قبل البدء في شرح حقيقة المعارضة والسبل التي تؤمنها لنا لضمان
الحرية وتحديد سياسة الدولة نذكر مقدمات:
أولاً: معنى المعارضة
إن كلمة المعارضة أو الخلاف في الرأي لايجب أن نتصورها كلمة تنطوي
على جملة من المعاني والمفاهيم السلبية التي تضر ولاتنفع؛ لأن المعارضة
لاتعني الافتراء والتهمة والإساءة وكل كلام جارح يحط من قدر الإنسان،
ويخرج عن موازين الحق والاعتدال، ولاتعني أيضاً إخفاء العداوات
والأحقاد والضغائن التي من شأنها تمزيق الأُمة وتحطيم أواصر الوحدة
والمحبة الدينية والوطنية بين الناس.
كما أن المعارضة لاتعني المخاصمة والصراع والمحاربة والمواقف
السلبية بين الأطراف السياسية التي تشغلها في صراعات هامشية تصرفها عن
البناء والتقدم والأعمال الإيجابية، وإلى غير ذلك من التعابير
والتسميات المذمومة التي يلصقها بها الحكام المستبدون من أجل التفرد
بالأُمور ومصادرة الحرية.
وإنما المعارضة تعني العمل والكفاح المتواصل في مراقبة أجهزة الدولة
ومتابعة مواقفها ومخططاتها ومحاولة توعية وإثارة الرأي العام دائماً من
أجل اليقظة على أُموره والتنبه لما يمر به من أحداث، ومايجب عليه من
مواقف، أي إن المعارضة تعني حماية الحرية وحقوق الشعب من خطر الاستبداد
والعدوان السلطوي الذي قد تسببه له سياسة الحكومة في غفلة من الشعب.
ثانياً: أقسام المعارضة
إن المعارضة تنقسم الى معارضة إيجابية ومعارضة سلبية، والمعارضة
التي يؤيدها الإسلام ويعتبرها حقاً طبيعياً يجب أن يتمتع به كل إنسان
هي المعارضة الإيجابية، بل وفوق ذلك يعتبرها فريضة على كل مسلم وإن
اختلفت تسميته لها، فمرة يصطلح عليها بالرأي والنصيحة، ومرة بالشورى
والمشاورة، ومرة بالأمر بالمعروف، وأُخرى بالتنافس والمنافسة، وهكذا.
والفرق الجوهري الذي يدعو الإسلام لأن يشرع مبدأ المعارضة الإيجابية
ويعتبرها ملزماً على المسلمين ولم يرتض المعارضة السلبية كمساو له أو
بديل عنه هو أن المعارضة الإيجابية تعني إبداء الرأي الخالص لوجه الله
دون هوى أو غضب وقصد الهدم والإحراج أو الانتقام وإشفاء الغليل، وإنما
إبداء الرأي والنقد الهادف إلى البناء والتقويم وتلبية مصالح الناس،
بينما المعارضة السلبية تعني المعارضة لذات المعارضة وبقصد الهدم
وإحراج الحاكم وتعطيل خططه ومشاريعه وغيرها من النوايا والأهداف التي
لم يقبل بها الإسلام غاية للنقد وحرية الرأي.
والمعارضة الإيجابية تعني توظيف الطاقات والإمكانات الفكرية
والخبروية في سبيل الحق وتوخي العدل والصلاح والخير للجميع في شكل
هيئات وجماعات تهتم لخدمة الصالح العام في الوقت الذي تعني المعارضة
السلبية أن يكون فريق من الناس المنغلقين على أنفسهم كل وظيفتهم هي
النقد والمعارضة بصفة دائمة لكل قرار أو مشروع إيجابي كان أو سلبي، أي
يكون ديدنهم الخلاف والمخاصمة حتى لو كانوا في قرارة نفوسهم مقتنعين
بفائدته للأُمة وخيره للوطن تعصباً وعناداً.
المعارضة الإيجابية تعني تحكيم القيم والمبادىء والأُصول الأخلاقية
في العمل السياسي بعيداً عن المصلحية والأنانية وحب الذات والدجل
والنفاق التي هي سمات المعارضة السلبية غالباً، وهي التي تقلب التنافس
الحر إلى صراع حقيقي وحاد تحدو به الغرائز والمصالح الشخصية على حساب
مصالح الشعب وأهدافه العليا، فإن من شأن المعارضة السلبية أنها تحول
المقاومة إلى انتقام، والتفاهم إلى عنف وإرهاب وتطرف في الآراء
والمواقف، بينما تتجسد المعارضة الإيجابية في خطوات سريعة وبناءة نحو
الهدف يسودها التوازن والاعتدال والجنوح إلى السلم.
ونحن لكي نسد أمام الديكتاتورية أبواب الفردية والتمرد والاستبداد
بالأُمور، ونسحب من يدها إمكانية القدرة على قمع الأصوات وتصفية
المعارضين بحجة اتهامهم بالسلبية والعنف والخروج على النظام لابد لنا
أن نعرف أيضاً متى تفتقد المعارضة شرعيتها السياسية وتصبح وجوداً خارجاً
عن القانون؟ وفي أي ظرف يحق للدولة أن تحظر المعارضة وتعتبرها مخالفة
للنظام؟
لاشك أننا لايمكن أن نقضي في الخصومة قبل معرفة أطرافها، كما لايحق
لنا أن نحكم على جهات المعارضة للدولة بأنها تدخل ضمن فصائل المعارضة
السلبية أو الإيجابية حتى نبيح حظرها أو لانبيحه مالم نشخص حقيقة
أهدافها ونواياها، ونتفهم مواقفها بعمق وروية ونظرة مجردة من التطرف
والميول السياسية الخاصة، وإلا لأصبحت تهمة السلبية أفضل وسيلة
تستخدمها السلطات الديكتاتورية من أجل قمع الشعب ومصادرة حرياته.
إن مبادىء الإسلام الحرة التي أكدت على أصالة الحرية في الإنسان في
كل أفعاله وأحواله لم تر أي حق للدولة يجيز لها حظر المعارضة أو
الغاءها بصورة مطلقة، كما لم تترك قضية حرية المعارضة مفتوحة وبلا
ضوابط أو قيود، وإنما انتهجت سبيلاً وسطاً يكفل لنا حرية الرأي والنقد
والمعارضة إلى جانب رعاية المبادىء وحفظ النظام، حيث أباح الإسلام عمل
المعارضة واعتبره حقاً مشروعاً للجميع، ولكن بشرط أن لاتحمل السلاح
وتهدد أمن الشعب بالفوضى والاضطراب وانعدام الأمن إلا عند الضرورات
القصوى، أو توفر الشرائط الموضوعية والشرعية الخاصة، أي إن الإسلام
يجيز كل أنواع المعارضة السياسية ما عدا المعارضة المسلحة فقط، لا
لأنها معارضة، بل لأنها بشهر السلاح تخرج عن دائرة المعارضة، وتصبح
ممارسة عدوانية ظالمة تعرض الشعب إلى الفتن والمخاطر، والإسلام يحارب
الظلم، ويمنع التجاوز بكل أشكاله.
