المقولات المؤسسة لفكرة حقوق الإنسان في الإسلام

الاستاذ زكي الميلاد

استندت الكتابات الإسلامية المعاصرة على جملة من المقولات الكبرى التي يمكن وصفها بالمقولات المؤسسة لفكرة حقوق الإنسان في المجال الإسلامي, وهي المقولات التي رجع إليها, وارتكز عليها معظم أو جميع الذين حاولوا الكشف والتعرف على فكرة حقوق الإنسان في الإسلام, ولا يكاد يوجد بحث أو كتاب تحدث أو تطرق إلى هذه الفكرة إلا واستند أو ارتكز على هذه المقولات كلها أو بعضها.

والبحث عن المقولات المؤسسة لفكرة حقوق الإنسان في التصور الإسلامي, يعد مبحثا جديدا وحديثا في المجال الإسلامي المتعلق بهذا الشأن, ولم أجد مثل هذا المبحث في الدراسات والكتابات التي رجعت إليها, أو التي تعرفت عليها.

ولا شك في أهمية وقيمة هذا المبحث الذي يمثل مدخلا وإطارا معرفيا ومنهجيا لتكوين المعرفة بفكرة حقوق الإنسان في الإسلام, وهو أفضل مدخل وأضبط إطار لمثل هذه المعرفة, ولتحديد مدى تمايز وتقارب واختلاف هذه الفكرة عن غيرها من الأفكار الأخرى في المذاهب الفكرية والاجتماعية المغايرة.

والحديث عن فكرة حقوق الإنسان والتعرف عليها في المجال الإسلامي لا يكتمل إلا بالعودة إلى هذه المقولات المؤسسة, ومحاولة فحصها وضبطها, وتعميق المعرفة بها, والكشف عن علائقها وروابطها وتراتبها, وبقدر تعمق المعرفة بهذه المقولات الكبرى بقدر ما تتحدد وضعية هذه الفكرة, وبقدر ما تتكشف أيضا.

وبعد نظر وفحص وجدت أن هذه المقولات المؤسسة تتحدد في أربع مقولات أساسية وهي: مقولة استخلاف الإنسان في الأرض, ومقولة الكرامة الإنسانية, ومقولة الحق والحقوق, ومقولة المقاصد.

مقولة الاستخلاف في الأرض

هذه المقولة كما هو واضح مستنبطة من القرآن الكريم في قوله تعالى (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة), وقوله تعالى (هو الذي جعلكم خلائف في الأرض).

 وما كان بالامكان الحديث عن هذه المقولة بهذه الصورة البيانية واللسانية لولا ورودها بهذا النص في القرآن الكريم.

ومن هذا النص القرآني تحددت رؤية الإسلام الكلية للإنسان ذاتا ووجودا ووظيفة, الرؤية التي رفعت الإنسان إلى أعلى منزلة في هذا الكون, وليس هناك ما هو أعلى واشرف من هذه المكانة التي يكون الإنسان فيها خليفة الله في الأرض.

وفي إطار هذه الرؤية, وتحقيقا لغاياتها ومقاصدها جاءت وتقررت فكرة حقوق الإنسان في الإسلام, الحقوق التي تضمن وتصون شرف الإنسان وكرامته, وبما يليق وخلافته في الأرض.

وتجلت هذه المقولة في مفتتح ديباجة وثيقة حقوق الإنسان في الإسلام التي أشرفت عليها منظمة المؤتمر الإسلامي, وجاء فيها أن (الدول الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي إيمانا منها بالله رب العالمين, الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم, وكرمه فجعله في الأرض خليفة ووكل إليه عمارتها وإصلاحها).

والحكمة من هذه المقولة تتحدد في أمرين متلازمين هما:

الأمر الأول: إن الله سبحانه الذي شرف الإنسان بهذه المنزلة وجعله خليفة في الأرض, وهذا يعني ضرورة المحافظة على هذه المنزلة, ومن اظهر تجلياتها أن يحصل الإنسان على كامل حقوقه, ولا يجوز انتهاك هذه الحقوق أو الانتقاص منها.

الأمر الثاني: تقتضي هذه المنزلة أن يدافع الإنسان عن حقوقه, ولا يتخلى عنها أو عن قدر منها, لأن الله سبحانه أعطى الإنسان هذه المنزلة السامية وعليه أن يدافع عنها, ويسعى إليها دوما, وفي مقدمتها الحصول على حقوقه كاملة من دون انتقاص.

