حركة الدفاع عن حقوق الإنسان في التاريخ الإنساني, وعلى مر الأزمنة
والعصور, وفي كل الأمم والشعوب, جاءت لكي تعيد للإنسان إنسانيته
وكرامته وحقوقه، وتؤمن له الحياة الكريمة, وترفع عنه الظلم والقهر
والتعسّف، فقد عانى الإنسان كثيراً خلال مسيرته التاريخية الطويلة، وما
زال يعاني إلى اليوم من الحرمان والاستبداد وانعدام الحياة العادلة.
ومن قال إن تاريخ الإقطاع والاستعباد والقرون الوسطى قد ولت وانتهت
بلا رجعة! فقد شهدنا في منطقة البلقان مأساة البوسنة والهرسك، المأساة
الحزينة التي أعلنت عن موت العدالة في هذا العالم الصامت، وعن موت
الضمير الإنساني ونهايته، كما شهدنا في أفريقيا مأساة راوندا وهي قصة
مؤلمة من العذاب الذي لا يوصف لمجتمع فقير عذبه الفقر والجوع والمرض،
وهناك العديد من المجتمعات التي تذوقت مرارة المأساة.
وكم هو بليغ من القرآن الكريم حين يقول: (من قتل نفساً بغير نفس أو
فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس
جميعاً).
لهذا لا يسعنا إلا أن نحترم ونقدّر ونثمن كل من طالب ويطالب
بالعدالة والحرية والكرامة للإنسان في أي مكان وأي زمان, ومهما كان أصل
الإنسان وفصله ودينه ولونه ولسانه.
وما شهدته أوروبا في تاريخها الحديث من حركة للدفاع عن حقوق الإنسان،
فإننا ننظر لهذه الحركة أنها جاءت لكي ترفع عن الإنسان في هذه
المجتمعات ما أصابه من ظلم وقهر واستبداد ديني وسياسي وفكري, خلال
الفترة التي عرفت في الأدبيات الأوروبية بعصور الظلام أو القرون الوسطى.
وقد استطاعت هذه الحركة الحقوقية الفاعلة وبعد صراع الطويل، أن
تنتصر لمجتمعاتها, وتنهض بسلسلة من المواثيق والإعلانات التي جاءت
لضمان وحماية حقوق الإنسان في هذه المجتمعات.
ومن هذه المواثيق والإعلانات: إعلان العهد الكبير سنة 1215م، وبيان
الحقوق سنة 1627م، وقائمة الحقوق سنة 1688م في انجلترا، وإعلان استقلال
أمريكا سنة 1776م، وإعلان حقوق الإنسان والمواطن سنة 1779م، وإعلان
السنة الثالثة سنة 1793م، والإعلان المعدل سنة 1848م في فرنسا, وصولاً
إلى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي أقرته الجمعية العامة للأمم
المتحدة في 10 ديسمبر 1948م, إلى جانب العديد من الاتفاقيات والمواثيق
والمعاهدات الأخرى.
مع ذلك بقي الموقف الغربي والسلوك الغربي في مجال حقوق الإنسان,
موضع نقد ونقد شديد عند مختلف المجتمعات والثقافات غير الأوروبية, ولعل
من أكثرها وضوحا وديمومة النقد الموجه من المجال العربي والإسلامي, ومن
جوانب هذا النقد, ذلك الجانب المتعلق بالموقف من الدين, فهناك من يرى
أن فكرة حقوق الإنسان في الخطاب الغربي تتأسس على مرجعية فكرية تستبعد
الدين, ولا تقبل به أن يكون مصدراً في هذه المرجعية ومكونا لها, وهذا
بخلاف ما يراه الذين ينتمون إلى المرجعية الإسلامية.
وحين توقف الدكتور محمد عابد الجابري أمام هذه المسألة في الثقافة
الأوروبية, شرحها في كتاب (الديمقراطية وحقوق الإنسان) بقوله: من
المعروف في تاريخ الفكر البشري أن الدين هو الذي قدم ويقدم عادة
المرجعية التي تعلو على جميع المرجعيات, إن رد أمر ما من الأمور إلى
الله معناه تأسيسه على مرجعية كلية مطلقة لا يؤثر فيها اختلاف الثقافات
والحضارات، مرجعية تعلو على الزمن والتاريخ، وبالتالي على الإنسان نفسه،
أيا كان وأنى كان. فهل لجأ فلاسفة أوروبا في القرن الثامن عشر إلى
الدين في محاولتهم تأسيس عالمية حقوق الإنسان التي نادوا بها؟.