إن الإسلام الذي يمنح الإنسان الحقوق والحريات كافة، ويطلق بيديه
الاختيارات المشروعة كافة من دون موانع أو ضغوط تحد من تصرفاته؛ لأنه
يعتمد اعتماداً كبيراً على يقظة الضمير ووازع الدين والتهذيب النفسي
والأخلاقي في تحديد سلوك الإنسان وأعماله، ولذلك فهو بعد أن يربيه
ويهذبه يبيح له الأشياء، وهو بذلك مطمئن عليه؛ لأنه مؤمن بأنه لو أراد
تجاوز المبادىء والقيم لكان في ضميره ووجدانه مايكفي في ردع الحكومة أو
عقوبة القانون عادة.
أما عندما يحظر عليه المعارضة المسلحة لا لأنه يريد تحديد حريته
عليه، أو تضييق دائرة اختياراته، بل لأن المعارضة المسلحة بذاتها ضد
الحرية واعتداء سافر على الأمن والسلام الاجتماعي، وهو بلا شك مما يجب
الوقوف أمامه والحد من أضراره وأخطاره؛ لأنه يدخل حينئذ في باب الدفاع
الذي هو حق مشروع للجميع.
ومن هنا كانت سياسة نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير
المؤمنين (عليه السلام) قائمة على الحريات المطلقة، وخصوصاً حرية
المعارضة، حيث واجهوا الكثير من الأعداء والخصوم السياسيين، ولاقوا
منهم أشد الفتن والمشاكل والمؤامرات الضخمة التي عرضتهما للقتل في كثير
من الأحيان.
وبالنتيجة أيضاً قتلوا معاً جراءها، ومع ذلك لم يقابلوا هذه المواقف
والأزمات بالعنف والقسوة والاستبداد، وأبيا إلا أن يتعاملا بالرحمة
والعطف والعفو والمغفرة، كما أبيا أن يستعملا معها أي أُسلوب يتنافى مع
كرامة الانسان وحريته.
المعارضة في الصدر الأول
ولو أردنا استقراء أبرز خطوط المعارضة التي كانت تقف في وجه رسول
الاسلام والتي كانت تتخذ طابعاً حزبياً يتطلع إلى تحطيم الإسلام
والمجتمع الإسلامي من الداخل، وتمثله فئات كبيرة منتشرة بين المسلمين
في داخل المدينة العاصمة السياسية لدولة الرسول (صلى الله عليه وآله
وسلم)، أو يشارف عليها من الخارج، لكانت تشكل أربعة تيارات مهمة هي:
1-تيار الكفار والمشركين الذي كان يمثل حزباً قوياً متحداً ومدعوماً
بقوة المال والسلاح، تجمعه الميول الجاهلية والعداوات والأحقاد الدفينة
ضد الإسلام ورسوله الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم).
2-تيار المنافقين، وكان يشكل خطراً كبيراً على الدين ودولته الفتية؛
لأنه كان يهدد الإسلام من الداخل أولاً، وثانياً لما كان يمتلكه من
عوامل وإمكانات خاصة تعينه على تحقيق أهدافه، وقد لمح القرآن الكريم في
سورة التوبة إلى بعض مخاطره.
فمن جهة أنه كان قد أعلن الإسلام، وتسلل في صفوف المسلمين يتمتع
بحقوقهم، ويتظاهر بالالتزام بمبادئهم، الأمر الذي كان يوفر لهم مجالاً
واسعاً للطعن بالدين والتحريض على الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
وتفريق المسلمين وتخذيلهم عن العمل برسالتهم ومسؤولياتهم الشرعية تجاه
دينهم ودولتهم، ومن جهة أُخرى أنه كان يمثل طابوراً خامساً للكفار
واليهود الذين لهم مصالح مشتركة في القضاء على الإسلام.
وفضلاً عن ذلك كانت بعض وجوه المنافقين لهم أطماع خاصة بالسلطة
والعودة بالدين إلى الجاهلية، وكان وراءهم حزب خاص يحمل نفس الأطماع
كالحزب الأُموي الذي كان يتزعمه أبو سفيان وأمثاله.
3-تيار اليهود الذي هو الآخر لم يقل خطراً عن الكفار والمنافقين إن
لم يكن أشد خطراً؛ إذ كان دائماً يستغل الظروف الحرجة التي تمر
بالمسلمين وخاصة أيام الحرب والتهديدات العسكرية ليخلق لهم المشاكل
والأزمات، ففي الداخل كان يستعمل سياسة التثبيط والدعاية المضادة لنشر
الرعب وإلقاء الهزيمة النفسية في قلوب المسلمين، وفي الخارج كان يحشد
جيوش الكفار والمشركين، ويجمع أكبر عدد ممكن من المقاتلين في سبيل
الوقيعة بجيش الإسلام، ويمدهم بالمال والسلاح وكل وسائل النصر الأُخرى.
4-بعض وجوه المسلمين أنفسهم من البسطاء والسذج وأصحاب الرأي الضعيف
الذين لم يدركوا جوهر الإسلام وأهدافه البعيدة السامية، حيث إن بعضهم
كان يحدو به الجهل والمصالح الشخصية لمعارضة النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) وخطواته السريعة المدروسة في سبيل بناء الدولة الإسلامية، أو
الحؤول دون تطبيق كل قراراته وأهدافه في ذلك على الأقل، كما حدث ذلك في
صلح الحديبية واعتراض بعض الصحابة على بنود الصلح وغير ذلك.
ومع كثرة هذه الخطوط المعارضة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
وتشعب أطرافها وأطماعها الكبيرة ومشاكلها الكثيرة التي كانت تسببها له
(صلى الله عليه وآله وسلم)، مع كل ذلك كان يواجهها بالحلم والصبر
والمداراة وحسن السيرة، ولم يذكر لنا التأريخ أنه قد استخدم في حقها
السيف، وسعى للقضاء عليها باستعمال الوسائل التي تتنافى مع الإنسانية
والمبادىء الإسلامية الحرة.
نعم، عندما كانوا يعلنون الحرب ويشهرون السلاح في وجه الإسلام كان
يصدهم دفاعاً، وكثيراً ماكان بعض المنافقين الذين يتظاهرون بالإسلام
يعارضون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بجارح الكلام وبذيئه تحت
اسم حرية الرأي التي كفلها الإسلام لهم، وهم لايقصدون منها إلا الهدم
والتشكيك ومحاربة الرسالة، ومع ذلك كان (صلى الله عليه وآله وسلم) ينهى
أصحابه عن التعرض لهم أو حتى إسكاتهم ومنعهم عن إبداء رأيهم والتفوه
بكلمتهم، وعندما يعترض بعض الصحابة على هذه السماحة ويطالب بإنزال
العقاب في شأنهم لأنهم يخفون شيئاً ويعلنون آخر يقول في ذلك قولته
المشهورة: ((لم أبعث لأشق عن قلوب الناس، وإنما كلفنا ظاهر أمرهم))
(1).
كما أن نفس الموقف كان يتخذه أمير المؤمنين (عليه السلام) تجاه
خصومه والمعترضين على حكمه بالرغم من كثرتهم وتطرفهم وشدة خطورتهم على
الإسلام والدولة الإسلامية، حيث واجه الإمام (عليه السلام) معارضة من
أشد أنواع المعارضة في التأريخ السياسي وأقساها، ولعلنا لانبالغ إذا
قلنا: إنه (عليه السلام) واجه جميع أقسام المعارضة المعروفة في
الصراعات السياسية بلا استثناء، وخاض معها صراعاً طويلاً وشاقاً لم يصل
إلى حد، خاصة وأنها كانت قد حملت السلاح وأعلنت الحرب، وبدت تهدد كيان
الدين والدولة معاً من الأساس، وبذلك مثلت أقوى نوع من أنواع المعارضة
السياسية التي يمكن أن تشهدها الدول.
