مراتب التوحيد في (الصَّمد)

آية الله السيد مرتضى الحسيني الشيرازي

الحمد الله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا ونبينا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد، وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم..

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)[1]

ويقول الإمام الباقر (عليه الصلاة وأزكى السلام) وهذه أيام شهادته: (لو وجدت لعلمي الذي آتاني الله (عزوجل)، حملةً، لنشرتُ التوحيد، والإسلام، والإيمان، والدين، والشرائع؛ من (الصمدّ).. وكيف لي بذلك ولم يجد جدّي أمير المؤمنين (عليه صلوات المصلين) حملة لعلمه)؟[2]

ومفاد كلام الإمام  (عليه السلام): لو وجدتُ لعلمي الذي آتاني الله (عزوجل) ، حملةً، لنشرت هذه المفاهيم والحقائق الخمسة التكوينية والتشريعية، في أصول الدين وفروعه، وهي (التوحيد، والإسلام، والإيمان، والدين والشرائع)، من كلمة (الصمدّ)، في سورة:( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴿1﴾ اللَّهُ الصَّمَدُ).[3]

في البحث الماضي تحدّثنا حول بعض الدروس، والقواعد الإدارية التي ربما تُستفاد من هذه الآية الشريفة: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)، وهي:

أولاً: قاعدة وضرورة تحديد الهدف..

ثانياً: ضرورة وضوح الهدف..

ثالثاً: ضرورة أن يكون الهدف المنتخب، هو أسمى هدف ممكن أن يصل إليه الإنسان..

رابعاً: ضرورة تذكر وتحديد الفلسفة من الهدف أيضاً، أو الهدف من الهدف..

وهناك قواعد إدارية أخرى يمكن أن تُستفاد من هذه الآية القرآنية الشريفة نتركها لوقت آخر.. وهناك سلسلة من القواعد، والمسائل الكلامية، وسلسلة أخرى من القواعد، والمسائل الفقهية، وسلسلة من المسائل، والقواعد الأخلاقية، التي يُمكن أن تُستنبط من هذه الآية القرآنية الكريمة، أيضاً..

وفي هذا البحث نتحدث عن بعض القواعد الكلامية، والتي ترتبط بشؤون العقائد التي تستفاد من هذه الآية القرآنية الكريمة، وليس لنا مجال لاستيعاب البحث حول القواعد الكلامية إلا كإشارة..

هذه الآية الشريفة والتي سوف نربطها بالإمام الباقر (عليه الصلاة وأزكى السلام) لأن شهادة الإمام الباقر  (عليه السلام) في السابع من ذي الحجة، فكان من المناسب أن نتحدث عن الإمام الباقر، إلا أننا أطَّرنا الحديث عنه (صلوات الله عليه) بإطار هذه الآية الشريفة، فالحديث هو حديث متسلسل، وواحد إنشاء الله..

مراتب التوحيد الأربعة

قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)..هذه الآية الشريفة تشير إلى المراتب الأربعة للتوحيد وهي:

أولاً: توحيد الأفعال، أو التوحيد الأفعالي.

ثانياً: التوحيد في العبادة أو التوحيد العبادي.. كما يُمكن أن يُستنبط منها.

ثالثاً: توحيد الذات، ويُمكن أن يُستنبط منها.

رابعاً: توحيد الصِّفات أيضاً.. فالتوحيد له أربع مَراتبٍ، أو أربعة معان، كلها ينبغي أن يؤمن بها الإنسان، هي:

أولاً: توحيد الذات..

ثانياً: توحيد الصفات..

ثالثاً: توحيد الأفعال..

رابعاً: توحيد العبادة..

هذه المراتب الأربعة كلها مُتضمنة في هذه الآية القرآنية الشريفة، ويمكن أن تُستنبط منها خاصَّة المرتبتان الأخيرتان، فالآية ناطقة بهما أصلاً، والمراتب الأخرى تحتاج إلى تعمُّلٍ، وتأمُلٍ، وكن توحيد الأفعال، وتوحيد العبادة، يستظهر أن من منطوق الآية الشريفة من غير احتياج إلى مقدمات مطولة، وإن كانت هي صحيحة في حدّ ذاتها..

كما تعلمون - وقبل أن نبدأ بالآية الشريف - ينبغي للمؤمن أن يكون موحدّاً حقيقياً بهذه المعاني الأربعة:

أولاً: توحيد الذات..

فإن الله سبحانه وتعالى، واحد أحد (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)، فكما هو الواحد، أنه هو الأحدّ، و(الواحد) الذي لا ثاني له..

أما (الأحد) فهو الذي لا جزء له، والذي لا جزء له، لا ثاني له.. فـ(الأحد) دالٌّ على (الواحد) بالملازمة، وكان لابد من ذكر (الأحد) بعد (الواحد) لأن كونه واحداً لا ينفي كونه ذا أجزاء، ولا يثبت كونه بسيطاً، وكان يمكن الاستغناء بذكر (الأحد) عن ذكر الواحد لدلالة الأحد عليه، كما في الآية الشريفة، فالله واحد لا شريك له، ولا جزء له..

ثانياً: توحيد الصفات..

والتوحيد في الصفات يعني: أن الله سبحانه وتعالى، صفاته عينُ ذاته، فعلمه عين ذاته، وقدرته عينُ ذاته.. وهكذا صفاته الأخرى؛ لأن صفات الله سبحانه وتعالى لو كانت عارضة على ذاته، للزم أن يكون في مرتبة ذاته مجرداً، وفاقداً للعلم، والقدرة، والإرادة، وما أشبه ذلك.. فلم يكن إلهاً، ولم يكن واجب الوجود، إذ الفاقد في حدِّ ذاته للقدرة، والعلم، والإرادة، ليس واجب الوجود، وليس إلهاً.. فإن (الإله) غني من جميع الجهات، ولا يُعقل أن يكون مصدر الكمالات كلها مُجرَّداً عنها، فإن (فاقد الشيء لا يُعطيه) كما في القاعدة..

وبتعبير آخر: لكان في حدّ ذاته مُحتاجاً إلى العلم، لأنه مجرد في حدِّ ذاته عنه، وإلى القدرة، وإلى الإرادة، وإلى الحياة.. لأن كلها - حسب هذا الكلام - لواحق لذاته، وعوارض على ذاته.. والمحتاج ليس بواجب الوجود، وليس بإله..

وبتعبير، ثالث: (وهذه أدلة مختلفة للموضوع)، لكان ليس مُحتاجاً للصفات فقط، بل كان مُحتاجاً لمن يلصق به الصفات، أي يجعله متصفاً بالصفات، أي يمنحه ويعطيه الصفات، أي سوف يكون احتياجه في حدِّ ذاته..

