حتى توراتيا

لم يكن هناك "قدس يهودية موحدة"

ماجد الشّيخ

في تشرين الثاني (نوفمبر) من العام الماضي، حين وافق المجلس الوزاري المصغر على قرار تجميد البناء الاستيطاني في الضفة الغربية، كان هدف حكومة الائتلاف اليميني المتطرف يومها، محاولة إنجاز خطوة أو خطوات، ترمي إلى "ضم القدس الشرقية لتصبح قلبا وقالبا العاصمة الأبدية الموحدة للشعب اليهودي" بحسب نتانياهو، الذي عاد وأفصح عن ذلك في جلستين مغلقتين مع وزراء ائتلافه الحكومي، وفي جلسة أخرى مع كبار قادة المستوطنين، مقدما تبريرا لذلك، بأن هدفه أن تصبح أحياء القدس الشرقية أحياء مختلطة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، كما هو الوضع في حيفا ويافا وعكا، مما سيصعّب على السلطة الفلسطينية الحالية أو من سيأتي بعدها المطالبة بشئ اسمه القدس، لتكون عاصمة للدولة الفلسطينية المستقبلية؛ وذلك كمحطة أولى يجري الانتقال بعدها إلى ما هو أهم وأخطر، في محاولة إنجاح الرهان اليميني والديني المتطرف، لإنجاز هدف "قدس يهودية موحدة".

من هنا، فإن ما يجري اليوم على الأرض، يحاول أن يُطابق أو يتطابق تماما مع ما أبلغه نتانياهو يومها لقادة المستوطنين، بل إن الكثافة والسرعة القصوى اللتان فاقتا كل الحدود، توضّحان الأبعاد الخطيرة للمسألة، في وقت بات واضحا تقسيم العمل القائم بين الحكومة والبلدية وقطعان المستوطنين، في تنفيذ الخطط اللازمة لبناء المزيد من الوحدات السكنية وسط أحياء القدس العربية (الشرقية).

 ففي "رؤية" نتانياهو لدور قادة المستوطنين، فإن مهمتهم تتحدّد بتجنيد "أموال يهودية" في العالم لشراء أراض وعقارات يمكنهم العيش فيها، وأينما أرادوا في شرقي القدس؛ في الشيخ جراح أو في حي سلوان أو في القدس القديمة أو في شعفاط ووادي الجوز وجبل أبو غنيم، حيث سيتم تفتيت هذه المناطق التي تكوّن منطقة شرقي القدس، وبحسب نتانياهو و "رؤياه"، فإنه بعد انتهاء الأشهر العشرة (أيلول/سبتمبر) القادم لن يبقى شئ اسمه القدس الشرقية.!

ليس هذا فحسب، فالقدس كلها مستهدفة لذاتها، ولقطع تواصلها مع محيطها الذي يربطها بالضفة الغربية، حيث تقوم شركات استثمار إسرائيلية بتكثيف الاستيطان في محيط القدس، وإقامة مستوطنة جديدة باسم "جفعات ياعيل" تضم 12 ألف وحدة سكنية، ستصل حدودها حتى مدينة بيت لحم، وذلك بتعديل مسار جدار الفصل العنصري بمحاذاة قرية الولجة، بهدف توسيع نفوذ ونطاق القدس، من خلال ضم مساحات واسعة من الأراضي التابعة للسلطة الفلسطينية، وفق اتفاقيات أوسلو.

علاوة على ذلك تسعى حكومة اليمين القومي والديني المتطرف، القائمة اليوم في إسرائيل، لضم مستوطنة معاليه أدوميم، كبرى المستوطنات في الضفة الغربية إلى القدس المحتلة، حتى قبل إقامتها، وذلك بهدف تقطيع أوصال الضفة الغربية، وإفقاد الدولة الفلسطينية المفترضة، المزيد من تواصلها حتى بين مدن وقرى ومخيمات الضفة ذاتها. وجاء في تقرير أعدته جمعية "بمكوم" ومنظمة "بيتسيلم" أن إسرائيل صادرت 32 ألف دونم لإقامة هذه المستوطنة، حيث يجري العمل على تحويلها إلى مدينة تقطع التواصل الجغرافي بين وسط الضفة وجنوبها، للحؤول دون إقامة دولة فلسطينية في المستقبل.

وبهذا تكون إسرائيل قد سعت وتسعى عمليا، إلى تنفيذ ما يسمى مخطط 2020، الذي هو عبارة عن مشروع يهدف إلى جانب مخططات إقليمية أخرى، إلى إقامة القدس الكبرى، وتكريس شعار "القدس عاصمة موحدة أبدية لإسرائيل"! وإلى تهويد المدينة بكاملها من طريق ضم مستوطنات إلى مناطق نفوذها وتقليل أعداد الفلسطينيين فيها.

ولذلك لا يختلف المخطط الاستيطاني الجديد المزمع إنشاؤه قرب بلدة بيت صفافا، عن المخططات الأخرى الهادفة إلى تعزيز الفصل الديموغرافي ما بين القدس وجنوبي الضفة الغربية، عبر اكتمال الجيب الاستيطاني إلى الجنوب من القدس، والمكون من مستوطنة هارحوما وجيلو وجفعات همطوس مستقبلا. وسيتم تنفيذ هذه المخططات غربي شارع الخليل قرب حي بيت صفافا، وذلك ضمن أربع مخططات رئيسة، سيتم من خلالها بناء 3699 وحدة سكنية، بالإضافة إلى فنادق سياحية ذات قدرة استيعابية تصل إلى 1100 غرفة فندقية، ناهيك عن جميع المرافق اللازمة من مبان عامة وكنس ومدارس لخدمة المشروع وسكانه.