المعارضة في وجه علي (عليه السلام)
لقد انقسمت معارضته (عليه السلام) إلى ثلاثة أقسام كلها خطيرة:
1-معارضة الخوارج، واتسمت بأنها معارضة مسلحة اتخذت من الدين مظهراً
لها، وبذلك لم تكن معارضة مسلحة فقط، بل معارضة دينية ومسلحة معاً.
2-معارضة معاوية والحزب الأُموي، وهي معارضة دنيوية متشددة تتطلع
الى تشكيل دولة قومية تحدوها النزعات القبلية والتعصب الفئوي بعيداً عن
الدين والقيم الروحية، وكان خطرها ينبع من أُمور:
أ-قاعدتها السياسية، حيث كانت تقف وراءها إمكانات دولة قائمة في
الشام.
ب-قدرتها العسكرية القوية.
ج-توظيف الدين ونحريفه وتسخيره من أجل تحقيق أهدافها، حيث لم تكن
تتورع عن اتخاذ أي وسيلة متاحة في سبيل ذلك، كالدهاء والدجل والكذب
والتضليل الفكري والإعلامي إلى جانب السيف والإرهاب والبذل المالي الذي
لم يكن ليقف عند حد.
3-معارضة طلحة والزبير وعائشة وبعض الصحابة أو أبناء الصحابة وغيرهم
من المتظاهرين بالدين الذين جمعت بعضهم أطماعهم الخاصة بالسلطة كطلحة
والزبير، وانضوى البعض الآخر تحت لوائها إما حسداً لمواهبه وقدراته
الفريدة (عليه السلام) أو للحقد القديم المغروس في صدورها تجاهه (عليه
السلام) منذ الأيام الأولى للإسلام.
ومهما كان سبب اجتماعها فإنها كانت معارضة خطيرة أيضاً، وخطورتها
ناشئة من كونها سياسية متلبسة بالدين تقودها زوجة رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) في حرب الجمل، ومع ذلك كانت سياسة الإمام (عليه السلام)
تتسم تجاهها بالحلم والرحمة والعفو والصبر على الآلام.
وبذلك بات واضحاً أن موقف الإسلام من المعارضة السياسية موقف صريح
وإيجابي، ويعترف بها كحق طبيعي مشروع لكل فئة يمكن أن تختلف آراؤها مع
آراء السلطة الحاكمة.
ونحن عندما نجد أن المعارضة السلبية مرفوضة في جميع الأنظمة
السياسية في العالم وحتى في الدول الديمقراطية الحرة, والتعامل بأقسى
أنواع المعاملة والعقاب, حيث يكون مصيرها في أكثر الأحيان السجن أو
الإبادة، في المقابل نجد أن الإسلام لا يكتف بالسماح لها بأن تعلن عن
رأيها حتى في الحالات التي تخرج بها عن رسوم الخلاف وأداب المعارضة بأن
يكون رأيها سلبياً أو عنيفاً يقوده التعصب إلى الهدم والتحطيم, بل
يتسامح معها أيضاً, وهي مسلحة تشهر السيف في وجه الحكومة, وأكثر من ذلك
يقابلها الحاكم الإسلامي الحق بالعفو والتجاوز والصفح حتى في لحظات
انتصاره واقتداره عليها.
ونحن هنا لانملك ألا أن نقدم لك مجموعة من الأدلة والشواهد على ذلك
لكيلا يبقى أدنى غموض قد يدعيه البعض حول موقف الإسلام من المعارضة
السياسية لكي نضع أمامنا الموازين المبدأية الصحيحة التي نقيس بها
مواقف الحكومات التي تحكم بلاد الإسلام اليوم تجاه المعارضة والحريات
السياسية، وفوق ذلك لكي نتعرف نحن على الوسائل والأساليب الحقة التي
وضعها بين أيدينا الإسلام والتي يجب أن نتبعها في معالجة الاختلافات
السياسية وأزمة المعارضة.
الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)
والمعارضة
ذكر المؤرخون أن أعرابي من بني سليم جاء إلى رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) فلما وقف بأزائة ناداه: يا محمد, يا محمد أنت الساحر
الكذاب الذي ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أكذب منك,
أنت الذي تزعم أن لك في هذه الخضراء إلهاً بعث بك إلى الأبيض والأسود
!! واللات والعزى لولا أني أخاف أن يسميني العجول لضربتك بسيفي هذا
ضربة أقتلك بها فأسود بك الأولين والآخرين، فوثب إليه أحد الصحابة
ليبطش به، فمنعه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من ذلك وقال له: ((اجلس
فقد كاد الحليم أن يكون نبياً)) ثم التفت النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) إلى الأعرابي وقال له بلطف: ((ياأخا بني سليم، هكذا تفعل العرب؟
يتهجمون علينا في مجالسنا ويجاهروننا بالكلام الغليظ، ياأعرابي والذي
بعثني بالحق نبياً إن من ضرّ بي في الدار الدنيا هو غداً في النار
يتلظى)) (2) واستمر (صلى الله عليه وآله وسلم) ينصحه ويرشده بلسان لين
ورقيق حتى أسلم الرجل، وصار داعياً إلى الإسلام في قبيلته.
وروت بعض نسائه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه دخل يهودي على رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: السام عليك – أي الموت عليك – ثم
دخل يهودي آخر وقال مثل ذلك، فغضبت الزوجة وقالت لهم: عليكم السام
والغضب واللعنة يامعشر اليهود ياأخوة القردة والخنازير، فمنعها من ذلك
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال لها: ((يافلانة، إن الفحش لو
كان ممثلاً لكان مثال سوء. إن الرفق لم يوضع على شيء قط إلاّ زانه، ولم
يرفع عنه قط إلاّ شانه)) (3).
وفي ذات يوم خطب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بتبوك، وذكر
المنافقين وذم أفعالهم، وكشف بعض سيئاتهم، فقال الجلاس وكان واحداً
منهم: والله، لئن كان محمد صادقاً فيما يقول فنحن شر من الحمير، فسمعه
عامر بن قيس فقال له: أجل، والله إن محمداً لصادق، وأنتم شر من الحمير،
فلما انصرف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة أتاه عامر
بن قيس فأخبره بما قال الجلاس، فأنكر ذلك وقال: كذب يارسول الله،
فأمرهما رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يحلفا عند المنبر،
فقام الجلاس عند المنبر فحلف بالله إنه ماقال ذلك، ثم قام عامر فحلف
بالله بأنه لقد قاله، ثم قال: اللهم أنزل على نبيك الصادق منا الصدق،
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنون: آمين فنزل جبرئيل
(عليه السلام) قبل أن يتفرقا بهذه الآية: (يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ
أَن تُنَزّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِ)(4)،
حتى بلغ (فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لّهُمْ )(5)، فقام الجلاس فقال:
يارسول الله، أسمع الله قد عرض علي التوبة، صدق عامر بن قيس فيما قال
لك، لقد قلته وأنا أستغفر الله وأتوب إليه، فقبل رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) ذلك منه (6).
مع المعارضة المسلحة
عن مجمع البيان للطبرسي في تفسير قوله تعالى: (يَحْذَرُ
الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ)(7)، الآية. قيل:
نزلت هذه الآية في اثني عشر رجلاً وقفوا على العقبة ليفتكوا برسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم) عند رجوعه من تبوك، فأخبر جبرئيل رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم) بذلك، وأمره أن يرسل إليهم، ويضرب وجوه
رواحلهم.