فعندما يقال: هو ليس عين العلم، ولا عين القدرة، والقدرة شيء عارض عليه، فهو في حدِّ ذاته ليس بقادر، ولا عالم، فاحتاج مرتين: مرة إلى صفته، ومرة أخرى إلى الشيء الخارجي الذي جعله يتحلّى بهذه الصفة؛ فاحتاج مرتين فكيف يكون الله؟ وكيف يكون هو المنشأ الأول لكل شيء؟ هذا خلف، فالتوحيد في الصفات يعني ذلك: (أن الصفات هي عين الذات،لا طارئة ولا عارضة عليها)..

ثالثاً: توحيد الأفعال..

اعلم أن كل ما في الكون من جواهر، وأعراض، وحركات، وسكنات.. وغيرها فإنها بأذن الله سبحانه وتعالى، ومشيئته، فإنه(خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ)[4] و(إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)[5] و(وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ)[6] والأمير   (عليه السلام) يقول: (عرفتُ الله بفسخ العزائم).[7]

الله سبحانه أراد أن يتجلّى لنا حتى في هذه المرتبة (عرفتُ الله بفسخ العزائم، ونقض الهمم)، شخصٌ يعزمُ ويصممُ، ويخططُ، ويُعدُّ المقدمات كلها، وإذا فجأة يفشل وينهار مشروعه من حيث يدري، أو من حيث لا يدري..لماذا؟ حتى يُدرك أن:

أزمَّة الأمور طراً بيده

والكل مستمدة من مدده

وكأن الله تعالى يقول له: أنا موجود فتوكَّل عليَّ، ولا تتكل على قُدرتك..

ويوجد في الروايات إشارة إلى ذلك، وأن الله سبحانه وتعالى يلفتنا بذلك إلى أهم حقيقة في الكون؛ وهي أنه الفعَّال لما يشاء، وأن كل شيء بيده وبإذنه تعالى، ومما يُشير إلى ذلك: أن كثيراً من الناس قد يفقد الذكاء ولكن مع ذلك نجده مرزوقاً الله يرزقه، وكثيراً من الناس يكون ذكياً جداً، أو عالماً جداً، والله يحرمه،(إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ).[8]

إنه جلَّ وعلا يعرفنا ويعلمنا - فيما يعرفنا ويعلمنا - أنه ليست قدرتك، وإرادتك، وعلاقاتك هي التي صنعت الحقائق، وأجرت الأمور، وأوصلتك إلى النتائج، فهذا هو الظاهر فقط، ولكن الواقع هو: (وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ) إذ قد يكون الإنسان في أعلى درجات العلم، ولكنه فقير، ويوجد كثير من العلماء حقيقة يحيون فقراء ويموتون فقراء، من أعاظم علماءنا، وغيرهم أيضاً.. الله يريد أن يقول: أزمَّة الأمور بيدي، وليس بيدكم، وهذه أشياء ظاهرية، وهكذا وهلمّ جراً.

 (توحيد الأفعال)؛ يعني أن كل شيء منوط بالله سبحانه وتعالى.. أي بأمره وإذنه تبارك اسمه فكل الأفعال تنتهي إلى إرادته، والإنسان حرٌ مختار بإذنه تعالى، لأنه لولا إذن الله له لما أمكنه أن يحرك ساكناً..

رابعاً: توحيد العبادة..

وهو يعني أن يَعبد الإنسان الله وحده، ولا يوجد شيء ثاني ينبغي أو يصح أو يجوز أن يُعبد..

وإن من تفاهة عقل البشر، أن يعبد غير الله سبحانه وتعالى، حتى لو كان أعظم شيء بتصوره، إذ مع وجود الإله القدير الرؤوف الرحيم، ومصدر الكمالات كلها، وسبب وخالق كل شيء، ومع سماحه لنا بعبادته، بل وعدم تجويز عبادة غيره، كيف يعبد الإنسان غيره؟ إلا أن يكون سفيهاً، أو معانداً.. والآية القرآنية الكريمة عرَّفتنا التوحيد،(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)..

السر في استخدام ضمير المفرد في (وَمَا خَلَقْتُ)..

هذه هي المراتب الأربعة من التوحيد، جُمِعت بقوله سبحانه وتعالى (وَمَا خَلَقْتُ) ولنبدأ بالإشارة إلى توحيد الأفعال، وتوحيد العبادة، فكيف نفهم ذلك من الآية الشريفة؟

لاحظوا الدِّقة في الآيات القرآنية الكريمة، في الآية هذه، الله تعالى يقول: (وَمَا خَلَقْتُ)  بضمير المفرد، ويستخدم في ما يشابه هذا الموطن - والتشابه من حيث الظاهر طبعاً، وأما الباطن فسنشير للفرق- يستخدم (خلقنا) كما قال جلَّ اسمه:(مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنذِرُوا مُعْرِضُونَ)[9].. لماذا في هذه الآية: يقول (وما خلقت) أما في آيات أخرى يقول: (مَا خَلَقْنَا)؟ وفي آية أخرى يقول: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ)[10]

هنا يقول (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)، وهناك، يقول)وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ([11])وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ) والصلصال هو الطين اليابس الذي يُصلصل كالجرس، من حمئٍ؛ وهو الطين الأسود المتغيِّر، وربما المتعفّن، والمسنون، والمصبوغ، (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ)، أما هنا، يقول: (وَمَا خَلَقْتُ) ما السبب في ذلك؟

دلالة الآية على التوحيد العبادي

السبب هو هذه الكلمة: ربما إن الله سبحانه وتعالى يُريد أن يُشيرَ إلى التوحيد الأفعالي، بكلمة (خَلَقْتُ)، وإلى التوحيد العبادي بترتيب (إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) على (وَمَا خَلَقْتُ)...

وبيان ذلك أن في قوله تعالى: (مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ)، الله في هذه الآية يتحدث عن الخلق، يتكلم عن الفعل، يتكلم عن الانجاز..

الله سبحانه وتعالى يقول: (مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى) إنه يتكلم حول (الخلقة)؛ وإن هذه الخلقة بالحق، وليس الحديث عن (العبادة)، وأن الهدف من الخلقة هو(العبادة)..

إن الله سبحانه وتعالى بلا شك خلق الملائكة وأعطاهم القدرة، فهم الذين بإذنه يصوّرون، أو يصنعون، أو يقبضون الأرواح، أو ما أشبه ذلك.. فهؤلاء الكرام يفعلون، لكن في (طول) فعل الله سبحانه وتعالى، وبالاستمداد منه، وبإذن الله سبحانه وتعالى يخلقون (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ)[12]  و(وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴿30﴾ يُدْخِلُ مَن يَشَاء فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا)[13] و(إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ).[14]

وبالدرجة والرتبة التي سمح الله لهم فيها، وحيث إن الكلام عن الفعل، فإن الله تعالى جعلهم في (طوله) فاعلين، وخالقين، قال: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ) ، وقال: (مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ) ولا تنافي بين (خلقنا) و(خلق) لأن نسبة الخلق إليهم أيضاً من باب الفعل، وباعتبار أنهم المباشرون للعمل، أي للجزء الأخير من العلة المعدة، أو حتى لأجزاء سابقة ولكن بإذن الله تعالى، وبقدرة منحها لهم، فصحَّ إسناد (الخلق) والإماتة والإحياء والرزق وغيرها، لهم أيضاً..

