الجدل المهذَّب وتأثيره في نشر الاجواء الايجابية

علي حسين عبيد

 

شبكة النبأ: يخطئ من يظن أن الإثارة المتعمّدة بين المتجادلين هي ملح الحوار كما يقول بعضهم، وما نقصده بالاثارة هنا هي تلك الآراء الحدّية التي تنبع من التطرف التام، وعندما نلقي نظرة متفحصة على طبيعة الحوارات التي تجري بين السياسيين او المحللين او المراقبين او غيرهم، فإننا قد نؤشر ظاهرة تراجع الجدل الهادئ مع أننا أحوج ما نكون إليه في المرحلة الراهنة التي نؤسس فيها لكل شيء صحيح بما في ذلك مادة الجدل وطبيعته أيضا.

ففي نظرة الى شاشة التلفاز وما تطرحه مختلف الفضائيات من برامج حوارية بين أطراف سياسية متعددة، متقاربة ومتقاطعة، سنلاحظ جملة من العلامات نستطيع من خلالها أن نحكم على طبيعة الجدل وأهدافه المعلنة والمبيّتة في آن، ولعل الحدة القاطعة في الرأي وحصر المجادل الآخر في زاوية الخطأ واتهامه بقصر النظر وضيق الافق وغيرها من الاتهامات، بالاضافة الى نبرة الصوت القاطعة والتشنج في القول وتقاطيع الوجه وحركات الأيدي معا، كلها علامات تنم عن الجدل السياسي غير السليم في كل الحالات.

فأنْ تكون مجادلا ذا صوت عال ورأي قاطع، لا يعني مطلقا أنك في الموقع  الصحيح، وأنْ تتمسك بتخطئة الآخر من دون أن تفسح له المجال الكافي للتعبير عن وجهة نظره المخالفة لرأيك، هذا أيضا لا يؤكد صحة ما تذهب إليه من آراء دون الآخرين، ومن بداهة القول أن الرأي الصحيح هو الذي يقوم على الدلائل والاسانيد العلمية العملية التي يتفق عليها الأكثرية من المختصين المتعمقين في هذا المجال المتجادَل حوله او ذاك.

إذن فصفة الهدوء والحكمة والصوت المهذَّب، هي الأقرب الى الاقناع من غيرها، كونها تشي بالثقة العالية بالنفس والايمان بالرأي المطروح ناهيك عن المجال الواسع الذي يتيح للآخر بمواصلة الجدل في أجواء رائقة تدل على تكافئ الاطراف حتى لو اختلفت مع بعضها.

ولكن كم من السياسيين الذين يطلّون علينا عبر شاشة التلفاز يوميا يتحلَّون بهذه الصفة ؟، وبهذه السمات الهادئة التي تفيد أكثر مما تضر، وتبني أكثر مما تهدّم، وتشيع أجواء الثقة بين السياسيين أكثر من تنمية حس المؤامرة وما شابه؟.

إن من يتابع جدل بعض السياسيين راهنا يستطيع أن يؤشر هذا الخلل ويمكنه أن يطلب من المتجادلين حكمة اكثر ونبرة صوت أرق ّ وثقة أعلى بالنفس وروحا (رياضية) تتحلى بالتهذيب والسماح للآخر بطرح رأيه حتى لو كان مناقضا له، فهذه السمات او الصفات هي من مؤشرات الاجواء المنفتحة المتحررة التي تتيح للجميع مجالات متساوية وواسعة لحرية الطرح ونمو الجدل المتبادل بالمسارات الصحيحة التي تصب في خدمة الجميع.

وبعكسه فإن التشنج في الموقف هو دليل على الفشل وربما خطأ الطرح، وأن الصوت العالي دليل على عدم القدرة على الاقناع والفشل في الرؤية والتعامل مع الآخر بمن فيهم المتلقي الذي يستطيع التمييز بين المتجادلين وآرائهم بمجسات الذكاء الفطري والعلمي.

لهذا بالامكان أن تسود لغة جدل هادئة هادفة متنورة وواثقة تضاهي أجواء التحرر شكلا وجوهرا، وتدعم التجربة السياسية الفتية التي يخوضها العراقيون، وتعطي لها زخما بالاتجاه الصحيح، كما أنها تبني قاعدة للجدل السياسي الصحيح بين الفرقاء وغيرهم، وتسهم في تسليط الضوء على المشهد وما خفي منه، ناهيك عن كونها مؤشرا مضافا يدل على نضوج السياسيين أنفسهم.

إذن فالجدل ليس عنصرا كماليا يمكن الاستغناء عنه او غض الطرف عن آلياته وكيفية إدارته، وربما يذهب البعض الى عدم تأثيره في بناء التجربة، بيد أن التجارب الأخرى كلها تشير الى أهمية هذا الجانب، كونه يعطي صورة عن طبيعة الجانب الخفي من المشهد او الحراك السياسي.

وكلنا يتذكر كيف يمكن أن تؤجج الحوارات والتصريحات النارية عناصر الصراع بين الآراء والاعتقادات المختلفة فتتحول من فضاء اللغة والكلمات المجردة الى ساحة الصراع المادي المتجسّد في الواقع، لذا مطلوب من المعنيين النظر بجدية الى هذا الجانب الجدلي الذي قد يبدو تأثيره المادي غير واضح للعيان، لكنه في حقيقة الامر يُعَدّ ركنا مهما من أركان بناء التجربة العراقية الجديدة التي ينبغي لها أن تنطوي على سمات وعناصر الجدل الحر المتبادل بين جميع الاطراف إستنادا الى قاعدة القبول والاحترام والمشاركة والابتعاد الكلي عن التحجيم والمصادرة.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 22/آذار/2010 - 5/ربيع الثاني/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م