وعمار كان يقود دابة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وحذيفة
يسوقها، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) لحذيفة: اضرب وجوه رواحلهم
فضربها حتى نحّاهم، فلما نزل قال لحذيفة: ((من عرفت من القوم ؟)) قال:
لم أعرف منهم أحداً، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ((إنه
فلان وفلان حتى عدهم كلهم..)) فقال حذيفة: ألا تبعث إليهم فتقتلهم؟
فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): ((أكره أن تقول العرب: لما ظفر
بأصحابه أقبل يقتلهم))(8).
وعن جابر بن عبد الله قال: غزونا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) غزوة قبل نجد، فأدركنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في
واد كثير العضاة – وهي كل شجرة ذات شوك – فنزل رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) تحت شجرة فعلّق سيفه بغصن من أغصانها. قال: وتفرق
الناس في الوادي يستظلون بالشجر. قال: فقال رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم): ((إن رجلاً أتاني وأنا نائم فأخذ السيف فاستيقظت وهو قائم
على رأسي، فلم أشعر إلاّ والسيف صلتا في يده، فقال لي: من يمنعك مني؟
قلت: الله، ثم قال في الثانية: من يمنعك مني؟ قلت: الله.. فشام السيف
فها هو ذا جالس)) أي أشار إليه بين الجالسين، فلم يعرض له رسول الله (
(9).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ((نزل رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) في غزوة ذات الرقاع تحت شجرة على شفير واد، فأقبل سيل
فحال بينه وبين أصحابه، فرآه رجل من المشركين والمسلمون قيام على شفير
الوادي ينتظرون متى ينقطع السيل، فقال رجل من المشركين لقومه: أنا أقتل
محمداً، فجاء وشد على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالسيف، ثم
قال: من ينجيك مني يامحمد؟ فقال: ((ربي وربك)) فنسفه جبرئيل عن فرسه،
فسقط على ظهره، فقام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)وأخذ السيف
وجلس على صدره وقال: ((من ينجيك مني ياغورث؟)) فقال: جودك وكرمك يامحمد،
فتركه وهو يقول: ((والله لأنت خير مني وأكرم)) (10).
هذه الأخلاق السمحة والتعامل الإنساني الحر الذي كان يمارسه رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تجاه أعدائه ومخالفيه جعلت أعداءه
يعترفون أخيراً بفضله، ويشهدون على كماله وجلالة قدره، وحتى قريش نفسها
لم تزل تعترف له بالصدق والأمانة وكل فضيلة، حتى إن الأخنس لقي أبا جهل
يوم بدر فقال له: ياأبا الحكم، ليس هنا غيري وغيرك يسمع كلامنا فأخبرني
عن محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) صادق أم كاذب ؟ فقال أبو جهل: والله
إن محمداً لصادق، وماكذب محمد قط(11).
كما أن هرقل سأل يوماً أبا سفيان عنه (صلى الله عليه وآله وسلم)
فقال: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ماقال؟ قال: لا(12).
وقد قدمت لك عشرات القصص والروايات التي تكشف لك سر عظمة الرسول (صلى
الله عليه وآله وسلم)، وسر انتشار الإسلام وبقائه حياً إلى اليوم رغم
كل المؤامرات التي تحاك ضده.
علي (عليه السلام) والمعارضة
من الموارد التي تؤكد على احترام الإمام (عليه السلام) لخصومه
والاعتراف لهم بحق الرأي والكلام والمعارضة مارواه المؤرخون، وهو: أنه
لما ظهر الخوارج وأخذوا ينتقصون الإمام (عليه السلام) ويكفرونه ويقولون:
لاحكم إلاّ لله – وهي كلمة حق يراد بها باطل كما وصفها الإمام (عليه
السلام) – لم يتعرض لهم الإمام بسوء، بل كان يجري عليهم أعطياتهم من
بيت المال.
وقد أراد بعض أصحاب الإمام قتال هؤلاء بادىء الأمر وقبل أن يشهروا
هم السلاح، ولكن الإمام أبى عليهم ذلك، وأنكره وقال لهم: ((إن سكتوا
تركناهم، وإن تكلموا حاججناهم، وإن أفسدوا – أي شهروا السيف – قاتلناهم))
(13).
ولما انتهت حرب البصرة وظفر بعائشة المحرضة الرئيسية على الحرب
وأصحابها أكرمها وبعث معها إلى المدينة أربعين امرأة من نساء عبد القيس
عممهن بالعمائم، وقلدهن بالسيوف حتى تزعم القوافل أنهم رجال احتراماً
لعائشة.
ولما كانت ببعض الطريق ولم تكن تعلم أنهن نساء تأففت قائلة: هتك
ستري، ووكل بي الرجال، لكن النساء لم يظهرن لها أنهن نسوة، فلما وصلت
إلى المدينة ألقت النساء عمائمهن وقلن لها: إنما نحن نسوة(14).
ونحن نعلم أن أهل البصرة حاربوه ظلماً واعتداء، وشهروا السيوف عليه
وسبّوه، فلما ظفر بهم رفع السيف عنهم ونادى مناديه في أقطار العسكر:
ألا لايتبع مول، ولايجهز على جريح، ولايقتل مستأسر، ومن ألقى سلاحه فهو
آمن، ومن تحيز إلى عسكر فهو آمن(15).
ولم يأخذ الإمام أنفالهم، ولاسبى ذراريهم، ولاغنم شيئاً من أموالهم،
مع أنهم كانوا يستحقون ذلك في رأي الإسلام، بل أبى إلاّ الصفح والعفو
وقال: ((مننت على أهل البصرة كما منّ رسول الله على أهل مكة)) (16).
وخرجت عليه جماعة مسلحة من اليمن، وباتت تهدد أمن الناس بالخطر،
فكتب إليهم كتاباً يقول فيه: ((من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى من
شاق وغدر من أهل الجند وصنعاء، أما بعد، فإني أحمد الله الذي لاإله إلاّ
هو الذي لايعقب له حكم، ولايرد له قضاء، ولايرد بأسه عن القوم المجرمين،
وقد بلغني تجرؤكم وشقاقكم وإعراضكم عن دينكم بعد الطاعة وإعطاء البيعة،
فسألت أهل الدين الخالص والورع الصادق واللب الراجح... فحدثت عن ذلك
بما لم أر لكم في شيء منه عذراً مبيناً، ولامقالاً جميلاً، ولاحجة
ظاهرة، فإذا أتاكم رسولي فتفرقوا وانصرفوا إلى رحالكم أعف عنكم، وأصفح
عن جاهلكم، وأحفظ قاصيكم، وأعمل فيكم بحكم الكتاب، وإن لم تفعلوا
فاستعدوا لقدوم جيش جم الفرسان، عظيم الأركان، يقصد لمن طغى وعصى،
فتطحنوا كطحن الرحى، فمن أحسن فلنفسه، ومن أساء فعليها، وماربك بظلام
للعبيد)) (17).
ولعل من مواقفه العجيبة تجاه الخارجين عليه والمرتدين موقفه من
قاتله ابن ملجم، حيث إنه لما ضربه ابن ملجم أُتي به أسيراً فحبس في بعض
غرف البيت، وكان الناس يأتون إليه (عليه السلام) باللبن لأنه يدفع السم،
فكان إذا شربه يبقي فيه بقية ويقول لأولاده: ((احملوه إلى أسيركم))
(18).