مقولة الكرامة الإنسانية

وردت هذه المقولة في النص القرآني في قوله تعالى (ولقد كرمنا بني ادم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا), وتعد هذه الآية من أكثر الآيات القرآنية تداولا وحضورا في الكتابات الإسلامية التي تناولت فكرة حقوق الإنسان, وذلك لشدة بيانها وظهورها في الدلالة على المراد, ولا يكاد يوجد كتاب يتحدث عن حقوق الإنسان في الإسلام ولم يأت عن ذكر نص هذه الآية.

فقد أصلت هذه الآية لقاعدة هي أهم قاعدة مصدرية في مجال حقوق الإنسان, وهي قاعدة أن الأصل في الإنسان هو الكرامة, وهي صفة ملازمة للإنسان بما هو إنسان, بغض النظر عن لونه وعرقه, لغته ولسانه, دينه ومذهبه, ولا يجوز سلب هذه الصفة وهتكها, أو تحقيرها والانتفاض منها, فالإنسان إنسان بكرامته, وبدونها ينتقص الإنسان من إنسانيته, أي أن الإنسان كائن مكرم, ولا يكون إلا بكرامته.

والقران الكريم في هذه الآية كان بليغا للغاية حين استعمل وصف بني ادم عند حديثه عن الكرامة, ليؤكد على أمرين متلازمين, على أن الكرامة هي صفة أصيلة في النوع الإنساني, وعلى أن هذه الصفة تشمل جميع الناس بدون استثناء الذين يرجعون في أصلهم الإنساني إلى بني ادم, وليس هناك صنف من البشر خارج عن هذا الأصل الإنساني المشترك.

والحكمة من هذا الوصف أن الكرامة صفة سابقة على كل ما يظهر في الإنسان لاحقا من عوارض اللون أو اللسان أو الدين أو غيرها, وأن هذه العوارض مهما كانت طبيعتها لا تسلب الكرامة من الإنسان, ولا ينبغي أن تنتقص منه.

كما اعتبرت هذه الآية أن الله سبحانه هو مصدر الكرامة للإنسان والذي فضله على كثير ممن خلق تفضيلا, وهذا يعني ضرورة أن يتمسك الإنسان بهذه الكرامة ولا يتخلى عنها أبدا تحت أي ظرف من الظروف, وأمام أي ضغط من الضغوط, لأنها من الله وليس منة من احد كائنا ما كان.

وهناك من وجد في هذه الآية ترجيحا لمفهوم الكرامة الإنسانية على مفهوم حقوق الإنسان عند الذين شككوا في هذه التسمية واعتبروها تسمية تنتمي إلى المجال الغربي, وهذه الرأي في نظري ليس راجحا, وليس بمقدوره مزاحمة مفهوم حقوق الإنسان وإزاحته والإحلال مكانه.

وأرى أننا لسنا بحاجة إلى هذه المزاحمة, أو هذه المفاضلة لأننا بحاجة ملحة لكلا هذين المفهومين, وبطريقة يعاضد فيها كل مفهوم المفهوم الآخر, وهما كذلك في الأصل, فهما قريبان ومتحدان مع بعضهما ولا يفترقان أو يتعارضان.

ووجه العلاقة بين هذين المفهومين أن الكرامة الإنسانية هي التي أوجبت حقوقا للإنسان تحفظ له هذه الكرامة, لأنه مخلوق مكرم, ولأن الله سبحانه هو الذي كرمه وجعله من أفضل مخلوقاته.

ومن هذه الجهة يرى الدكتور محمد عابد الجابري في كتابه (الديمقراطية وحقوق الإنسان) أن حقوق الإنسان في الإسلام هي جميع الأمور المادية والمعنوية التي تجب له بموجب تكريم الله له وتفضيله إياه على سائر خلقه.

وهذا التصور له أساس حتى في الفكر الإنساني حيث نرى أن الكرامة هي أصل وجوهر حقوق الإنسان, وقد تجلى هذا التصور بوضوح كبير في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي اتخذ من الاقتران بين الكرامة والحقوق أساساً وتأسيساً له, ودلت على ذلك الإشارة التي وردت في السطر الأول من ديباجة الإعلان, وفي المادة الأولى من مواد الإعلان.

ففي الديباجة ورد ما نصه (لما كان الاعتراف بالكرامة المتأصلة في جميع أعضاء الأسرة البشرية, وبحقوقهم المتساوية الثابتة هو أساس الحرية والعدل والسلام في العالم).