وصحَّ حصر (الخلق) به تعالى لأنه علة العلل وسبب الأسباب والفاعل الحقيقي..

وبعبارة أخرى موجزة: هم فاعلون وخالقون ولكن في (طول) إرادة الله تعالى، و(بالاستمداد منه والاستناد له)، لا في (عرضه) سبحانه، وباستقلال وبقدرة ذاتية، وهذا هو التوحيد الأفعالي، ولكن في آيتنا الشريفة إشارة للتوحيد العبادي أيضاً، إذ أن الله سبحانه في هذه الآية لا يتكلم عن (الفعل) بما هو فعل، بل إنه يتكلم عن الفعل بلحاظ (المُراد منه)، و(الغاية) المطلوبة، والتي هي العبادة، (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)..

هذه (الخلقة) أي مادة (الخلقة) المستخدمة في (خلقت) هي مُقدمة للعبادة، فينبغي أن يكون الضمير مفرداً لأن المراد هو توحيد العبادة.. فإذا كان الله يريد أن نعبد غيره، كان يقول: (وما خلقنا الجنّ والأنسّ إلا ليعبدونا) إذ أنه إذا كان المقام مقام تعدد المعبود، وتعدد العبادة ناسب ذلك التمهيد بتعدد الخالقين، ولكن الله يُريد أن يشير إلى التوحيد العبادي أيضاً، (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) فلأن المراد هو التوحيد العبادي؛ كان لابد من إفراد الضمير في (خَلَقْتُ) كما هو الحق لأنه الخالق الحقيقي الذي ينتهي إليه كل شيء..

وبتعبير آخر: الله سبحانه وتعالى، جعل (وَمَا خَلَقْتُ) توطئةً، وتمهيداً، لكي يعبدوه لأن حديثه عن الغاية، فحيث أنه يراد بالغاية، أن نعبده وحده، أفرد الضمير في (الخلقة)، فقال: (خَلَقْتُ) أنا؛ لتعبدني أنا؛ أما هناك فليس الكلام عن الغاية، وإنما عن الفعل، والفعل مُتعدد طولياً وكذا الخالق: (مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى) فهذه إذن أشارة إلى التوحيد العبادي..

الأمر بين الأمرين:

أما التوحيد الأفعالي؛ فهو واضح ولا يحتاج إلى هذه التوضيحات (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) فإذن (الخالق) للجنّ والأنسّ مَنْ هو؟ إنه الله الواحد الأحد الخالق (لذواتهم)، والخالق أيضاً (لأفعالهم)، وغير ذلك.. فليست يد الله مغلولة - كما قال اليهود - ولا تفويض للأمر - كما ذهب المفوَّضة-..

لأن (الخالق) أوجد فيهم القدرة، أوجد فيهم الطاقة، أوجد فيهم الآلات، ولولا الآلات، والطاقات التي منحها الله لنا، لم يكن بمقدورنا واستطاعتنا حتى تحريك الأصابع، ولولا إذنه تعالى حتى مع وجود الآلات والطاقات، فإنه ليس بمقدورنا تحدي إرادته جل وعلا وتحريك الأصابع ولو بأدنى درجة، فليست يده (مغلولة) إذن، وليس مُنعزلاً عن خلقه، (ولا تفويض) هذا من جهة.. ومن جهة أخرى (لا جبر) لأن الله تعالى هو الذي أوجد فينا (الإرادة)، ومنحنا قوة الاختيار، لننتخب أي مسيرة، وأي طريق، فلا جبر وإكراه، ولا تفويض بإطلاق، بل الحق هو ما قاله سيدنا ومولانا الإمام جعفر الصادق  (عليه السلام): (لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين)..[15] وهذا هو الطريق الوسط والصراط المستقيم وهو الطريق الثالث، وهو المطلوب، والمقصود.

فهذه الآية الشريفة، وبقوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ) تُشير إلى التوحيد الأفعالي بوضوح، وكما أنها تشير عبر تفريع (لِيَعْبُدُونِ) على (وَمَا خَلَقْتُ) وترتيبه عليه، تُشير إلى التوحيد العبادي أيضاً بوضوح..

البرهان الإني على توحيد الله تعالى[16]

إن الأقسام الأخرى من التوحيد تمكن استفادتها من الآية الشريفة وذلك مثل (التوحيد في الذات)، وأن الله سبحانه وتعالى لا شريك له.. كيف؟

لاحظ الآية الشريفة الأخرى- ولا أريد أن أُطيل هنا بل أريد أن أنتقل إلى حديث الإمام الباقر  (عليه السلام) الذي هو الأساس المبارك لحديثنا وتتمة له لاحظوا الآية الثانية، فنفس الكلام يجري هنا، يقول الله سبحانه وتعالى:( هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ)[17]

فالأثر يدلُّ على المؤثر، إن آثارنا تدّل علينا، هذه الآثار كلها الجنّ، والأنسّ هي آثار الله..هي برهان (إنِّي) على وحدانيته، وهل يوجد جنّ وإنس غير هؤلاء الذين خلقهم الله ليشهدوا على خالق آخر؟ لا يوجد.. والأدلة على وحدانيته تعالى في موطنها كثيرة.. فمنها هذا البرهان، ومنها بُرهان (النَّظم)، لأنه عندما تلاحظون الكون كله ترون بصمات إله واحد خالق، حاكم، فعَّال لما يشاء؛ ومنها برهان (الأزواج)، وأن الله خلق من كل شيء زوجين أثنين.. ومنها برهان (الفجوة) الذي أشار إليه الإمام الصادق  (عليه السلام) في بعض أحاديثه الشريفة..

إذن هناك براهين كثيرة تُذكر في محلها، لكن هذه إشارة (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) إذن الجنّ، والإنسّ مخلوقون لله سبحانه وتعالى، وإذا كان هناك إله آخر فأين أثره؟ أين معلوله، أين مخلوقه؟ وحيث لا؛ فلا؛ لأنه لا يوجد معلول آخر، ولا يوجد مخلوق آخر، نستكشف أنه ليس هناك إله آخر، فراجعوا تفصيل ذلك في كتب علم الكلام، والعقائد عند الحديث عن براهين التوحيد، كبرهان (النَّظم)، وبرهان (الأزواج)، وغيرهما من البراهين..[18]

فيمكن أن يُستفاد من هذه الآية بلحاظ متعلَّق خلقتُ (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)، وهو الجن والإنس.. (التوحيد في الذات)، والحديث طويل، وربما في البحوث الآتية يكون لنا بعض التتمة لهذا الكلام، بإذن الله تعالى..