وجيء إليه مرة بشربة وكان قليلاً فشربه كله، ثم قال لولده: ((اعلموا
أني شربت الجميع ولم أبق لأسيركم شيئاً من هذا، ألا وإنه آخر رزقي من
الدنيا)) ثم توجه إلى ولده فقال: ((بالله عليك يابني إلاّ ماسقيته
مثلما شربت))، فحمل إليه بقدر ذلك من اللبن فشرب (19).
وكان عليه الصلاة والسلام لايحد من حرية التجمع، ولايمنع من
المظاهرات والإضرابات الخارجة ضده، كما حدث ذلك عندما أغلق بعض أهل
الكوفة الدكاكين اعتراضاً على حكم من أحكامه.
وتكرر الحدث مرة أُخرى عندما عزل قاضياً من قضاة الكوفة ولم يرتض
بعض أهل الكوفة العزل، فخرجوا بتظاهرة شعبية في قصة مفصلة، ومع ذلك فإن
الإمام (عليه السلام) لم يتعرض لهم بسوء، وإنما اكتفى بالنصيحة
والإرشاد، ثم تركهم وشأنهم.
منطق الكلمة
وفي يوم خطب (عليه السلام) في الناس فقال:((سلوني قبل أن تفقدوني
فاني لاأُسأل عن شيء دون العرش إلاّ أجبت، لايقولها بعدي إلاّ مدع أو
كذاب مفتر)).
فقام رجل من اليهود من جانب مجلسه وفي عنقه كتاب كأنه مصحف فقال
رافعاً صوته: أيها المدعي مالايعلم، والمتقدم مالايفهم، أنا السائل
فأجب، فوثب إليه أصحاب الإمام من كل ناحية، وهمّوا لضربه أو قتله،
فنهرهم الإمام (عليه السلام) من ذلك، وقال لهم: ((دعوه ولاتعجلوا، فإن
العجلة والبطش لايقوم به حجج الله، ولابإعجال السائل به تظهر براهين
الله)) ثم التفت (عليه السلام) إلى الرجل وقال له: ((سل بكل لسانك
ومافي جوانحك فإني أُجيبك)) ثم سأله الرجل عن مسائل فأجابه، فحرّك
الرجل رأسه وقال: أشهد أن لا إله إلاّ الله، وأن محمداً رسول الله
(20).
وروي عن الإمام الحسن (عليه السلام) أن الأشعث بن قيس الكندي بنى في
داره مأذنة، فكان يرقى إليها إذا سمع الأذان في أوقات الصلاة في مسجد
جامع الكوفة، فيصيح من أعلى مأذنته: يارجل – يقصد الإمام (عليه السلام)
– إنك كاذب ساحر، فماذا كان رد فعل الإمام (عليه السلام) تجاهه ؟ كلمة
واحدة قالها في حقه لاغير، وهي ((إن الأشعث إذا حضرته الوفاة دخل عليه
عتق من النار ممدودة من السماء فتحرقه وقت وفاته، فلايدفن إلاّ وهو
فحمة سوداء)) (21). هذا كل رد فعل الإمام تجاهه.
فلما توفي الأشعث نظر سائر من حضره إلى النار وقد دخلت عليه كالعنق
الممدود حتى أحرقته، وهو يصيح ويدعو بالويل والثبور.
وهنا لو أردنا أن نسأل عن رد فعل أي حاكم آخر من الحكام تجاه هذا
المعارض المسيء هل كان غير التعذيب والإعدام أو السجن مدى الحياة على
أبسط الاحتمالات؟.
ثالثاً: ضرورة المعارضة
إن المعارضة السياسية ليست ترفاً فكرياً أو ممارسة على الهامش يتوخى
منها قضاء الوقت والتلهية الكلامية والمناقشات الفارغة في مسائل جانبية
لاتهم صميم المجتمع ولاواقع الحياة، كما هي ليست عملاً زائداً خالياً
عن الحاجة، بل وجوده يضر ولاينفع؛ لأنه يلتهم الأوقات، ويشغل الطاقات
ويصرفها في مهمات لاتمس حاجة البلد كما يدعي أنصار الديكتاتورية وأصحاب
المذهب الفردي، بل إن المعارضة ضرورة من ضرورات استقرار المجتمع وفلاح
الأُمة وتوازن السياسة واعتدالها، وخاصة في هذه الأيام التي يغيب فيها
الضمير والأخلاق والوازع الديني عن المسرح السياسي، ولم تبق أية حصانة
ذاتية يمكن أن تحد من تجاوزات السلاطين والحكام على شعوبهم.
إن كثيراً من الشعوب الإنسانية تقضي أكثر أيامها في ظروف عصيبة
يسودها القمع والكبت والإرهاب بكل أنواعه في ظل الانظمة الديكتاتورية،
وماذلك إلاّ لانعدام المعارضة المنظمة، كما أن الكثير من الحكومات
والحكام الذين يحملون أفكاراً ومبادىء وطنية ويهدفون إلى تقديم بلادهم
وتوفير حياة أفضل لشعوبهم، ويخطون من أجل ذلك خطوات كبيرة أو صغيرة
ولكن تصاب كل خطواتهم تلك بالسقوط والفشل، وماذلك إلاّ لانعدام
المعارضة القوية أيضاً، وهكذا.
وذلك لأن من المتفق عليه لدى علماء السياسة والاجتماع بل والذي
أثبتته التجارب السياسية للحكومات والدول والشعوب هو أن ضمان الحرية
السياسية للشعب ووصوله إلى كافة حقوقه وأهدافه وتمتعه في أجواء سياسية
مستقرة وآمنة – كل هذا – لايتم إلاّ:
أولاً: إذا كانت السلطة السياسية في البلد.
1-حقاً يمتلكه ويتطلع إليه الجميع.
2-موزعة بين عدة قوى وأطراف متنافسة.
3-معرضة للسقوط في كل آن يسيء أي طرف مالك لها استعمالها.
وثانياً: كما أن من الثابت لدى الجميع هو أن الأسلوب العلمي الناجح
لدراسة المسائل العميقة والبرامج والمشاريع التي تخص الدول والقرارات
السياسية الخطيرة التي تتعلق بمصير الشعوب وخاصة قرارات الحكم هو أن
تتداول بين عدة أطراف أو طرفين على الأقل، يتولى أحد الأطراف شرح
فوائدها، ثم يتولى الطرف الآخر شرح مضارها، وعلى باقي الأعضاء من
الطرفين أن يوازنوا بين الفوائد والمضار، ثم يختاروا الكفة الراجحة،
ويصوتوا لصالح المشروع أو ضده، وهذا الأُسلوب المتبع في أكثر المجالس
والبرلمانات التي تحكم الأنظمة الديمقراطية. ومن البديهي أن يكون
الجانب الذي يشرح الفوائد هو صاحب الخطة أو المشروع – الحكومة – وفي
مقابله الجانب الذي يشرح المساوىء والأضرار وهو المعارضة، وعلى هذا
الفهم المنطقي الصحيح لرسالة المعارضة وأهميتها تصبح المعارضة ضرورة من
ضرورات الحياة الاجتماعية والسياسية للحكومة والشعب، وبغيرها لايمكن
للحكومة والسلطة التنفيذية أن تتجنب الأخطاء في مشاريعها الكبرى أو
مواقفها السياسية.
