اللاعنف طريق لبناء المجتمع الحر التقدمي

رؤى من أفكار الامام الشيرازي

 

شبكة النبأ: أثبتت لنا وقائع التأريخ، لاسيما السياسية منها، أن اللاعنف كمنهج حياة هو الاسلوب الأقدر على بناء المجتمع المدني المتحضر الذي تُحترم فيه إنسانية الانسان وتُحفظ كرامته وحقوقه من خلال اعتماد المسؤولين سياسة التفاهم والتواؤم والانسجام ومعالجة التناقضات عبر المنافذ التحاورية المتحضرة التي غالبا ما تضع الامور في نصابها وتتعاطى مع الاشكالات بحكمة وروية وهدوء.

أما العكس، حين يسود مبدأ القوة والعنف في معالجة الاشكالات التي قد تظهر في هذا المجال او ذاك، فإنه غالبا ما يغمط حقوق الآخر لمصلحة الاقوى ممثلا بالحاكم ومعيته وهم الأقلية من بين عموم شرائح المجتمع، من هنا ستولد بؤر الاحتقان وتتكاثر وتنمو لتصبح ظاهرة ترسم طبيعة الحراك السياسي والعلاقاتي العام في المجتمع، فيكون الانطباع العام له، نوع من الصراع الذي لا يتوقف وغالبا ما تكون الضحية هي الحلقة الاضعف في المجتمع ممثلة بالفقراء وبسطاء الناس.

لذا فإن غياب الروية والحكمة وضبط النفس والسيطرة عليها من لدن السياسي يقود الى تحجيم حقوق الناس ومحاصرتها لاسيما في مجال الحقوق، مع اننا وغيرنا نتفق على أن الاسلام قدم لنا وللانسانية جمعاء حزمة من التعاليم التي تنظم حياتنا على الوجه الامثل فيما لو التزمنا بها كما عملت بها غيرنا من الامم، يقول المرجع الديني آية الله العظمى الامام السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) في كتابه القيّم الموسوم بـ ( من اسباب ضعف المؤمنين):

(لقد تقدم الغرب علينا عندما أخذوا بالعمل ببعض قوانين الإسلام، مثل حق الانتخاب والتصويت، وخلع الحكام الطغاة المستبدين، ومطالبة الحقوق والحريات، ومثل النظم في الأمور، والاتقان في العمل، وما أشبه ذلك).

إذن من اسباب التراجع في المجتمعات الاسلامية عدم اتقانهم للعمل المطلوب منهم، وهذا يعني غياب الاخلاص ويبدو انه ليس حكرا على السياسيين فحسب، أي أن الخلل في العمل لا ينحصر بالقائد السياسي الذي يسوس الناس وفقا لمصالحه بل يمتد ذلك الى الآخرين، وقد أشار الامام الشيرازي الى هذا المعنى بقوله في كتابه نفسه:

لقد أذاع الغربيون (وكتبوا في الجرائد والمجلات أنه كان من المقرر أن يصلوا إلى القمر في الساعة الخامسة مثلاً، لكنه تم ذلك في الساعة الخامسة وثلاثين ثانية، ويعتذرون من هذا التأخير!. نعم ثلاثون ثانية، لا ثلاثون دقيقة، وهذا من مصاديق الدقة والإتقان، وأعلنوا أن السبب هو تغيير مكان النزول، حيث كان المقرر النزول في مكان معين من سطح القمر، ثم تبين أن المكان لم يكن صالحا لذلك، فهذه علة التأخير. ويقال: إن القمر الصناعي الذي استخدموه متكون من ثلاثة ملايين جزء، وقد ساهم في إنجاز المشروع ثلاثمائة ألف عالم وخبير، وهو غير بعيد، لأن كل جزء منه يجرب عشرات المرات).

إن هذا الاحترام للعمل وآلية انجازه من مبادئ الاسلام المهمة لكننا لم نعمل به ولم نحترم الدقة في التوقيت وغيره، فيما نلاحظ أن الامم الاخرى كالغربيين أخذوا عنا هذه المبادئ ووظفوها لصالحهم على الوجه الأمثل، لاسيما في مجال السياسة وما يتعلق باحترام حقوق المواطن في حرية الرأي والنقاش والعمل وحرية الابداع وحرية المشاركة السياسية وغيرها، فيما انشغلنا نحن بالاختلاف والتناقض والتعامل مع قشور الامور وليس بواطنها، وقد قال الامام الشيرازي (رحمه الله) في هذا الصدد بكتابه نفسه:

(نحن المسلمين ـ وكذلك حكامنا ـ قد تغيرنا بحيث لم نعر أية أهمية للإنسان الذي فضله الله وكرّمه، وحرم ماله وعرضه ودمه، ولذلك ترى الحكام الطغاة يقتلون الناس كما يقتلون البق).

وهكذا كان العنف رائد الحكام والسياسيين في مجتمعاتنا الاسلامية للتعامل مع عامة الناس، فيما أخذت الامم الاخرى -لاسيما الغربيون- جوهر التعاليم الاسلامية وحولتنا الى انظمة عمل فاعلة ومؤثرة فقوّمت حياتهم وحولتهم من امم كانت تقبع في عصور مظلمة الى امم باتت تتصدر الحضارة البشرية.

فيما صادر قادتنا حقوق الناس واستأثروا بالسلطة عبر التأريخ، فكان العنف وسيلتهم الاقوى في تحقيق مآربهم على حساب الآخرين.

لكن تأريخنا يحتفظ من جانب آخر بتجارب قيادية كبيرة استلهمت تعاليم الانسان وحولتها الى مناهج عمل تنظم الحياة كما هو الحال مع أهل البيت عليهم السلام، يقول الامام الشيرازي (رحمه الله) في هذا المجال:

(في المقابل نرى أئمة أهل البيت –ع- الذين عيّنهم رسول الله-ص- خلفاء حق من بعده، وأئمة عدل للمسلمين، وفي مقدمتهم الإمام أمير المؤمنين –ع- لم يتخذ إلا الأسلوب الأفضل في الحكم، فلم تر في سياسته ظلما ولا استبداداً، ولا عنفاً ولا إرهاباً، بل كان –ع- يتبع سياسة الحكمة والموعظة الحسنة، نعم أحياناً كان يتبع سياسة العتاب واللوم فقط، وذلك في أشد الحالات كالحرب وما أشبه).

بمعنى لم يكن ثمة حضور لأي مظهر من مظاهر العنف في ظل قيادة أمير المؤمنين (ع) بسبب تفضيل الآخر على الذات وحفظ حقوق الناس السياسية وغيرها.

لذا مطلوب من قادتنا السياسيين اعتماد طريق الحكمة والتروي في ادارة دفة الحكم والاستفادة من الحلقات المشرقة في تأريخنا الاسلامي لاسيما ما يتعلق بالتطبيق الصحيح لجوهر التعاليم الاسلامية التي تحث على نبذ الاستبداد والتفرد واعتماد المشاركة وحرية الرأي والسماح للجميع بممارسة حقوقهم المشروعة، لأنه الطريق الأفضل لبناء المجتمع المتحرر القائم على مبدأ حفظ الحقوق لكلا الطرفين الحاكم والمحكوم.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 6/نيسان/2010 - 20/ربيع الثاني/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م