كل مراتب التوحيد في (الصَّمد)

وأما كلام الإمام الباقر (عليه السلام)  الذي هو أساس وتتمة لهذا الكلام عن العبادة الحقيقية، فإنه يقول: (لو وجدت لعلمي الذي آتاني الله (عزوجل)، حملةً، لنشرتُ التوحيد، والإسلام، والإيمان، والدين، والشرائع؛ من (الصمدّ)، وكيف لي بذلك ولم يجد جدّي أمير المؤمنين  (عليه السلام) حملة لعلمه)[19]؟

وسنقتصر في البحث عن هذه الرواية الشريفة على هذه الجملة فقط (لنشرت التوحيد.. من الصمد..).

وأما كيف (لنشرتُ... الإسلام، والإيمان، والدين، والشرائع؛ من (الصمدّ)) فذلك له مجال آخر، ولكل مفردة من هذه المفردات الأربعة (الإسلام، والإيمان، والدِّين، والشرائع) وكيفية استنباطها من (الصمد) ونشرها منه، مجال آخر وربما يستغرق الحديث عنها ساعات وساعات، ولا نبلغ بذلك حتى واحداً بالمليار مما لم يستطع الإمام الباقر - روحي له الفداء - قوله، ونشره في هذه الأمة..

فلنعد - والعودُ أحمدُ - إلى (لنشرت التوحيد... من الصمد..)..

فنقول: إن مراتب التوحيد الأربعة كلها متضمنة في (الصمد)، وقد كشف عنها الإمام  (عليه السلام) عبر شرحه لهذه الكلمة النورانية الشريفة، كما ذكر معاني أخرى أيضاً بثَّها في روايات متعددة وسنذكر بعضها لتوضيح ذلك.. فنقول تمهيداً لذلك:

إن المراتب الأربعة للعبادة، أو المراتب الأربعة للتوحيد، عليك أن تعرفها حق المعرفة إذا أردت أن تكون عابداً حقيقياً، وعليك- بعد المعرفة - أن تلتزم بالمراتب الأربعة، أي بعقد القلب على ذلك، ولتكن أفعالك، ومواقفك، حاكية عن ذلك وعندئذ سوف تكون عبداً حقيقياً لله سبحانه وتعالى..

تؤمن بالله ووحدانيته..

وأن صفاته عين ذاته، وإلا لم يكن إلهاً..

وتؤمن بوحدة الأفعال؛ بمعنى أن المؤثر الأول فيها هو الله سبحانه وتعالى، وكل شيء بإذنه، ومشيئته.. فتَكِل أمرك إليه، ولا تعتمد على غيره، ولا تخاف في الله لومة لائم فتتحرى رضاه لا غير، وتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وإن سخط عليك السلطان، أو المجتمع، أو البعيد والقريب.. قال أمير المؤمنين (عليه صلوات المصلين): إِنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَ النَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ لَخُلُقَانِ مِنْ خُلُقِ اللَّـهِ سُبْحَانَهُ وَ إِنَّهُمَا لَا يُقَرِّبَانِ مِنْ أَجَلٍ وَ لَا يَنْقُصَانِ مِنْ رِزْقٍ..[20] فالأمر كله لله، وإن توهم الجاهل غير ذلك.

وتؤمن بالمرتبة الرابعة، وهي العبادة له وحده، لأنه المعبود الحقيقي..

روايات في (الصَّمد)..

هذه المراتب الأربعة للتوحيد هي التي جُعِلَت الهدف من الخلق، أي أن (العبادة) تكون لله تعالى الذي له التوحيد كله، بمختلف المراتب المتقدمة.. فهذا هو المعبود الذي خلقنا الله لأجل عبادته، لا غير..

والإمام الباقر  (عليه السلام)، يقول: (لو وجدت لعلمي الذي آتاني الله (عزوجل) حملةً، لنشرتُ التوحيد...من (الصمدّ)..) وفي روايات أخرى يشرح معنى (الصمد)، ويذكر له - حسب استقرائنا الناقص - اثني عشر معنى، وسيتضح لنا أن تلك المراتب التوحيدية الأربعة كلها متضمنة في هذه الكلمة المباركة (الصمد) حسب تفسير الإمام  (عليه السلام) وتوضيحه لهذه الكلمة القرآنية الشريفة..

وهذه الرواية من أروع الروايات حقيقةً، وعلينا قبل ذكر وشرح رواية الإمام الباقر  (عليه السلام) أن نذكر لكم مقدمة موضحة لكلامه صلوات الله عليه: لاحظوا الآية الشريفة (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴿1﴾ اللَّهُ الصَّمَدُ) نستفيد - مبدئياً - من قوله تعالى: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) توحيدين، ونستفيد - مبدئياً أيضاً - من قوله تعالى:( اللَّهُ الصَّمَدُ) توحيدين..

توحيد الذات

أما من قوله تعالى: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) فنستفيد: توحيد الذات، وتوحيد الصفات؛ أما توحيد الذات فلأن (أَحَدٌ) بمعنى ما لا جزء له، إذ الواحد له ثاني، له ثالث، فالواحد ينفيهما[21]، ولكن (الواحد) قد يكون له جزء فلا ينفي مجرد إثبات الوحدانية له، وجودَ أجزاء له بل نقول: (الواحد) يعقل أن يكون له ثاني، وإن لم يكن في الواقع الخارجي له ثاني، أما (الأحد) فلا يعقل أن يكون له ثاني..

وبعبارة أخرى: إثبات صفة (الأحد) في الآية الشريفة له تعالى، لها امتيازان على مجرد إثبات (الواحد) له،هما:

(الأحد) لا أجزاء له على الإطلاق، والله سبحانه وتعالى كما هو (الواحد)، إنه (الأحد) ليست له أجزاء لا عقلية، ولا خارجية، ولا غير ذلك..

و(الأحد) لا يعقل بالنظر لمفهومه أن يكون له ثاني، عكس (الواحد) الذي يعقل بالنظر لمفهومه أن يكون له ثاني.. وذلك لأن ما لا جزء له مطلقاً، يستحيل أن يتعدد، وإلا لتركب من (ما به الامتياز) و(ما به الاشتراك) فلزم التعدد، وهذا خلف.. وقد فصَّلنا الحديث عن ذلك في كتاب (الضوابط الكلية لضمان الإصابة في الأحكام العقلية)[22]، على ضوء قول أمير المؤمنين  (عليه السلام) في الخطبة الأولى من نهج البلاغة؛ (ومَنْ حَدَّهُ فَقَدْ عَدَّه)..