رابعاً: صور المعارضة
أن حرية المعارضة السياسية لايستدعي أن تتخذ المعارضة لنفسها طابعاً
أو شكلاً معيناً، ولاصبغة خاصة، فالمعارضة بما أنها حق من الحقوق
السياسية للأفراد تحظى بقدسية خاصة واحترام في نظر الإسلام مادامت في
إطار الشرع والموازين العقلائية الصحيحة، ولايهم بعد ذلك سواء تجسدت
برأي فرد واحد أو جماعة سياسية أو مؤسسة دستورية أو صحيفة إعلامية
لافرق، فحتى الفرد له حق المعارضة والإدلاء برأيه في قبال الدولة.
حيث أقر الاسلام للجميع حق التجمع والاجتماع وتشكيل الأحزاب
السياسية وتكوين النقابات والتظاهر السلمي للتعبير عن الرأي من دون
حاجة إلى إجازة رسمية أو إخطار سابق للحكومة، كما أقر الإسلام للأفراد
حق تشكيل الجماعات والجمعيات وإصدار الصحف والمجلات التي تهدف إلى
مراقبة أعمال الحكومة ونقدها والاعتراض عليها بعيداً عن الخوف والتهديد
والإرهاب والقمع الحكومي.
بل يحث الإسلام على كل نوع من أنواع التنظيم والممارسة السياسية
التي وظيفتها مراقبة سياسة الدولة ومناشدتها بمطالب الشعب وردعها عن
الأضرار أو الإساءة إليه، قال تعالى: (وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمّةٌ
يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ
عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَـَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(22).
المعارضة السياسية
يعتبر اصطلاح المعارضة من الاصطلاحات الحديثة في علم السياسة، فمنذ
القديم وإلى فترة قريبة لم يكن اصطلاح المعارضة موضوعاً للتعريف
بالعناصر والفئات التي تختلف مع السلطة الحاكمة، كما لم تكن أيضاً
المعارضة متناولة في البحث الدقيق والتحليل الشامل من قبل أقلام
العلماء والمفكرين السياسيين. أما اليوم فأصبحت في متناول الجميع، حيث
تناولها أكثر المفكرين بالدراسة والتحليل، وبينوا أهميتها ودورها في
الحياة السياسية.
ومن المعلوم أن المعارضة كحقيقة ومفهوم يمكن أن تنشأ داخل كل جماعة
بشرية كالعائلة والتجمعات المهنية والمدارس والنوادي والنقابات وغيرها،
ولكننا نتناولها من الباب الذي يهمنا في هذا البحث وهو المعارضة
السياسية، أي القدرة التي تقوم بوجه السلطة الحاكمة في إطار الدولة.
فإن خلاصة ماتعنيه كلمة المعارضة هو عمل القوى والاتجاهات السياسية
ضد مصالح من هو في السلطة يمارس الحكم، ولكي تنشأ المعارضة كوجود سياسي
له مدلوله ومصداقيته في لعب دور مراقبة الدولة ونقدها والاعتراض عليها
يجب أن تتوفر عدة أُمور:
1-أن تكون للسلطة الحاكمة تركيبة حكومية وسياسية منظمة وواضحة لها
أُسس ومرتكزات ثابتة يعتمد عليها نظام الحكم، وبذلك تكون المعارضة
معارضة للسياسة التي تعتمدها السلطة الحاكمة في ممارسة الحكم ومخالفة
للخطط والمشاريع والتوجهات السياسية التي تتبعها السلطة.
ومن هنا فإن المعارضة السياسية بمعناها الحقيقي لاتنشأ عادة إلاّ في
المجتمعات التي تحظى بمستوى جيد من التطور والنمو، وبقدر لابأس به من
النظام، إذ إن المجتمعات البدائية قد تشهد تبايناً في الآراء والمواقف،
واختلافاً في الاتجاهات العامة لأبناء الشعب، إلاّ أن هذا التباين
والاختلاف لايمكن أن نسميه معارضة سياسية كتلك التي نقصدها هنا والتي
يتحدث عنها علم السياسة إلاّ عندما تقوى بنية المجتمع، وتشتد تركيبته
الإدارية، وتقوم فيه علاقات وروابط سياسية متبادلة، بحيث يتطلب الأمر
إلى تكوين دولة ونظام للحكم. في هذه الحالة فقط يمكن أن نسمي
الاختلافات الناشبة فيه حول جهاز الحكم بأنها معارضة بالمعنى المصطلح.
2-أن تكون المعارضة ناشئة في الأجواء الديمقراطية، وتتمتع بقدرات
كافية للإعلان عن نفسها والتحدث بآرائها ومواقفها من دون تخوف أو حذر،
وأما الكفاح المتواصل الذي قد يمارسه أبناء الشعب ضد السلطات بصورة
سرية وبعيداً عن الأضواء فإنه لايسمى معارضة اصطلاحاً، بل تحدياً
ومقاومة.
3-أن المعارضة تقتضي أن تتمتع بإمكانات كافية لمراقبة سياسة الدولة،
وتمتلك الوسائل والادوات فضلاً عن الفرص التي تهيىء لها أسباب الاطلاع
على آراء المسؤولين وقرارات الحكومة ونتائج مشاريعها وخططها المرسومة
لإدارة البلاد؛ ولذلك فانها يجب أن تملك الصحف والمجلات ومراكز التوعية
والتثقيف والاذاعة والتلفاز وغيرها من وسائل الرقابة والإعلام.
4-أنها تقتضي النقد المنظم الذي تقوم به مجموعة من الأشخاص أو مؤسسة
أو جماعة أو حزب تجمعهم رؤية واحدة حول الطريقة التي يجب أن يمارس بها
الحكم، ولذلك فإن الانتقادات الفردية التي قد يوجهها بعض الأفراد
والعناصر إلى السلطة لايصدق عليها أنها معارضة اصطلاحية، وهذا لايعني
طبعاً أن النقد الفردي لاأهمية له ولادور له في صناعة الرأي العام
باتجاه تعديل سياسة الحكومة، فهو حق من حقوق المواطن، بل هو تعبير عملي
صادق عن حرية الرأي وحرية التعبير التي تنص عليها الشريعة الإسلامية
وشرائع حقوق الإنسان الحديثة.
ولعل هذا هو الفارق الجوهري بين مبدأ حرية الرأي ومبدأ حرية
المعارضة مع اتفاقهما في أصل الدور والوظيفة، وهو أن المعارضة تتخذ لها
طابعاً فئوياً منظماً بينما يبقى الثاني في إطاره الضيق المحدود.
ومن هنا فإن المعارضة ليست في الحقيقة سوى تعبير عن حقوق المواطنين
السياسية، وعلى الأخص حق التجمع والتنظيم والممارسة السياسية للحد من
تجاوزات السلطة الحاكمة ولكن بصورة منظمة وجماعية.
وبذلك يصح أن نقول بأن المعارضة لاتختص بجماعة أو كتلة معينة، بل
تتسع وتكبر لتشمل كل الجماعات التي لها أهداف سياسية واضحة ومكشوفة،
والتي تملك حق الممارسة السياسية والقدرة على إعلان وجهات نظر ومواقف
مغايرة لوجهات نظر ومواقف السلطة الحاكمة في جو ديمقراطي مفتوح.