وجاء في المادة الأولى من الإعلان ما نصه (يولد جميع الناس أحراراً متساوين في الكرامة والحقوق, وقد وهبوا عقلاً وضميراً وعليهم أن يعامل بعضهم بعضاً بروح الإخاء).

وكانت للشيخ محمد علي التسخيري ملاحظة على مفهوم الكرامة الوارد في هذه المادة, أشار إليها في المقارنة التي أجراها بين إعلاني حقوق الإنسان الإسلامي والعالمي, حيث فصل بين الكرامة الذاتية وبين الكرامة المكتسبة التي هي أعلى درجة من الكرامة الأولى, معتبراً أن الإعلان العالمي أشار إلى الكرامة الذاتية, ولم يتطرق إلى الكرامة المكتسبة بخلاف الإعلان الإسلامي الذي التفت إلى هذا الجانب, وحسب رأيه الذي يشرح فيه ما يقصده بالكرامة الذاتية والكرامة المكتسبة يقول الشيخ التسخيري: إن الإعلان الإسلامي يفصل بحق بين أصل الكرامة أو الكرامة التي يحصل عليها الإنسان باعتبار انتمائه الإنساني فقط, والكرامة المكتسبة التي ينالها الإنسان عبر سيره التكاملي المعنوي وعمله الصالح في خدمة الخلق, فإن أي وجدان يدرك الفرق بين عالم كبير كابن سينا مثلاً, وفرد عادي يعيش لنفسه دون أن يترك أثراً في الحياة.

وفي كتابه (دستور الأخلاق في القرآن) قسم الدكتور محمد عبد الله دراز مفهوم الكرامة في القرآن الكريم إلى أربعة أقسام هي: كرامة الإنسانية, وكرامة الاستخلاف, وكرامة الإيمان, وكرامة العمل, مستدلاً على كل قسم من هذه الكرامات الأربع بآيات قرآنية مبرهنة عليها.

من هنا يتبين أن الكرامة الإنسانية هي مقولة أصيلة في التأسيس لفكرة حقوق الإنسان على المستويين الإسلامي والإنساني.

مقولة الحق والحقوق

المقولة الثالثة من المقولات المؤسسة لفكرة حقوق الإنسان في الإسلام, مقولة الحق والحقوق, وهي المقولة التي تواترت بكثرة في النص الديني الإسلامي قرآناً وسنة, وتحددت معنى ومضموناً في علمي الفقه الإسلامي وأصوله, وعدت من مقولات هذين الحقلين البارزين في منظومة المعارف الإسلامية.

وقد وجد الدارسون المسلمون أن تكوين المعرفة بفكرة حقوق الإنسان يستدعي النظر في مقولة الحق والحقوق, وتحليل هذه المقولة وضبط معناها, والإحاطة بحقلها الدلالي, والكشف عن منشأ هذه الحقوق ومصدرها ومنبعها, واعتبروا أن هذه الخطوة لابد منها لتأسيس فكرة حقوق الإنسان في الإسلام, وكيف تختلف هذه الفكرة وتتمايز عن التصور الغربي بناء على تحليل مقولة الحق والحقوق.

هذه المقولة أعادت هؤلاء الدارسين إلى كتب الفقه وأصوله القديمة والحديثة التي جرت فيها أحاديث ونقاشات علمية محكمة حول معنى الحق والحقوق, وتقسيمات هذه الحقوق إلى ما يعرف بحقوق الله سبحانه وحقوق العباد, والعلاقة بين هذين النمطين من الحقوق, وما طبيعة كل منهما, وأين يشتركان وأين يفترقان, وأيهما يتقدم على الآخر ومتى إلى غير ذلك.

وحين يعرف الأصوليون المنتسبون إلى علم أصول الفقه حق الله يقولون إجمالاً هو ما يتعلق به النفع العام من غير اختصاص بأحد من الناس دون آخر, وينسب هذا الحق إلى الله لعظم خطره, وشمول نفعه, وحق العبد هو ما يتعلق به مصلحة خاصة.

وهناك ما يجتمع فيه الحقان وحق الله غالب كحد القذف ويلحق بحقوق الله, وما يجتمع فيه الحقان وحق العبد غالب كالقصاص ويلحق بحقوق العبد.

وفي كتب الأخبار والحديث هناك نصوص تطرقت إلى شكل العلاقة بين حقوق الله وحقوق العباد من هذه النصوص ما روي عن الإمام علي قوله (جعل الله سبحانه حقوق عباده مقدمة لحقوقه, فمن قام بحقوق عباد الله كان ذلك مؤدياً إلى القيام بحقوق الله).