توحيد الصفات

وأما توحيد الصفات؛ فإنه لو كان الله سبحانه وتعالى متصفاً بصفات ليست عين ذاته لكان لزم أحد المحذورين:

فإما أن تقول: إن المجموع هو الله، يعني مجموع المعروض، والعارض، يعني (هذه الذات المتصفة بالعلم)، مجموعها الله، وهذا يعني أن له أجزاء، وبديهي أن الكل محتاج إلى جزأيه أو أجزائه، فليس هو بإله إذن، لأن الإله لا يحتاج إلى أي شيء أبداً..

أو أن تقول: بأن الله هو (المعروض) فقط، فيلزم أن يكون الله تعالى في حدِّ ذاته مُجرَّداً عن العلم، والقدرة.. ومحتاجاً إلى خارج ذاته، لأنك، قلت: (المعروض) وحده فقط، هو الله، فستكون صفات العلم والقدرة والحياة وغيرها خارجة عن ذاته فاحتاج إلى غيره، والخلاصة أنه هناك أحتاج إلى جزئه الداخل، وأما هنا فهو يحتاج إلى غيره الخارج..

إذن التوحيد بالمعنى الأول، والتوحيد بالمعنى الثاني، يُستفاد من(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)..

وأما التوحيد بالمعنى الثالث، والرابع يعني توحيد الأفعال، والعبادة فهي تُستفاد من كلمة (اللَّهُ الصَّمَدُ).

معاني الصَّمد

قلنا بأن إحدى البراهين على كل ذلك (التوحيد بمراتبه) تنبع من داخل كلمة (الصمد) بذاتها.. وتوضيح ذلك يكون بالجواب على هذا السؤال:

(الصمّد) ماذا يعني، وما هو معناه اللغوي؟

الصمد: يعني المصمود إليه، أي المقصود، والمقصود بالذات، وفي الدعاء: (اللهم إليك صمدت من أرضي..)[23] يعني إليك قصدت، فالصمّد بمعنى المقصود، وصمد يعني قصد، فـ(اللَّهُ الصَّمَدُ)؛ يعني: المقصود أولاً وبالذات هو الله سبحانه وتعالى، والمقصود إليه بالحوائج: هو الله سبحانه وتعالى.. والمقصود لجميع الخلائق من جنّ وإنس، هو الله سبحانه وتعالى.. والمقصود عند الشدائد، هو الله سبحانه وتعالى..

الصمد- على إطلاقه -: (هو المقصود بالذات للكل، وبكل الجهات، ومن كل الجهات، ولكل الجهات، ولكل الخلائق)..

هذه الكلمة على اختصارها تضمنت المعنيين معاً توحيد الأفعال، وتوحيد العبادة، لأن الله سبحانه إذا كان هو المقصود للكل، ولكل شيء: فينبغي أن يُعبد وحده، ولا معنى لأن تَعبد شيئاً آخر..

وهو المقصود الأول والأخير، فإذا كان الله سبحانه وتعالى هو مقصد الكل؛ وهو الذي يَصمد إليه الكل، في كل شيء في أفعالهم، في حركاتهم، وسكناتهم، وأفكارهم.. فكل شيء صادر منه لأنه لو كان له شريك في الأفعال لم يكن المقصود وحده فكلمة الصمد تدلُّ على ذلك كله، وذلك مما استنبطناه بالتأمل في كلام الإمام الباقر  (عليه السلام).

بل إنه صلوات الله عليه يستخرج كل المعاني الأربعة للتوحيد وغيرها من (الصمد)، وليس المعنى الثالث، أو الرابع فقط، بل ما هو أسمى من ذلك بكثير.

وإنني استغربتُ قليلاً عندما قرأتُ كلام الإمام الباقر  (عليه السلام)، المُفسر لكلمة (الصمد)، بحيث تُستفاد منها هذه المراتب التوحيدية الأربعة، وغيرها، وذلك عندما طالعت تفسير الصافي[24] فوجدت أن كلام الإمام ظاهراً غريب- أعني بالضبط أنني لم أفهم كلامه  (عليه السلام) - ولكن بعد أن نُحلل كلام الإمام نرى أن كلامه جداً دقيق، وجداً واضح،وهذا بقدر ما توصلتُ إليه وإلا فإن كلام الإمام الباقر  (عليه السلام) أوسع أبعاداً، وأعمق دلالة، بكثير بما لا تبلغ نسبة ما نفهمه قياساً لعلومه ذرة من قطرة في البحر المحيط، بل البون أوسع، وأوسع بما لا قياس وأعتذر إلى الله من التقصير والقصور والجُرأة..

اثنا عشر معنى لـ(الصمد)

لاحظوا أن الإمام الباقر  (عليه السلام) يذكر معاني للصمد، يبدو ظاهراً أنها ليست مترابطة، ولكن لدى التأمل فيها نجدها مترابطة أشد الترابط، برباط من نور العلم اللدني، والعلاقة بينها علاقة اللازم، بالملزوم أو الملازم له.. ونحن نحاول أن نستدلَّ فقط، ببرهان (اللغة) لأن الإمام يستدل أيضاً ببرهان (الحروف)، وتوجد براهين أخرى لن ندخل فيها الآن لأنها مُعمَّقة ومُطولة، محلها في علم الكلام والعقائد، وقد مهَّدنا هذه المقدمة حتى يتضح جانب من كلام الإمام فقط..

نستدل ببرهان (اللغة) على هذا المعنى الذي يقوله الإمام  (عليه السلام)؛ لاحظوا كلام الإمام الباقر  (عليه السلام) حتى نعرف كيف أن ثقافة (العبادة) الحقيقية الحقّة للحق تعالى، وهي ثقافة (يعبدون)، وعبودية الله سبحانه وتعالى، بأسمى مراتبها خالصة من كل شرك، لا تُأخذ إلا من أهل البيت (عليهم الصلاة وأزكى السلام)، فهم الطريق إلى (يعبدون) فإذا أردت أن تصل إلى حقيقة العبودية، وكُنه العبودية خالصةً من كل شرك، وشك، وزيغ، وكفر، ونفاق، فخذ ذلك من أهل البيت  (عليهم السلام)..

المعنى الأول للصمد: قال الإمام الباقر  (عليه السلام): (حدثني أبي زين العابدين، عن أبيه الحسين بن علي  (عليهم السلام)، أنه قال: الصمّد الذي لا جوف له..)[25]

وهذا هو المعنى الأول الذي يذكره الإمام لـ(الصمد)؛ يعني أنه لا مَدخل له؛ فإنه إذا كانت الصفة غير الذات صار لها جوف، أنا لي جوف، إذ علمي عَرَضَ عليَّ فيوجد جوف هو أنا المعروض، ويوجد ظاهر قد عرض على الجوف.. أي يوجد جوَّاني وبرَّاني..