5-أن المعارضة لم تتوقف عند حد النقد والاعتراض فقط، بل غالباً تهدف
الوصول إلى السلطة، أي استلام السلطة الذي هو الآخر العنصر الأساس الذي
يتدخل للتمييز بين التنظيمات السياسية المختلفة وخاصة بين الأحزاب
السياسية والجماعات الضاغطة، فإن الأحزاب تنشأ من أجل تحقيق أهداف
سياسية معينة والتي أبرزها الوصول إلى السلطة، بينما الثانية أي القوى
الضاغطة تنشأ لتحقيق مصالح خاصة ومحدودة لطائفة معينة من الناس؛ ولذلك
فإنها لو طمحت يوماً بالتوسع والشمول في العمل السياسي فان آخر ماتفكر
به هو استلام السلطة.
ومن الواضح أن المعارضة لاتقتصر على الأحزاب السياسية والمؤسسات
الدستورية فقط، وإنما تشمل كل جماعة لها تأثير أو يمكن أن يكون لها
تأثير على الأوضاع السياسية كالنقابات وجماعة اللوبي والنوادي
والمنتديات، سوى أنها بعكس الأحزاب لاتعمل من أجل استلام السلطة.
وظائف المعارضة السياسية
يعترض أنصار الديكتاتورية والفردية على وجود المعارضة كأُسلوب منطقي
حكيم يقسم السلطات، ويحفظ توازن القدرة في الدولة، ويقولون: ماهي
الفائدة من وجود المعارضة السياسية في البلد الذي تقوم فيه الحكومة
بمهامها القانونية، وتلتزم بمسؤولياتها تجاه الشعب، فتلبي له حاجاته
وتكفل له حقوقه ؟
والجواب على ذلك: هو أن المعارضة السياسية تقوم بعدة أدوار ووظائف
استراتيجية مهمة لاغنى للشعب عنها من أجل الحفاظ على التوازن الداخلي
لنظام الحكم والحيلولة دون انفلات الحكم عن المبادىء الديمقراطية الحرة
التي تخدم الشعب والجنوح نحو الاستبداد الذي يحطم الشعب، ويلغي وجوده
بالكامل، ولعلنا يمكن أن نلخص أهم أدوار المعارضة بالنقاط التالية:
1-الدور الإعلامي، حيث تقوم المعارضة بكشف الخلل والانحراف الناشىء
في نهج وسياسة الحكومة؛ إذ تميل السلطات الحاكمة بطبيعتها إلى التغطية
على الأحداث وتدليس الحقائق فضلاً عن إظهار الصورة المشرقة عن أعمالها
ومواقفها الخاصة، والإعلان عن النجاحات والانتصارات التي حققتها
سياستها.
وفي كثير من الأحيان تقوم بتضخيم النتائج وإعطائها حجماً أكبر من
حجمها الحقيقي في مقابل إخفاء مواطن النقص والفشل والسلبيات الكبيرة
الناتجة عن هذه السياسة أو تصغيرها إلى درجة يسهل قبولها على الناس.
وفوق ذلك فإن في أكثر الحالات التي تتحكم الظروف بالسلطة الحاكمة
إلى درجة لاتستطيع معها إخفاء النتائج السلبية التي أفرزتها سياستها
الفاشلة يبقى في مقدورها إيهام المواطنين بأن السلبيات كان مقدراً لها
أن تكون أكبر وأخطر، وبالخصوص لو كانت المعارضة تدير دفة الحكم ويعينها
على ذلك احتكارها لوسائل الدعاية والإعلام وتكبيل الأطراف المقابلة
ومنعهم من الرأي وحرية الكلام.
وهنا يكمن الدور الأساسي للمعارضة السياسية؛ إذ تبدأ بإثارة القضية
وتسليط الأضواء الكاشفة عليها بما تمتلكه من وسائل وإمكانات، وبيان
نقاط ضعفها التي تسعى الحكومة للتغطية عليها، ومن ثم توجيه النقد إليها
مباشرة، وبيان العلل والأسباب التي أدت بها إلى الفشل، وهل هناك تقصير
أو تقاعس من قبل الحكومة عن القيام بواجباتها كما كان يجب؟ ومن ثم
الضغط على الحكومة عبر قلب الرأي العام عليها بغية تصحيح مسار عمل
الحكومة أو إسقاطها نهائياً لو أصرت على الأخطاء.
2-الدور التوجيهي، وهو دور إيجابي تسديه فئات المعارضة الى الدولة
من أجل الاستمرار في الحكم؛ إذ ينبه السلطة الحاكمة عن مواقفها الخاطئة،
ويكشف لها ردود الأفعال الحاصلة عند المواطنين تجاهها، وهذا يكفي في أن
يجعلها على معرفة تامة بمطالب الشعب ومواقفه مع الدولة، ويعرفها على
اتجاهات الرأي العام المختلفة فيه الذي هو من المسائل المهمة التي
لايمكن أن تحصل عليه السلطة بسهولة إلاّ من خلال المعارضة عادة.
3-دور المراقبة والمحاسبة، وهو وظيفة أساسية للمعارضة تقوم به في
الأنظمة الديمقراطية، وخاصة في المجلس النيابي أو البرلمان حيث تكون
السلطة الحاكمة مسؤولة عن أعمالها تجاه المجلس عندما يقدمها للمحاسبة.
ومن الواضح أن محاسبة الحكومة لايمكن أن تتم عادة إلاّ من قبل
المعارضة، فالمجلس الذي لايشهد معارضة فاعلة لسياسة الدولة تغيب فيه
عملية رقابة الحكومة أو محاسبتها أيضاً، ويصبح آلة طيعة تستخدمها
السلطة للوصول إلى أهدافها، وعلى أي حال فإن وجود المعارضة السياسية
للدولة يشكل عاملاً مهماً يضمن لنا سلامة النظام السياسي ومنهج الحكم
بعيداً عن الفردية والاستبداد، ولافرق في ذلك سواء كانت المعارضة داخل
البرلمان أو خارجه؛ وذلك لأن نشاطات المعارضة داخل الدولة يكفل لنا:
1-الضبط والمحاسبة في قرارات الدولة ومواقفها السياسية لكي تتجنب
مزالق الخطأ والاشتباه مهما أمكن؛ وذلك لأن وجود المعارضة كجهاز حي
يراقب خطواتها وينقدها أو يفضحها أمام الرأي يمكن أن يعرض السلطة
الحاكمة في أي لحظة إلى السقوط أو الهزيمة.
2-الحد من التطرف والتشديد الذي قد تمارسه الحكومة بحق الشعب
والأطراف المنافسة لها في السلطة، والقضاء على سياسة التكبر والاستعلاء
والتمادي في الديكتاتورية، فان الوظيفة السياسية التي تتحملها المعارضة
تجاه توعية الرأي العام وإثارته نحو قضاياه المصيرية من جهة، والحق
الشرعي الذي تتمتع به المعارضة في محاسبة السلطة في أي وقت واتجاه أي
قضية شاءت من جهة أُخرى يمنح السلطة حصانة كافية نسبياً لتجنب مخاطر
الاستبداد؛ توقياً من لحظة المحاسبة وفقدان الرأي العام كقوة وسند
تستمد منه شرعية وجودها على السلطة.
