أحيانا يعصف بنا الحماس ونتفاعل مع دوي المفرقعات المنبعثة من
براكين الخناقات السياسية, التي تفجرت حممها منذ أيام في بلاد النهرين
الناضبين من الماء, ونجد أنفسنا من حيث لا ندري متسمرين في مقاعدنا
أمام شاشات الفضائيات العراقية, نتابع ما تبثه من أخبار عاجلة, وحوارات
ساخنة, ونجد أنفسنا أحيانا أخرى مدفوعين برغبات كوميدية لمراقبة أداء
الفضائيات غير الحيادية, وبخاصة تلك التي تخلت نهائيا عن مهنيتها في
تغطية الحملات الانتخابية, نتفرج على أساليبها المكشوفة في التحريض,
ونضحك على طريقتها العجيبة في تشويه الأخبار وقلب الحقائق, ونندهش من
جرأتها في فتح أبواب الحوارات المنحازة, وخوض النقاشات غير المنصفة.
لدينا فضائيات متخصصة برفع ضغط الدم في شرايين المشاهدين, وأخرى
متفننة في ترويج البرامج الداعية للاحتقان والتأزم, والتلاعب بعواطف
الناس وانفعالاتهم, وصارت هذه الفضائيات معروفة بسعيها نحو تأجيج مزاج
الشارع العراقي, اما علامتها الفارقة فهي السبتايتلات الباطلة,
والعبارات غير المسؤولة, وهكذا تأرجحت في أدائها بين المواقف التهريجية,
والدعوات التأجيجية, والحملات الترويجية, وفوق هذا كله تصف نفسها
بالمستقلة, وتتظاهر بأنها غير متأثرة برياح الصراعات السياسية.
لكل فضائية من هذه الفضائيات طاقم من مدعي التحليل السياسي والخبرة
الإستراتيجية والأمنية, يفسرون الأمور على هواهم, وكأنهم يعرفون كل شيء
عن أي شيء, ولهذه الفضائيات طوابير من العناصر البشرية المشفرة,
والمدربة على لعب دور المتصل البريء في برامجها الحوارية, التي يفترض
أن تكون مفتوحة لعامة الناس, لكنها في حقيقتها مغلقة تماما, ومرتبطة
بسياسة الفوضى البناءة, ولن تسمع في حواراتها سوى ترديد العبارات
الببغائية المملة, ولابد لنا من الإشارة هنا إلى أرقام الهواتف المثبتة
على شاشة البرنامج, وهي أرقام يفترض أن تكون مفتوحة لتأمين الاتصالات
الخارجية المباشرة مع مدير البرنامج, لكنها في الواقع مجرد أرقام مغلقة
أو معطلة, وضعت لغرض التمويه والكشخة.
دفعني الحماس قبل بضعة أيام للاتصال بإحدى البرامج الحوارية
المفتوحة, وعبثا حاولت الاتصال بها, ولم أتلق منها أي رد غير صوت
المجيب الآلي يردد عبارة (الجهاز مغلق). كررت الاتصال عشرات المرات من
دون فائدة. حاولت الاتصال بفضائية عراقية ثانية وثالثة, وكانت الإجابة
في كل مرة (الجهاز مغلق), جربت الاتصال بفضائيات عربية من الصنف نفسه,
فلم افلح في التحاور معهم, فقد كانت جميع الأجهزة مغلقة, لكنها مفتوحة
حصريا للمكالمات المشفرة على الترددات الفكرية المنحازة, والاستقطابات
المريضة.
وتبقى هذه الفضائيات على اختلافها معلبة في صفائح البث المؤدلج, ولا
تفتح المجال لمن يفترض أن يتفاعلوا معها أو يشاركوا في إثرائها.
نحن نعلم علم اليقين بعدم وجود فضائيات محايدة مائة بالمائة حتى في
أكثر الدول تقدما وديمقراطية، ونعلم أيضا إن التنافس للسيطرة على
الفضاء الإعلامي, هو امتداد للصراع السياسي، وإن الفضائيات الموجهة جزء
من استراتيجيات الدول لتعبئة وتوعية الجماهير, ولفرض مكانتها دوليا,
وللتأثير على مواقف الخصوم. لكننا مازلنا نجهل سر تخبط بعض فضائياتنا
العربية, والعراقية على وجه الخصوص, وسعيها الحثيث نحو تكريس الأمية
الفكرية والسياسية.
فهل أصبحت فضائياتنا من أدوات سياسة التفكيك والتدمير والتشرذم ؟؟.
أم أنها اشتركت من حيث تدري أو لا تدري في سياسة (الفوضى البناءة),
التي ابتكرها زعيم الإرهاب الدولي (ديك تشيني) ؟؟, وهي السياسة
القائمة على نقل المعركة إلى قلب المجتمعات العربية من خلال توظيف
الإعلام في خلق مشاكل داخلية, عرقية وطائفية, تستنزف إمكانيات هذه
المجتمعات تمهيدا لإعادة بنائها من جديد, وبما يخدم المصالح الغربية.
ختاما نقول لهذه الفضائيات: حتى المشاهد البسيط صارت لديه محصلة
ثقافية تكفيه لفهم سياسة القنوات الموجهة والمسيسة, وصار يُدرك المرامي
السياسية وراء الخطاب الإعلامي, ويعرف كيف يستخدم الرموت كنترول في
تحديد اختياراته, وفي حذف الفضائيات المنغصة من شاشته المنزلية. وقرر
إغلاقها والتخلص من ثرثرتها, بعد أن صار متخما بها..
|