أما الله سبحانه فصفاته عين ذاته؛ هذه الكلمة تشير إلى توحيد الصفات (الذي لا جوف له) ليس له ظاهر، وباطن (هو الأول، والأخر، الظاهر، والباطن)[26] ظاهره باطنه، وباطنه ظاهره،لا أن أحدهما غير الآخر، وأحدهما عارض والآخر معروض.. أما أنا فلي جوف وفي رواية أخرى: لا مدخل له.. أنا لي مدخل لأن داخلي غير ظاهري، أما الله تعالى فالظاهر عين الباطن ليس له مدخل، فإن ما لا جوف له، لا مدخل له..

المعنى الثاني: (للصمد) كما يذكره الإمام  (عليه السلام): (الصمد الذي قد انتهى إليه السؤدد)؛ أي المجد والشرف.. أعتقد أن هنا - في تفسير الصافي - يوجد خطأ مطبعي، ولذا عبرّتُ بالنَّص الموجود في مجمع البحرين، (الصمد: الذي انتهى إليه السؤدد)، وهنا في الصافي مكتوب: (الذي انتهى سؤدده).. وهذا ظاهراً خطأ مطبعي، أو له توجيه، والظاهر أن الصحيح؛ هو (الصمد الذي انتهى إليه السؤدد)، يعني ينتهي إليه كل مجد، وكل شرف، وكل رفعة، وكل منزلة ومقام...

المعنى الثالث: (والصمد: الذي لا يأكل ولا يشرب).. ما هو الرابط بين هذه المعاني؟

المعنى الرابع والخامس: (والصمد: الذي لا ينام، والدائم الذي لم يزل، ولا يزال).. هذه المعاني كلها صحيحة ولكن ما هو الرابط بينها؟

والإمام  (عليه السلام) كيف يكتشف هذه المعاني التوحيدية المختلفة، من هذه الكلمة البسيطة في ظاهرها، وما هو الرابط بين (الدائم الذي لم يزل ولا يزال)، مع (الذي لا ينام)، مع (الذي لا يأكل، ولا يشرب)، ومع الذي (لا جوف له)؟

المعنى السادس: وبعد ذلك، قال الإمام الباقر  (عليه السلام): كان محمد بن الحنفية،[27] يقول: (الصمد القائم بنفسه الغني عن غيره).. وهذا معنى من معاني للصمد.

المعنى السابع: وبعد ذلك المعنى الآخر للصمد: (المتعالي عن الكون والفساد)..

المعنى الثامن: والمعنى الآخر للصمد: (الذي لا يوصف بالتغاير)، وهذا توحيد الصفات مرة أخرى، يعني تغاير الذات عن الصفات، أو تغاير صفاته بعضها عن بعض..

المعنى التاسع: والمعنى الآخر للصمد: (السيد المُطاع الذي ليس فوقه آمر ولا ناهي)، هذا توحيد العبادة (السيد المطاع)، المطاع الأول، والأخير هو الله لا غير..

المعنى العاشر: الإمام الباقر، سأل علي بن الحسين  (عليهم السلام) عن الصمد، فقال: الصمد الذي لا شريك له.. توحيد الذات..

المعنى الحادي عشر: (ولا يؤدوه حفظ شيء)، و(لا يعزب عنه شيء)..

المعنى الثاني عشر: (الصمد) هو (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ﴿3﴾ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ) هذه المعاني الاثنا عشر التي ذكرتها عدة روايات مباركات، وقد ورد في رواية طويلة وجميلة بل أكثر من رائعة وكل الروايات روائع وأكثر من روائع نقلها الإمام الصادق، عن أبيه الإمام الباقر، عن جده الإمام الحسين، عن جده رسول الله (صلوات الله تعالى عليهم جميعاً) وشرحها يحتاج إلى مجلد ضخم للوقوف على أسرارها النورانية، وخفاياها الملكوتية، وفوائدها الربانية..

(الصمد) ينسف أوهام الفلاسفة

وقبل الإجابة عن هذا السؤال وتوضيح وجه الربط، أقول: إن هذه المعاني المتعددة التي يذكرها الإمام  (عليه السلام)، هي ذات دلالات بالغة، ومنها: أن كل معنى من هذه المعاني ينسف مقولة باطلة..

مثلاً الفلاسفة لهم مقولة باطلة هي العقول العشرة.. العقول العشرة حسب قاعدة (الواحد لا يصدر منه إلا الواحد)، يقولون: الله لم يخلق إلا العقل الأول، ولا يستطيع أن يخلق إلا العقل الأول، والعقل الأول خلق العقل الثاني، والفلك الأول إلى آخر هذا الكلام السخيف والباطل،(وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ).[28]

هذا الكلام الفلسفي عبارة أخرى عن كلام اليهود: (يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ) لكنهم هم المغلولة أيديهم وعقولهم (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ)، الله لا يستطيع أن يخلق شيئاً ثانياً؟ الله لا يخلق إلا العقل الأول؟ والعقل الأول يخلق شيئين، وهكذا وهلمَّ جراً؟ الله لا يقدر؟! وهو(القادر على كل شيء) وو{ﯗ ﯘ ﯙ} و{ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ} ومخلوق من مخلوقاته يقدر؟! وبوهم (كثرة اعتبارية)؟

(الصمد): ينسف هذا الوهم الفلسفي، وأشباهه، إذ (الصمد) القائم بنفسه، الغني عن غيره، فلا يحتاج إلى مخلوق، الذي هو العقل الأول، أو غيره، حتى يخلق شيئاً آخر كلا.. هو الخالق لكل شيء، وهذا هو معنى توحيد الأفعال (القائم بنفسه الغني عن غيره)..

والآن لنعد إلى السؤال الجوهري:

ما هو الجامع بين هذه المعاني التي ذكرها الإمام الباقر  (عليه السلام)؟ حيث رويت عنه متفرقة، في عدَّة روايات وقد ذكر في بعضها خمساً منها، وثلاثاً في البعض الآخر، ومعناً واحداً فقط في بعضها.[29]

الرابط الجوهري بين تلك المعاني

في بدء النظر يبدو أن المعاني متباعدة من الناحية النظرية، لكن لها رابطاً جوهرياً، وكما قلنا فإن كل معنى من هذه المعاني ينسف مقولة باطلة، فلسفية أو غيرها، مثلاً؛ (ولا يعزب عنه شيء)، فقد قلت بأن هذا إشارة إلى نسف كلام الفلاسفة، إذ قسم آخر من الفلاسفة يقولون: بأن الله سبحانه وتعالى لا يعلم بالجزئيات..[30] لأن علمه بالجزئيات يستلزم التغير في ذاته؟!