3-مصداقية الرقابة، فإن الدولة التي تتغيب فيها المعارضة يتغيب فيها
الدستور أيضاً تصبح فيها عمليات الرقابة وقانونية أعمال السلطة وهماً
أو هراء، بينما وجود المعارضة وحضورها في المسرح السياسي هو كفيل بأن
يعطي للرقابة السياسية مصداقيتها، كما يكشف أيضاً عن وجود الشرعية
وحكومة الدستور. هذه أبرز الأُمور التي يكفلها لنا وجود المعارضة في
البلد.
نجاح المعارضة السياسية
ولكن كي تتمكن المعارضة من أن تتكفل لنا فعلاً بكل هذه الأُمور لابد
أن يتوفر فيها شرطان:
الأول: أن تكون المعارضة قوية وفاعلة، ويعرف مدى فاعليتها من خلال:
أ-أن تتصدى لإسقاط الحكومة فعلاً فيما إذا قصرت عن إدارة البلد
بالصورة الصحيحة، أو عجزت عن إنجاح خططها المرسومة بالشكل المطلوب،
وهذا يستدعي منها أن تكون قادرة على التأثير في صناعة الرأي العام أو
تكوين أكثرية برلمانية تساندها في طلبها، وقادرة على تشكيل حكومة تتسلم
زمام السلطة بديلاً عن السلطة القائمة.
أما المعارضة التي لاتصل طموحاتها أو قدرتها إلى التصدي لإسقاط
الحكومة وكسب آراء الأكثرية فإنها تكون معارضة جامدة تفتقد إلى
الفاعلية والتأثير، وهي بهذا المستوى من القدرة ربما تؤدي إلى تحطيم
الديمقراطية وسلب البرلمان السلطة القوية على فرض الرقابة على الدولة
أو محاسبتها؛ لأن من الواضح أن المعارضة الضعيفة لاتؤمن للشعب أية
رقابة مطلوبة، وإذا أمنت فلاتتعدى عن كونها رقابة شكلية لاقيمة لها،
وهذا مايحرر الحكومة عملياً من رقابة المجلس النيابي، ويجعلها طليقة
تتصرف وفق رغبات ومصالح أعضاء الحكومة نفسها لارغبات الشعب.
ب-أن تتفق أطراف المعارضة فيما بينها على هدف موحد؛ لأن اختلاف
الأهداف من شأنه أن يضعف المعارضة، أو يشغلها في مجادلات هامشية تخلي
الساحة السياسية للسلطة الحاكمة لأن تفعل ماتشاء؛ إذ من الممكن أن
تواجه السلطات نوعين من المعارضة:
1-معارضة كلاسيكية أو سطحية، وهي تعمل فقط لتغيير بعض اتجاهات
السياسة التي تتبعها الحكومة، ولادخل لها بأُصول السياسة والمرتكزات
الأساسية التي يعتمد عليها النظام القائم.
2-معارضة أيدلوجية أو جذرية، وهي تطمح لإجراء تغييرات أساسية وعميقة
في أُسس البنية السياسية القائمة.
فان وجود هذا التباين الكلي في مواقف المعارضة واتجاهاتها من شأنه
أن يزيد من قوة الحكومة، ويساعدها على تحقيق أهدافها والقضاء على
الأجواء الديمقراطية في البلد، فالمعارضة الكلاسيكية تتردد في محاسبة
الحكومة لكيلا تنساق وراء أهداف المعارضة الأيديولوجية وأهدافها
السياسية، كما أن المعارضة الأيديولوجية هي الأُخرى يفقدها القوة
الكافية للاعتراض على السلطة أو التطلع للحلول محلها، وبذلك تزول عملياً
أو تتضاءل مراقبة الحكومة من قبل البرلمان أو غيره، وبالتالي سيكون
التفكير في محاسبة الفريق أو تبديله أمراً لاجدوى فيه في بعض الأحيان.
الثاني: أن تحتل المعارضة موقعاً كبيراً في نفوس الشعب، بحيث يتطلع
اليها الناخبون على أنها حكومة المستقبل التي يمكن أن تلبي حاجاته
وتحقق أهدافه، وهذا يستدعي أن لاتكتفي المعارضة بتوجيه الانتقادات وفضح
سلبيات السلطة الحاكمة، وإنما يجب أن تصوغ هذه الانتقادات في برنامج
سياسي متماسك تخوض على أساسه معركة إسقاط هذه السلطة أو تعديل مناهجها.
وبعبارة أدق يجب على المعارضة أن تقدم للمواطنين برنامجاً سياسياً
للتغيير البناء ليكون بديلاً عن سياسة الحكومة التي وضعتها المعارضة في
معرض الفشل، وبذلك لاتبقى مواقف المعارضة قضية طموح تتطلع إليه في
الوصول الى السلطة من أجل التنعم بخيرات السلطة وامتيازات الحكم، وإنما
تصبح خطوة إيجابية وبرنامج عمل مشبع وكامل يسعى لتنفيذ سياسة عادلة
ومتوازنة بديلاً أفضل يتناول مختلف نشاطات الدولة.
ومن هنا يتوجب على المعارضة أن تراعي مسألتين لدى صياغتها المشروع
الجديد هما:
الأولى: توخي الواقعية والاعتدال في رسم بنود المشروع لكي تبقى
متحفظة على دعم الشعب، وبعبارة أُخرى يجب أن تتجنب المغالاة في
المثالية التي تقود المعارضة إلى الكذب والتضليل أحياناً أو إغداق
الوعود إلى المواطنين، وهي وعود لايمكن تحقيقها عملياً بصورة كلية أو
القسم الأكبر منها.
الثانية: التجديد الحسن في برنامجها المطروح كبديل لمشروع الحكومة،
فإن من أكبر الأخطار التي تواجه المعارضة هو تقديمها لبرنامج سياسي
شبيه أو مقارب إلى برنامج الحكومة إن لم يكن أسوأ منه، الأمر الذي يفقد
الناخبين الشعور بضرورة التغيير، فلايعد متحمساً ضد السلطة الحاكمة من
أجل أن يستبدلها بسلطة المعارضة؛ وذلك لأنه لم يجد فارقاً كبيراً
يستدعي أن يغير نظام الحكم من أجله.
* فصل من كتاب الحرية السياسية
** استاذ البحث الخارج في حوزة كربلاء
المقدسة
...............................................
(1) المحلى: ج4، ص51-52.
(2) البحار: ج 43، ص 70، ح61.
(3) مستدرك سفينة البحار: ج4، ص 176-177.
(4) التوبة: 64.
(5) التوبة: 74.
(6) البحار:ج 17، ص 183.
(7) التوبة: 64.
(8) مجمع البيان: ج5، ص81.
(9) انظر صحيح مسلم: ج7، ص62 ؛ صحيح ابن حبان: ج1،
ص399.
(10) الكافي: ج8، ص127، ح97.
(11) الشفا بتعريف حقوق المصطفى: ج1، ص135.
(12) المصدر نفسه.
(13) الإيضاح: ص 474.
(14) البحار: ج41، ص145 ؛ ينابيع المودة: ج1، ص450.
(15) شرح نهج البلاغة ((لابن أبي الحديد)): ج1، 23..
(16) شرح أصول الكافي: ج12، ص234 ؛ الاحتجاج:ج1،
ص278؛ البحار: ج32، ص329.
(17) شرح نهج البلاغة ((لابن أبي الحديد)): ج2، ص5.
(18) الأنوار العلوية: ص 381 -382.
(19) البحار:ج 42، ص 290.
(20) انظر الأنوار العلوية: ص 80.
(21) سليم بن قيس: ص 214.
(22) آل عمران: 104. |