ويتكون هذا النص الواضح والجلي من ثلاثة عناصر مترابطة, هي:

العنصر الأول: تقرير أن الحقوق تنقسم إلى قسمين تعرف اصطلاحاً بحقوق الله وحقوق عباده.

العنصر الثاني: تقرير العلاقة المتلازمة بين هذين النمطين من الحقوق, العلاقة التي تتحدد في أن حقوق العباد مقدمة لحقوق الله سبحانه, وطريق إلى هذه الحقوق.

العنصر الثالث: ضرورة الالتفات إلى حقوق العباد والعناية والاهتمام بهذا النمط من الحقوق لكونها مقدمة ومؤدية إلى القيام بحقوق الله سبحانه, والتأكيد على هذا العنصر بالذات لأنه قد يغيب عن الأذهان, أو يساء فهمه ويلتبس عند البعض.

ومن هذه النصوص الدينية أيضاً, الرسالة التي تنسب إلى الإمام علي بن الحسين وهي رسالة تتجلى من عنوانها حيث تعرف برسالة الحقوق, وجاءت متضمنة خمسين حقاً, تبدأ بحق الله سبحانه ثم حق الإنسان الذات والآخر.

وللأسف فإن هذه الرسالة على أهميتها وقيمتها الدينية والأخلاقية والتاريخية لم تحض بالعناية والاهتمام عند المسلمين المعاصرين, ولا نكاد نجد لها ذكراً وتنويهاً في العديد من الكتابات والمؤلفات التي تعنى بشأن حقوق الإنسان.

وفي دراسات المسلمين المعاصرين هناك تقسيمات لمقولة الحقوق من أبعاد وزوايا مختلفة يلحظ فيها تارة مصدر الحق, وتارة يلحظ فيها صاحب الحق, وتارة أخرى يلحظ فيها مورد الحق إلى غير ذلك من حيثيات واعتبارات.

ومن هذه التقسيمات تقسيم الحقوق إلى طبيعية ووضعية, ويراد من الحقوق الطبيعية تلك الحقوق الثابتة بذاتها للإنسان طبيعة وفطرة, ويراد من الحقوق الوضعية تلك الحقوق التي وضعت وضعاً, فهناك واضع لها, وتكتسب شرعيتها من واضعها وليس من ذاتها.

ومن هذه التقسيمات كذلك, تقسيم الحقوق إلى خاصة وعامة على أساس صاحب الحق, فالحقوق الخاصة ناظرة إلى صاحب الحق الفرد, والحقوق العامة ناظرة إلى صاحب الحق الجماعة أو المجتمع أو الأمة.

ومن جهة المورد والمجال تقسم الحقوق إلى سياسية واقتصادية واجتماعية وغيرها, فحين يتعلق الحق مثلاً بالمشاركة في الانتخابات يكون هذا الحق سياسياً, وإذا تعلق بالعمل كان اقتصادياً, وإذا تعلق بالصحة والتعليم كان اجتماعياً.. إلى غير ذلك من تقسيمات أخرى.

والشاهد من كل ذلك أن الباحثين المسلمين وجدوا في مقولة الحق والحقوق والنقاشات العلمية التي جرت حولها عند أهل الفقه والأصول أنها تمثل مدخلاً مهماً, ورافداً حيوياً في التأسيس لفكرة حقوق الإنسان في الإسلام.

مقولة المقاصد

المقولة الرابعة والأخيرة من المقولات المؤسسة لفكرة حقوق الإنسان في الإسلام, مقولة المقاصد, وهي المقولة التي أسس لها, وعرف بها الفقيه الشاطبي إبراهيم بن موسى التي شرحها في كتابه الشهير (الموافقات في أصول الشريعة) الصادر في القرن الثامن الهجري, في هذا الكتاب اعتبر الشاطبي أن تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق, وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام, أحدها أن تكون ضرورية, والثاني أن تكون حاجية, والثالث أن تكون تحسينية. فأما الضرورية فمعناها أنها لابد منها في قيام مصالح الدين والدنيا, وأما الحاجية فمعناها رفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب, وأما التحسينية فمعناها الأخذ بما يليق من محاسن العادات.

والضروريات التي لابد منها حددها الشاطبي في خمس عرفت بالضروريات الخمس, وهي حسب ترتيبه حفظ الدين والنفس والنسل والمال والعقل, ونقل الشاطبي أنها مراعاة في كل ملة.

