبين لهذا الفن التخفي تحت ستار أية مهنة أخرى حتى لا يقتل او يفنى في ظل ذلك القانون العتيد.

وقد ذكّرني بقانون سكسونيا ما نشهده منذ عهود وعقود من ممارسات واستبدادات تجري في بلادنا لإخراج شريحة المثقفين من بقية شرائح المجتمع السعيدة والبارزة والمؤثرة!, والمثقف اليوم وماضيا وقادما غير قادر على إعلان وجوده او دوره المكفول كباقي شرائح المجتمع لان السنن والأعراف العراقية السائدة لا تبيح للمثقف أكثر مما أباحت للفنان في مقاطعة سكسونيا الغابرة!.

والحقيقة انني ما ان اسمع او اقرأ شيئا يشبه الأحجية عن تلك العلاقة الافتراضية حتى أكاد ارفع عكازي برما بحالة التخبط والضحك الفاقدين لأي معنى فلا علاقة حقيقة إلا تلك الناشئة بين ندّين او قوتين غير متماثلتين والواقع الذي نتغصص فيه منذ دهور يؤشر وجودا حقيقيا لسيد يتعامل مع كائنات الوجود الأخرى كأنها أسرى او عبيد او تابعين في أحسن الأحوال او الاقوال، وهنا اجدني مضطرا لان احيلك مرة أخرى والى مدونة تاريخية من أقدم المدونات في التاريخ وهي من التراث السومري وتعرف باسم (حوار السيد والعبد) وفيها تتجسد حقيقة تلك العلاقة بأجلى صورها ذلك ان السيد يرمز الى السياسي _ الحاكم _ الطاغية (وهي صور السياسي العراقي التقليدية في كل مراحل التاريخ) بينما يرمز العبد _المثقف _ التابع ( وهي صور المثقف العراقي في العهود التاريخية المتراتبة) فحقيقة المحاورة تشير الى مؤهلات المثقف وقدرته على تامين متطلبات الانوية الطاغية وكيف ان المثقف يقوم بـ (تلوين) إجاباته انسياقا لرغائب وتطلعات السيد حتى لو أدت هذه التبعية الذليلة الى الإطاحة برأسه في النهاية ( رأس العبد لا رأس السيد طبعا!) وهي النتيجة المتقادمة والمتوقعة والتي تلخص العلاقة التي يشير أليها السؤال وتفضحها!.

* هل استطاعت الحكومة العراقية الحالية أن تستجيب للتحولات الكبيرة في الثقافة العراقية ومجرياتها.

- اولاً لي اعتراض جوهري بخصوص عبارة (تستجيب للتحولات الكبيرة في الثقافة العراقية) ولا ادري أي معرفة نستقيها من عبارة مجوفة كهذه؟ فمن الواضح لكل متابع للثقافة العراقية (متابعة ميدانية وليست من خلال الاخبار الاعلامية) ان هذه الثقافة تعاني من خلل وجودي خطير وهو انها تتسم بكونها ثقافة افراد وليست ثقافة مؤسسات وهذا يعني ان كل ما تحقق من انجازات ومشاريع يعود لجهود فردية من دون ان تكتمل الدورة الثقافية وتقوم هناك جهود مؤسسية حقيقة تواكب وتساند الجهود الفردية فيتكامل طرفا المعادلة ويغني احدهما الاخر ويشرع حراكا حقيقيا ليشمل مفاصل الحركة وتكون الحصيلة نهضة ثقافية متكاملة، لكن هذا الذي نشير اليه لم يتحقق بشكل جدي بل ان ما نلحظه هو وجود فاعل لطرف واحد (المثقف الفرد) وغياب فاحش للطرف الثاني (المؤسسة الثقافية) بحيث انها تركت الطرف الأول وحيدا في ساحة هرمة يعاني ويجتر محنته ويرسف في أغلال الخيبات والخسارات التي نجدها تجور على ذاته ومشاريعه معا، المؤسسة العراقية التي يفترض انها قانونيا وأخلاقيا تمثل حصن الامان للمثقف نجدها في أحايين كثيرة تمعن في تهميشه والتخلي عنه بل وتساهم في تسليمه لمن ينكل به او يودعه خلف الشمس!!.

وهنا يحق لي ان اسأل بعد رفقة مع الجلجلة الثقافية ناهزت الأربعين عاما: كيف تكون هناك تحولات كبرى في الثقافة العراقية ومجرياتها وطرفا المعادلة إما مشلول وأما مسكين؟! واجد ان الأصح ان يرد السؤال كما يلي: ما كمية الفقدان الثقافي التي نزفتها الثقافة العراقية ولِمَ انطفأت مشاريع التحولات الكبرى سريعا؟ والإجابة الصادقة عن هذا السؤال المزدوج ستكون كفيلة بالرد على هذا السؤال كما انها ستكشف بشجاعة غير مبتورة لماذا أصبحت ثقافتنا (اليوم والأمس والغد) مجرد جهود وانجازات فردية لا يمكن ان ترتقي لمرتبة (التحولات الكبرى)؟!.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 7/نيسان/2010 - 21/ربيع الثاني/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م