كلام من أسخف ما يكون، يقول: إن الله عالم بالجزئيات على الوجه الكلي، يعني أن الله لا يعلم أني أمشي، وإنما يعلم أن هناك كلياً للمشي، وأن هناك كلياً للإنسان، لأن الكلي لا يتغير، أما المشي فيتغير، فإذا تغير المشي تغير الله!! أقول ما هو الربط والعلاقة وأي تلازم هنالك؟ إنه توهم أن علم الله تعالى (حصولي) فتوهم التغير، ولم يعلم أن الله علمه (حضوري) كما هو المشهور، فلا يلزم التغير، ونحن نرى أن علمه فوق الحضوري أيضاً، وقد فصَّلناه في بعض كتبنا، فليراجع.[31]

وعلى أي تقدير فكل كلمة من كلمات الإمام  (عليه السلام)، يثبت فيها التوحيد الخالص، وينسف نظرية من النظريات الباطلة، كما ينسف التجسيم أيضاً.

ولنعد إلى كشف الرابط في هذا الحديث الشريف فما هو الرابط؟

بمعنى: أن هذه المعاني كيف تستوحى من كلمة (الصمد) وحدها، والإمام يقول: (لنشرت التوحيد) لاحظوا كلمة الإمام: (لو وجدت لعلمي الذي آتاني الله (عزوجل) حملةً لنشرت التوحيد، والإسلام، والإيمان، والدين، والشرائع من (الصمدّ)..)

الناس عادة لا يتحملون فهم الحقائق العالية، وللتقريب فقط، نمثل بأينشتاين إذا بدأ يشرح نظريته النسبية لطفل عمره سنة فهل يفهم ما يقول؟ لا يفهم شيئاً، والإمام الباقر  (عليه السلام)، لو أراد أن يشرح علومه لأينشتاين فإنه لا يفهم منها شيئاً! لأن أينشتاين بالنسبة للأمام الباقر  (عليه السلام) مثل طفل عمره سنة يريد أن يفهم أدق المعادلات الفيزيائية أو الميتافيزيقية، فإنه من الطبيعي أن لا يفهم، لذا نجد أن الإمام وسائر الأئمة  (عليهم السلام) لم يستطيعوا أن ينشروا علومهم.. كلا.. بل ولا حتى عشر معشار من علومهم، والمؤسف حقاً أن ما بأيدينا من علومهم لا نهتم به، ولا نطالع الكتب التي سطرت خَلَدَت تلك العلوم، ولا نعرف قيمة هذه الثروة الهائلة.!!

ماذا يعني ذلك؟ يعني ليس عندنا القابلية لأن ننهل من نمير علوم أهل البيت  (عليهم السلام) (لو وجدت لعلمي الذي آتاني الله (عزوجل) حملة لنشرتُ التوحيد..من الصمد)..

المعنى اللغوي لـ(الصمد)

والآن لنتوقف قليلاً فقط عند المعنى اللغوي لكلمة (الصمد) ونترك الاستدلالات الأخرى للإمام  (عليه السلام) التي هي علوم من نمط ثاني، مثل علوم (الأحرف)، وغيرها..

(الصمد) معناه اللغوي هو: المقصود إليه، المصمود إليه، المطلوب بالذات..

هذا هو معنى (الصمد): يعني المقصود بالذات، وإذا لاحظنا هذا المعنى نجده متضمناً لكل المعاني الأربعة التوحيدية ونجدها منطوية فيه.. وإذا أردتم مرجعاً ترجعون إليه بعد ذلك فراجعوا أمهات مصادرنا في التفسير والحديث والكلام.[32]

وسوف أبسِّط المطلب، فأقول:

يوجد برهان في الفلسفة يسمى: (برهان الصدّيقين).. وهذا من أشرف - حسب تعبيرهم- البراهين الفلسفية لإثبات وحدانية الله سبحانه وتعالى، وبرهان (الصديّقين) مأخوذ من كلام الله سبحانه وتعالى[33] ومفسره الإمام الباقر  (عليه السلام) إذ كان الله سبحانه وتعالى، (الصَّمد)..

الصمد الحقيقي يعني المقصود إليه، المطلوب بالذات، المقصود بالذات، فليس هنالك شريك وإلا كان هناك شيء آخر مصمود إليه، وكان هناك شيء آخر صمد أيضاً، وهكذا نستنبط توحيد الذات من (الصمد).

ثم إن الله سبحانه وتعالى ليست صفاته خارجة عن ذاته، لأنه إذا كانت صفاته خارجة عن ذاته، كان (له صمد) لأنه يقصد صفاته من علم وقدرة وحياة.. فيطلبها فما كان هو الصمد الأول المصمود إليه نهائياً.

يعني كان له (صمد) يعني أنه هو يتجه إلى علمه الذي هو خارج ذاته، إلى إرادته، إلى قدرته، إلى خارج إرادته، ويطلبها ويحتاج إليها.. والفرض، أن: (الله) هو (الصمد)؛ يعني كل شيء يتجه إليه فلا يوجد شيء يُتَّجَهُ إليه خارجاً إلا وهو محتاج إلى الله تعالى، وإلا إذا كان الله سبحانه محتاجاً لشيء لكان الشيء الآخر (صمداً) له، فلم يكن (اللَّهُ الصَّمَدُ) على الإطلاق، فتوحيد الصفات موجود هنا، متضمنٌ في (الصمد)..

و(توحيد الأفعال)، بـ (اللَّهُ الصَّمَدُ)فإذا كان هناك فعل لا ينتهي إلى الله، فيستمد طاقته، وقدرته من غير الله، فلم يكن الله هو (الصمد) على الإطلاق، بل كان هناك صمد، ومصدر آخر يُقصد، ويُصمد له، وإذا كان الله سبحانه هكذا وبهذه الصفات فمن الطبيعي أنه يجب أن يُعبد وحده دون غيره وهذه هي المرتبة الرابعة من التوحيد.

وهكذا اختصرتُ، ووضحتُ، وحاولتُ أن أبسِّط كثيراً (معنى) كلمة واحدة لغوية، والإمام (عليه الصلاة وأزكى السلام) أفادنا بكل هذه المعاني التي استنبطها، بهذا التوضيح المتواضع الذي نحن وضَّحناه..

لاحظوا هذه المعاني التي قرأتها لكم، كل هذه المعاني مجموعة في هذه الكلمة، (الصمد) أي (الذي انتهى إليه السؤدد) و(القائم بنفسه الغني عن غيره) أي المقصود بالذات، المقصود الأول، المنتهي إليه المطالب..

والمنتهي إليه المطالب والأشياء، لا ينام بطبيعة الحال.. وإلا كان محتاجاً إلى النوم، كما لا يكون جسماً، وإلا لاحتاج إلى (الحيِّز) و(الزمان) و(المكان)، واحتاج إلى أجزائه، فلم يكن حينئذ هو(الصمد) المطلق، بل كان غيره (صمداً له) ومطلوباً له، ومقصوداً له، ولم يكن غنياً عن غيره.

كما أن (الصمد) لا يأكل ولا يشرب، وإلا كان محتاجاً للأكل والشرب، ولم يكن (صمداً) بل كان صمده ومطلوبه ومقصوده غيره.

