تكريس الفكر المؤسساتي وترويض السلطة

علي حسين عبيد/النبأ

 

شبكة النبأ: بنظرة سريعة إلى ما كان عليه المسار السياسي في العراق قبل عام 2003 وما أصبح عليه الآن سيكتشف المراقب البون الشاسع بين المسارين السياسيين السابق واللاحق، وحين نمر بمحطات المرحلة الجديدة، ونتفحص التجربة السياسية وملامحها وأبرز سماتها، فإننا سنتفق على الاصرار الكبير الذي أبداه المعنيون من العراقيين في ضرورة بل حتمية الانتقال من المسار السياسي السلطوي المتزمت الى مرحلة بناء المؤسسات السياسية المستقلة.

وكأي تجربة جديدة في مجال السياسة او غيرها، ستظهر معوقات وتداخلات جديدة جلها يصب في عرقلة التوجه الجديد، لذا كلنا عاش الصعوبات الجمة التي واجهت التجربة السياسية الجديدة، بيد أن الامر الذي نتفق عليه، ان العود الضعيف بدأ يقوى ويتصلب، وإنْ لم يبلغ أشدّه بعد، ونقصد بذلك النهج السياسي الجديد الذي أطلق عليه كثيرون بالنهج الديمقراطي التحرري.

من هنا كان لابد لسياسيي المرحلة الراهنة أن يدرسوا ويفهموا ويؤمنوا أيضا بملامح المرحلة الجديدة وأن يتعاضدوا على ترسيخها طالما أنها وضعت مبادئ التحرر والمشاركة وقبول الرأي الآخر كمؤشرات هامة تدل عليها وتبتعد بها عن أنهاج الحكومات المستبدة التي تعاقبت على حكم العراق.

وهذا يتطلب الانتقال (غير المفتعل) من مرحلة تعظيم السلطة الأحادية والانتماء لها بكل ما تحمله من أخطار، الى مرحلة ترويض السلطة وتسييرها وفق الارادة الحرة القائمة على قوة الفكر والعمل المؤسساتي المستقل، وبذلك نضمن مغادرة مرحلة التسلط العشوائي المستند الى منطق القوة الكاسرة، لندخل في مرحلة السلطة المؤسساتية التي تأخذ هيبتها وشرعيتها من قوة مؤسساتها الدستورية وليس العكس.

لقد أتيحت فرصة ذهبية للعراقيين ربما لا تتوفر لغيرهم في تجريب النهج السياسي الجديد الذي يعتمد تداول السلطة على نحو سلمي يتوافق عليه الجميع، وهذا ما أفرزته الانتخابات التشريعية التي جرت مؤخرا، وكما ذكرنا فإننا بحاجة الى إلقاء نظرة على التأريخ السياسي المنظور للعراق وما انطوى عليه من تحجيم لارادة الناس ومن بينهم الاحزاب السياسية التي لم تتوفر لها فرصة المشاركة في صنع القرار واستلام السلطات التنفيذية او غيرها، لنقارن ذلك بالدور الفعال لمعظم هذه الاحزاب وانفتاح الساحة السياسية أمام الجميع، وممارسة الأنشطة السياسية المختلفة التي لا تخضع لسلطة الفرد او الحزب او الكتلة السياسية الواحدة، الامر الذي يدلل لنا على الانتقال من مرحلة ترسيخ وتكريس وتعظيم السلطة الواحدة الى مرحلة تكريس وترسيخ السلطة الجماعية القائمة على مبدأ المشاركة والاتفاق وإرادة الناخب العراقي وما تتمخض عنه صناديق الاقتراع.

وليس من السهل أبداً أن ينتقل شعب اعتاد السلطة الفردية وتعامل معها بغياب التكافؤ المطلق لصالح الحاكم، الى مرحلة تقدس الصوت الانتخابي للناخب لتجعل منه المعيار الأهم الذي يحدد ملامح السلطة وطبيعتها، وإذا كان المواطن البسيط قد وعى هذه القفزة الكبيرة والتحول العظيم في المجريات السياسية، فإنه من باب أولى أن يفهم ويؤمن السياسيون ذلك، وأن يعملوا بقوة على تعظيم الفكر المؤسساتي وترسيخه واللجوء إليه كملاذ يحمي التجربة الديمقراطية الجديدة في العراق ويؤمنها من الزلل او السقوط في مستنقع الاهواء الفردية الباحثة عن السلطة العشوائية في عودة ليست محمودة قط الى نهج سلطوي بائس غادره العراقيون ليصبح في عداد الماضي.

إذن فملامح المرحلة الراهنة وتلك التي تلوح في الأفق تتطلب تعاضدا غير مسبوق بين جميع السياسيين اولا، والمثقفين والمصلحين وعلماء الدين ثانيا بل وكل من يهمه أمر الشعب العراقي، من اجل الايمان المطلق بانتهاء مرحلة الصراع العشوائي على السلطة، والعبور الى مرحلة السلطة المؤسساتية الشرعية التي تأخذ صلاحياتها من سلطة المؤسسات الدستورية لا غير.

ولا تنحصر هذه المهمة بالسياسيين لوحدهم، فإشاعة ثقافة الفكر المؤسساتي وتطويره وتحويله من منهج تنظيري الى حراك فعلي قائم على الارض منوطة بآخرين كرجل الدين الذي يمكنه المساعدة في تعضيد المسار المؤسساتي للسلطة، مثلما هو الحال مع جهات أخرى لها دورها في تنوير الناس وتوجيههم نحو المسارات الصحيحة ليس بالقول وحده، بل بتحويل الكلمات الى صور عملية متحركة وقابلة للتطبيق.

وهكذا يبدو أن مهمة تكريس الفكر المؤسساتي وتغليبه على السلطة يعتبر من أهم الخطوات التي ينبغي أن نتفق جميعا على تفعيلها وتطويرها وتحويلها من صيغتها الفكرية الى دور عملي له القدرة على درء مخاطر السلطة غير المقيَّدة.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 28/آذار/2010 - 11/ربيع الثاني/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م