مقولة المقاصد هذه وجد فيها الدارسون المسلمون أنها تمثل إطاراً شرعياً ناظماً لفكرة حقوق الإنسان في الإسلام, ومن ثم قاموا بربط فكرة الحقوق بنظرية المقاصد التي عدت لاحقاً أهم نظرية في التأسيس لفكرة حقوق الإنسان في الإسلام, وبدون هذه النظرية ما كان بالامكان صياغة تأسيس متماسك لهذه الفكرة في المجال الإسلامي, وبشكل يكون متمايزاً عن تأسيسات الآخرين المختلفين فكرياً واجتماعياً.

وقد أظهر المسلمون تمسكاً بهذه المقولة التي وجدوا فيها ضالتهم, وحظيت بقبول عام لدى المفكرين الإسلاميين أوصله البعض إلى حد الإجماع, وذلك لكون أن هذه المقولة تمثل أساساً وإطاراً لنظرية الحقوق والحريات العامة والخاصة في التصور الإسلامي, يتسع ويستوعب جل الحقوق المعروفة مثل حق الحياة والحرية والتعليم وحق الملكية وغيرها.

ويتضح هذا الموقف عند العودة إلى تصورات الدارسين المسلمين التي تكشف بوضوح كبير عن مدى عنايتهم وتمسكهم بهذه المقولة, وطريقة تعاملهم معها بوصفها مقولة مرجعية في هذا الشأن.

من هذه التصورات ما أشار إليه الشيخ عبد الله بن بيه في كتابه (فتاوى فكرية) الصادر سنة 2000م, الذي يرى أن مقولة المقاصد هي تأصيل لنظرة متكاملة متوازنة لحقوق الإنسان, وتنطوي على صيانة سائر الحقوق الإنسانية والسياسية والاقتصادية, فالجانب الضروري من هذه المقاصد يترجم في نظر الشيخ بن بيه بحق الحياة, وحق التملك, وحق تكوين الأسرة, وحق التدين, وحق النسل, والمقصد الحاجي يترجم في حق التعليم والمسكن وغيرها من الحقوق التي ترفع مشقة الحياة, وتؤمن الحياة الكريمة, والمقصد التحسيني يرمي إلى منح الحياة الجمال والمتعة والتمتع بالطيبات.

ومن جهته يرى الباحث السوري الدكتور محمد الزحيلي أن مقاصد الشريعة هي المنطلق الحقيقي والأساسي لحقوق الإنسان, وأن الشرع الحنيف جاء أصلاً من أجل الإنسان وتحقيق مقاصده, والتطبيق الحقيقي لحقوق الإنسان يكمن في التطبيق العملي للدين الحق.

ودل على ذلك أيضا الكتاب المشترك الذي صدر عن سلسلة كتاب الأمة في قطر سنة 2002م, بعنوان: (حقوق الإنسان في الإسلام.. محور مقاصد الشريعة).

وبخلاف هذا المنحى كانت للدكتور رضوان السيد وجهة نظر أخرى مختلفة ومغايرة حيث يرى في كتابه (سياسيات الإسلام المعاصر) أن الإسلاميين المعاصرين لجأوا إلى مقاصد الشريعة لأغراض توظيفية, وبطريقة مختلفة ومتراجعة عن الطريقة التي استخدمها الإصلاحيون قبلهم, وكانت تتوخى حسب قوله بناء منظومة إسلامية لحقوق الإنسان متمايزة عن المنظومات الغربية, وعن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان, وذلك بربط مقولة المقاصد بفكرتي الاستخلاف والتكليف لإثبات أن حقوق الإنسان في الإسلام هي ضرورات أو واجبات وليست مجرد حقوق.

وهذه الطريقة التوظيفية لخلق التمايز لا مبرر لها في نظر الدكتور السيد لأن الشاطبي الذي استند إليه الإسلاميون حسب قوله, قال عن المصالح الضرورية أنها مراعاة في كل ملة, أي أن إدراكها ومراعاتها عامان وشاملان وضروريان للمصالح الإنسانية, وليس قصراً على الدين الإسلامي.

مع ذلك فإن العودة إلى مقولة المقاصد كان ضرورياً ومفيداً لبناء وتطوير نظرية إسلامية في مجال حقوق الإنسان, هذه هي المقولات الأربع المؤسسة لفكرة حقوق الإنسان في الإسلام.

* باحث في الفكر الإسلامي والإسلاميات المعاصرة

رئيس تحرير مجلة الكلمة

www.almilad.org

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 6/نيسان/2010 - 20/ربيع الثاني/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م