السياسة عادة ما تُعرف بفن الممكن، أما الكتابة فإنها تعتبر فنًا من
فنون التأثير والتغيير في المجتمع. إذا كانت الكتابة للبعض تعتبر هواية
وتسلية، فهي لأصحاب الفكر والقلم مسؤولية ورسالة وأمانة. قد لا يسعفنا
في هذا المقام أن نسرد كم استطاعت بعض الكتابات الفكرية والسياسية أن
تؤثر في وعي الشعوب وفي مجرى التاريخ، وكم استطاعت بعض المقالات
والتحقيقات الصحفية أن تكشف الفساد، وتطيح بالحكومات والوزراء
والمسؤولين وأصحاب المال والمشاهير، وكم هي الأقلام التي تسببت في خلق
أزمات وصراعات واحتجاجات وقلاقل سياسية واجتماعية.
التاريخ وحده قد يتمكن من توضيح ما تركت تلك الكتابات الثقافية
والفكرية والسياسية من تأثير في حركة الشعوب، خاصة ما حدث في الماضي
القريب؛ ولذا نجد كيف سعت وتسعى الحكومات المستبدة، وتلك التي تبنت
الديمقراطية العرجاء في الهيمنة على منابع الفكر، وما تقوم به من تضييق
للخناق على أصحاب الرأي، ووضع للقيود على الصحافة والصحافيين، ووسائل
الاتصال كالإنترنت، وإيجاد حالة من الرقابة الذاتية في جسم الصحافة
وعقل الصحافيين.
قبل أسبوع التقيت بصديق، كاشفني بالقول: “إنني من المتابعين
لمقالاتك التحليلية بين حينٍ لآخر، ولي بعض الملاحظات، وأختمها بنصيحة
أتمنى أن تقبلها مني”. بدوري أعطيته الأمان لكي يبوح بما في صدره، وبعد
أن أبدى ملاحظاته، قدم لي النصيحة التالية: “أتمنى أن توجه بوصلة قلمك
نحو الشأن الداخلي... فقد طغى الشأن الإقليمي والدولي على قلمك، وأخذ
النصيب الأكبر من كتاباتك”، وختم حديثه بالسؤال التالي: “متى ستتفرغ
للشأن الداخلي وتنسى ما يدور في المحيط؟”.
ورغم سؤاله المبطن بشيء من اللوم والانتقاد، فإنني لم أتردد بتقديم
الشكر له على صراحته. وأوضحت لصاحبي أسباب اهتمامي بالشأن الفكري
والإقليمي والدولي، وأنني لم أهمل يوماً الشأن الداخلي، لقد كنت ومازلت
أتابع هموم الوطن لحظة بلحظة، بدليل ما أكتبه من الآراء والملاحظات
بالشرح والتحليل للقضايا الساخنة، وخاصة تلك التي تستحق الاهتمام
وإبداء الرأي حولها، وقد كشفت له بالأرقام عدد المقالات التي نُشِرت لي
في هذه الصفحة عن القضايا المحلية، والتي تربو عن الـ 40 مقالة، وقد
عاتبته لعدم متابعته للصحافة وما تطرح فيها من المواضيع بصورة جيدة.
في الواقع تلك الدردشة كانت سببًا في أن أبوح اليوم عما في خاطري من
أفكار حول الكتابة التي أصبحت صنعة مهمة لها فنونها، وأدواتها،
ومخططوها، وصنّاعها، فهذه الصنعة تُدرّس اليوم في أرقى الجامعات كإحدى
العلوم الحديثة، وقد فُتِحت لها فروع وتخصصات. الكتابة الصحفية بحاجة
إلى علم، ودراية، وتخصص، ومتابعة يومية. لا أعتبر الكتابة على شاكلة
(من كل بحر قطرة)، والثرثرة، وحشو الكلمات بأنها كتابة صحافية. الكاتب
يجب أنيصبح كالتاجر في سوق (الحراج) يبحث عمن يشتري بضاعته!! وفي الوقت
الذي أدعو فيه إلى ضرورة التخصص في مجال الكتابة، إن كان في الشأن
المحلي أو الخارجي، أرى ضرورة إيجاد حالة من الديناميكية والإبداع في
مجال الكتابة، وهذا بالطبع لا يتم إلا في ظل الحرية ومن خلال القراءة
الفاحصة، والمطالعة المكثفة، والكتابة المستمرة، والاطلاع على تجارب
الآخرين.
أعتقد أن الكاتب المتخصص في القضايا المحلية يختلف عمله عن ذاك
المتخصص في القضايا الاقتصادية أو السياسية أو الاجتماعية. وهؤلاء
جميعاً يختلف نطاق عملهم عن المتخصص في الشأن الإستراتيجي. الكتابة
النمطية والسردية تعتبر خاملة، وهي أشبه بالحياة الروتينية، والروتين
كما هو معلوم مُمل، وعادة ما يؤدي بصاحبه إلى الاكتئاب، فكم هي
الكتابات التي تخلق حالة من الاكتئاب لدى الُقرّاء والتي لا تغني ولا
تسمن من جوع.
باعتقادي، الكتابة فن من فنون التأثير والتغيير، فهي في الأساس
موهبة تصقل بالتجربة والممارسة، وكلما تمكن الكاتب من وضع عجلات قلمه
على السكة الصحيحة، وسار بمنهجية ورؤية واضحة، وخطّ قلمه وفق ما يملي
عليه ضميره كلما استطاع إيجاد تأثير أكبر في محيطه. |