وقد بينت تقارير مصدرها جمعية "عير عميم" ومعطيات مصدرها بلدية الاحتلال في القدس، أنه يوجد ما يقارب 50 ألف وحدة سكنية في مراحل مختلفة من التخطيط والترخيص لبنائها. وبحسب الجمعية، فإن المخطط الأكبر الموجود في مراحل الترخيص المتقدمة، يشتمل على بناء 3 آلاف وحدة سكنية في مستوطنة جيلو، و1500 في مستوطنة هارحوما المقامة على جبل أبو غنيم، و1500 في بسغات زئيف، و3500 في جفعات همطوس، و1200 في راموت، و600 في أرمون هنتسيف، و400 وحدة سكنية في نافيه يعقوب. إضافة إلى مخططات مستقبلية واسعة النطاق، بضمنها إقامة حي استيطاني جنوب المدينة يضم ما يقارب 13 ألف وحدة سكنية.

وكانت وزارة الداخلية الإسرائيلية صادقت على بناء 1600 وحدة استيطانية جديدة في القدس الشرقية والضفة الغربية، وهو القرار الذي أثار الولايات المتحدة، وأدى إلى الأزمة التي نشأت بين إدارة أوباما وحكومة نتانياهو، كون الإعلان عن المصادقة على تلك الوحدات الاستيطانية، جاء خلال زيارة نائب الرئيس الأميركي جو بايدن، الذي اعتبر ذلك بمثابة الإهانة الشخصية له ورسالة غير ودية إلى إدارته.

 وتظهر الحرب المعلنة من جانب حكومة الاحتلال اليمينية المتطرفة على القدس ومواطنيها الفلسطينيين، أن الهدف منها اليوم، بات يتكشّف عن نكبة جديدة توازي في مفاعيلها الحاضرة والغائبة، مفاعيل نكبة العام 1948، فهذه الحرب الهادفة إلى اقتلاع وتشريد المزيد من مواطني المدينة، وإحداث اختلال وتفريغ ديموغرافي لمصلحة اليهود، هي حرب متواصلة منذ استكمال احتلال القدس عام 1967، وقد أفاد تقرير فلسطيني حديث أن عدد المنازل التي هدمتها سلطات الاحتلال منذ ذلك التاريخ بلغ 24 ألفا و145 منزلا، بما فيها قرى هُدمت مع قدوم الاحتلال، يُضاف إليها آلاف قرارات الهدم والإخلاء.

ومنذ بداية العام الجاري، بدأت حكومة الاحتلال تكثّف من أعمالها الهادفة إلى تهويد القدس، وتفريغها ديموغرافيا من أصحابها الفلسطينيين وإقامة منشآت ذات صبغة يهودية، مثل إقامة "كنيس الخراب" واستهداف المسجد الأقصى وكنيسة القيامة والبلدة القديمة. وبحسب نتانياهو أنه وبحلول أيلول (سبتمبر) القادم وهو الموعد الذي ينتهي فيه قرار تجميد الاستيطان الشكلي والمراوغ، فإنه لن يكون هناك قدس شرقية، بمعنى أن الحكومة الائتلافية الحالية ماضية صوب إنجاز عملية ابتلاعها وضمها إلى القدس الغربية، في محاولة للزعم أنها "العاصمة الأبدية لدولة يهودية" هي كيان إسرائيل الاحتلالي، القائم اليوم على أرض الفلسطينيين ووطنهم التاريخي.

من هنا سعي حكومة الائتلاف اليميني المتطرف وعبر "برنامجها الملزم"، إلى ممارسة أقصى محاولات تغيير المعالم الإسلامية والمسيحية، وطمس كل ما يدل على الآثار العربية المؤكدة في المدينة، في ظل غياب أي أثر تاريخي في باطنها، مزعوم ومتوهم؛ للقبائل اليهودية التي كانت تترحّل في إطار المنطقة، وذلك بشهادة علماء آثار إسرائيليين وغربيين من قبلهم يشهد لهم ولكفاءتهم العلمية، باتوا يؤكدون أنهم لم يعثروا على ما يثبت يهودية المدينة في أي وقت من التاريخ، في ظل غياب أيّ آثار أو لقى تاريخية يمكنها أن تثبت أنها كانت يوما ما يهودية، من قبيل ما تزعمه الخرافات التوراتية عن مملكة سليمان أو اصطبلات داوود، وما يُنسب إليهما ولأمثالهما من آثار ومخلفات لم توجد قط، إلى درجة التشكيك بوجود أسماء كهذه وُجدت وعاشت تاريخيا على مسرح المنطقة القديم.

وبحسب مجلة تايم الأميركية (1/2/2010) التي قابلت مجموعة من علماء الآثار الإسرائيليين، فإن الهدف من كامل الحفريات التي تمت وتتم هو طرد الفلسطينيين من المدينة؛ تهويدها وأسرلتها وإخراجها من نطاق تاريخها الحقيقي. وهذا هو رهان نتنانياهو وائتلافه اليميني، من قبل زيارته الولايات المتحدة ومن بعدها، على ما بات رهانه إنجاح صيغة انتهاج سياسة استيطانية جديدة، يجري بموجبها تنفيذ وإنجاز هذه السياسة بصمت ودون إعلان إسرائيلي، حتى في ظل استمرار التأزم مع الولايات المتحدة.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 5/نيسان/2010 - 19/ربيع الثاني/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ/1999- 2010م