الواقع أنه بالرغم من أن نص إعلان الاستقلال الأمريكي قد وظف في
تقريره لحقوق الإنسان مفاهيم دينية صريحة مثل الخالق والحاكم الأعلى
للكون والعناية الإلهية، وبالرغم كذلك من أن إعلان حقوق الإنسان
والمواطن الذي أصدرته الجمعية الوطنية الفرنسية, قد أشار في ديباجته
إلى رعاية الكائن الأسمى ـ أي الله ـ إنه بالرغم من هذا وذاك، فإن
الدين لم يكن بصورة من الصور المرجعية التي تؤسس حقوق الإنسان تلك، لم
يكن الدين إذاً هو المرجعية الكلية العالمية التي أسس عليها فلاسفة
أوروبا، في القرن الثامن عشر، عالمية حقوق الإنسان التي بشّروا بها.
الإعلان العالمي لحقوق الإنسان
من جوانب النقد التي تسجل على الموقف الغربي في مجال حقوق الإنسان,
ما يراه البعض من أن جميع المواثيق والإعلانات التي صدرت في أوروبا
وأمريكا قبل الإعلان العالمي كانت موجّهة بصورة أساسية للإنسان
الأوروبي والغربي عموماً, والبداية الأساسية في طرح قضية حقوق الإنسان
على نطاق عالمي كانت مع صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الإعلان
الذي كان يراد له أن يحمل صفة العالمية, إلا أنه ظل يفتقدها حقيقة
وفعليا.
فلم يأخذ هذا الإعلان بعين الاعتبار التمايزات الفعلية بين ثقافات
وحضارات وأديان وهويات وتقاليد الأمم والمجتمعات الأخرى غير الأوروبية،
بل كان ينطلق من أحادية الثقافة والهوية, ومن نظرة أوروبا إلى نفسها
بوصفها تمثل المركز في هذا الكون ثقافياً وسياسياً واقتصادياً, والعالم
يدور في فلكها على أساس علاقة الأطراف بالمركز، وهي علاقة تكرس التبعية
والسيطرة.
وهذا ما ظلت ترفضه وما زالت الأمم والشعوب، وبالذات تلك التي لها
ثقافات وحضارات عريقة. ويكفي للدلالة على هذه الأحادية الثقافية أنه
حينما طالبت العديد من الدول أن يتضمن الإعلان العالمي حق تقرير المصير
للشعوب, رفضت الدول الأوروبية إعطاء هذا الحق, والإقرار به في الإعلان
العالمي, وهكذا في قضايا أخرى.
ومن جوانب النقد أيضا, هناك من يرى أن أوروبا التي نهضت بقضايا حقوق
الإنسان في مجتمعاتها، وظلت تفتخر أمام العالم بهذا الإنجاز الإنساني
والحضاري, الإنجاز الذي يستحق بلا شك التقدير والاحترام من العالم
برمته. أوروبا هذه التي أخرجت مجتمعاتها من عصور الظلام، عصور القرون
الوسطى، من القمع والإرهاب والاضطهاد بأشد قسوته، إلى عصور احترام
الإنسان وحقوقه, وفي مقدمة هذه الحقوق الحرية والمساواة, كان يفترض
منها أن تكون على درجة عالية من التقيد والالتزام باحترام حقوق الشعوب
وحقوق الإنسان في الأمم الأخرى غير الأوروبية.
وهذا ما لم يحدث على الإطلاق, فالصورة التي ينقلها لنا التاريخ
الحديث أن أوروبا تعاملت مع المجتمعات التي استعمرتها بمنطق القوة
والعنف, وكانت في غاية القسوة, وكأنها لم تتعرف بعد على شيء اسمه حقوق
الإنسان، حيث قامت بتدمير هذه المجتمعات, وتحطيم اقتصادياتها, وسلب
ثرواتها، وسرقت تراثها وكنوزها الأدبية والتاريخية, ومثلت أسوء وأخطر
ما عرفته هذه المجتمعات في تاريخها.
ومن هذه الشواهد القليلة جدا ما ذكره روجيه غارودي في كتابه (من أجل
حوار الحضارات) الصادر في مطلع سبعينيات القرن العشرين, حيث نقل لنا
المحاورة التي جرت في البرلمان الفرنسي خلال فترة استعمار فرنسا لبعض
المجتمعات الأفريقية (يسأل السيد كميل بيللوتان: ما هي تلك الحضارة
التي تفرض بطلقات المدفع؟
جول فيري: إليكم أيها السادة القضية، إنني لا أتردد في القول بأنها
ليست سياسة تلك، ولا هي تاريخ، إنها ميتافيزيقا سياسية.
أيها السادة: يجب أن نتكلم بصوت أعلى وأكثر صحة! يجب أن نقولها
صراحة، حقيقة إن للأجناس الأرقى حق بإزاء الأجناس الأدنى.. ـ هيجان في
مقاعد عديدة بأقصى اليسار.
السيد جول مينيو: أتجرؤون على أن تقولوا هذا في البلد التي أعلنت
فيه حقوق الإنسان!
السيد دي غيوتيه: هذا هو تبرير الاستعباد والاتجار بالعبيد.
جول فيري: إذا كان السيد المحترم مينيو على حق، إذا كان إعلان حقوق
الإنسان كان من أجل سود أفريقيا الاستوائية، إذاً بأي حق تذهبون لفرض
التبادل والاتجار المحرم عليهم؟ إنهم لا يدعونكم).
أوروبا التي نهضت بحقوق الإنسان في العصر الحديث, هي التي انتهكتها
وانقلبت عليها بأسوأ صورة تجاه الأمم والشعوب التي استعمرتها, وإلى
اليوم لم تعتذر أوروبا عن هذا التاريخ الأسود.
الموقف الغربي في الفصل بين القانون والأخلاق
من جوانب النقد العربي والإسلامي الذي يوجه إلى الموقف الغربي في
مجال حقوق الإنسان, ذلك الجانب الذي يتصل بمحاولة الغرب في أحيان كثيرة
توظيف شعارات حقوق الإنسان لأغراض سياسية واقتصادية لا علاقة لها
بالجوانب الإنسانية والقيمية والأخلاقية, خصوصاً في علاقته بالإسلام
والعالم الإسلامي، حيث يتجلى تحيّزه السافر، وبشكل يجعل البعض يشكّك في
مصداقية الغرب, وطريقة تعاطيه مع قضايا حقوق الإنسان.
وكثيرون في المجال العربي والإسلامي الذين تطرقوا إلى هذه الملاحظة
نقدا واعتراضا, ومن هؤلاء الشيخ محمد مهدي شمس الدين الذي شرح موقفه
بقوله: إن شعار حقوق الإنسان الذي يثار في السنين الأخيرة على نطاق
عالمي واسع, نلاحظ أنه أصبح يستعمل في كثير من الحالات ضد الإسلام
والمسلمين والعرب، وترفع هذه الشعارات في بعض الحالات دول غربية معينة
مثل الولايات المتحدة الأمريكية، أو بعض دول أوروبا الغربية، وفي بعض
الحالات تطرح هذه الشعارات منظمات دولية.
نحن نعتقد ـ والكلام للشيخ شمس الدين ـ أن كثيراً من هذه الطروحات
لا تستند إلى نيات حسنة, وإنما يقصد منها التشهير بالإسلام والمسلمين
والعرب، وممارسة ضغوط سياسية, أو التهديد بعمليات عزل سياسي للدول التي
تمارس بعض أفعال السيادة الاستقلالية في قرارها السياسي الإقليمي أو
الدولي، وحتى الداخلي في بعض الحالات.
والذي يحملنا على الاعتقاد بسوء النية هو أننا نجد هذه الدول
الغربية، وهذه المؤسسات الحقوقية ترفع هذا الشعار في وجه دول عربية
وإسلامية, وفي بعض الحالات تدين الإسلام نفسه, بينما هناك دول أخرى غير
إسلامية، وأيديولوجيات غير الإسلام تمارس بالفعل سياسات ضد مواطنيها أو
ضد دول أخرى, مخالفة أبسط الأعراف الإنسانية ولا تواجه بأي شيء من
الإدانة. وهناك أيديولوجيات أخرى لا تنسجم مع المفاهيم الغربية للإنسان
ولا نسمع عنها شيئاً, يذكر في هذا الباب مثلاً بعض الديانات الآسيوية،
مثل الديانة الهندوسية وموقفها من تقسيم طبقات البشر حسب الخلقة، أين
الإدانة لهذا وأين التشهير به؟ هذا التمييز في رفع الشعار وتطبيقه
يحملنا على الاعتقاد بأن هناك نية سيئة تجاه الإسلام والمسلمين.
ومن جوانب النقد كذلك, ما يحصل في الموقف الغربي من فصل بين القانون
والأخلاق في الرؤية لحقوق الإنسان، حيث يسمح بتشريع بعض القوانين
وإعطائها صفة الحقوق الطبيعية أو المكتسبة, لكنها تتنافى مع مبادئ
الأخلاق والفطرة الإنسانية، من قبيل القوانين التي تجيز للمرأة التصرف
المطلق بجسدها, واعتبار أن هذا الحق هو من الحقوق الشخصية, أو تلك
القوانين التي تجيز للرجال والنساء المعاشرات المثلية, وإعطائها صفة
الشراكة الأسرية.
ولا شك أن هذه الأنظمة والقوانين تتنافى ومبادئ الأخلاق, وتمقتها
الطبيعة السوية للإنسان, ولا يمكن أن تستقيم الحياة على أساس هذه
القوانين والتشريعات, وتجلب السعادة للناس.
هذه بعض جوانب النقد العامة المطروحة في المجال العربي والإسلامي,
على الموقف الغربي في مجال حقوق الإنسان، وهناك أيضا جوانب أخرى
تفصيلية اهتمت بها بعض الكتابات العربية والإسلامية التي اعتنت
بالمقارنة بين الخطاب الإسلامي والخطاب الغربي.
* باحث في الفكر الإسلامي والإسلاميات
المعاصرة
رئيس تحرير مجلة الكلمة
www.almilad.org |