و(الصمد) لا يوصف (بالتغاير) إذ لو كانت ذاته غير صفاته، وصفاته بعضها مغايراً للبعض الآخر.. لم يكن (صمداً) بل كانت (أجزاءه) (صمداً له)، أو كان (عارضه) (صمداً له) ومطلوباً له، كما أوضحنا من قبل..

و(الصمد) (لا يعزب عنه شيء) (ولا يؤده حفظ شيء) وإلا ما كان صمداً إذ كان محتاجاً في (علمه) إلى غيره، وفي (حفظه) إلى غيره.. وهكذا..

وبنفس الملاك والاستدلال نعرف: أن (الصمد) لا جوف له ولا مدخل، وإلا كان مركباً والمركب محتاج لأجزائه فليس (صمداً) بل أجزاؤه، صمد له..

وهكذا نعرف أنه (الصمد) أي (القائم بنفسه، الغني عن غيره) و(الدائم الذي لم يزل ولا يزال) وهو الله وحده، لا شريك له(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴿1﴾ اللَّهُ الصَّمَدُ ﴿2﴾ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ﴿3﴾ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴿4﴾)..

وأننا سنكتشف واحداً أو أكثر من مراتب التوحيد الأربعة، من كل مفردة من مفردات شروح الإمام الإثني عشر، لكلمة (الصمد).. فمثلاً، قوله: (الصمد الذي لا جوف له) يفيد التوحيد في الصفات، ولدى الدقة فإنه يفيد التوحيد الذاتي أيضاً، إذ ما لا جوف له بقول مطلق يستحيل تعدده، وإلا كان له جوف وما به الاشتراك والامتياز فلم يكن صمداً ولم يكن بلا جوف فهذا خلف..

و(القائم بنفسه الغني عن غيره) يفيد توحيد الأفعال وتوحيد العبادة أيضاً.. و(الذي انتهى إليه السؤدد) يفيد المراتب التوحيدية الأربعة.. وهكذا وهلمَّ جراً.. مما ذكرناه في كلام الإمام  (عليه السلام) وللحديث تتمة..

نسأل الله أن يوفقنا لنكون من حملة علومهم (عليهم السلام).

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

 ...........................................

ملحق

وقد نقل أخونا الكريم محقق هذا الكتاب عن تاج العروس؛ للزبيدي:ج5 ص66- 68 ما يلي:

(الصَّمْد، بفتح فسكون: القصد؛ صمده، يصمده، صمداً، وصمده، يصمده، صمداً، وصمد إليه، كلاهما: قصده، وصمد صمداً الأمر، أي قصد قصده، واعتمده.

وفي حديث معاذ بن عمرو بن الجموح في قتل أبي جهل: فصمدت له حتى أمكنتني منه غرة أي وثبتُّ له وقصدته، وانتظرت غفلته.

ويقال لما أشرف من الأرض: الصمْد، بإسكان الميم.

والصمد: المكان المرتفع الغليظ من الأرض، لا يبلغ أن يكون جبلا، وجمعه: أصماد، وصماد وقال أبو عمرو: الصمد: الشديد من الأرض.

والصَّمَد بالتحريك: السيِّد المطاع الذي لا يقضى دونه أمر.. وهو من صفاته تعالى وتقدس، لأنه أصمدت إليه الأمور فلم يقض فيها غيره.. وقيل: الذي يُصمد إليه في الحوائج، أي يُقصد..

وقيل: الصمد: الذي لا يُطعم..

وقيل: الصمد: السيد الذي قد انتهى سؤدده (مجده).

وقيل: الصمد: الدائم الباقي بعد فناء خلقه..

وقيل: الصمد: الذي صمد إليه كل شيء، أي الذي خلق الأشياء كلها، لا يستغني عنه شيء، وكلها دالٌّ على وحدانيته.

والصمد: الرفيع من كل شيء..

وقيل: الصمد مُصمت، وهو الذي لا جوف له، وهو المصمد أيضاً، عن ميسرة، وهذا لا يجوز على الله تعالى). انتهى ما نقله.

أقول: وقد أوضحنا أن هذا المعنى هو الدقيق في الله تعالى، لأنه لا جزء له ولا داخل وخارج له، بل هو بسيط الحقيقة تماماً.

ولا يخفى أن هذه المعاني التي ذكرها اللغويون، بعضها مقتبس من أحاديث الأئمة (عليهم السلام) وإن أجحفوا بعدم نقلها عنهم، أو أجحف أساتذتهم بعدم نقلها عن مَن تلقوه منه، إذ يشهد التاريخ أن أمثال أبي حنيفة تتلمذوا عند الإمام الصادق  (عليه السلام)، لكنهم لم يرووا عنه إلا القليل حتى يظن السامع أن هذا مما وصل إليه بنفسه رغم اعترافه بـ(لولا السنتان لهلك النعمان)[34] هذا أولاً.

وأما ثانياً: فإن بعض المعاني المتداولة سابقاً لـ: (الصمد) وإن كانت موجودة، إلا أن تفسيرها وكيفية إنطباقها على الله تعالى كان هو المحتاج للرجوع إلى الأئمة الأطهار  (عليهم السلام).

وثالثاً: أن نفس (انطباق) معنى دون آخر، لابد له من مرجعية (الثقل الأصغر) ولهذا تفصيل نتركه لمحله والله المستعان.

* من مقدمة كتاب بحوث في العقيدة والسلوك

الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر و التوزيع

وهو مجموعة من البحوث والدروس الهادفة التي تتوخى الاسترشاد بالقرآن الكريم للتعرف على الحقائق (التكوينية والتشريعية) ولا صلاح المجتمع وصولا والى السعادة الدنيوية والأخروية، وللنهوض بالفرد والأسرة والأمة. وقد ألقاها آية الله السيد مرتضى الشيرازي على جمع من علماء وفضلاء الحوزة العلمية الزينبية ليالي الخميس طوال العام الدراسي.

.......................................

[1] (الذاريات:56)

 [2] التوحيد للشيخ الصدوق:ص92 وهي رواية طويلة وجميلة فراجعها..

 [3] (الإخلاص:2)

 [4] الزمر: ٦٢

 [5] (الأعراف: ٥٤)

 [6] (الإنسان:30)

 [7] كلمة لأمير المؤمنين علي (عليه السلام) في نهج البلاغة؛ حكمة 250.. وفيها (وحلِّ العقود).. وفي غيرها: (ومنع الهمَّة)..

 [8] (الذاريات:58)

 [9] (الأحقاف:3)

 [10] (الحجر:26)

 [11] الدخان: ٣٨

 [12] (المؤمنون:14)

 [13] الإنسان: ٣٠

 [14] الأعراف: ٥٤

 [15] الكافي الشريف للشيخ الكليني:ج1 ص160.

 [16] البرهان الإني: هو الانتقال من المعلول للعلة، والاستدلال بالأثر على المؤثر..

 [17] (لقمان:11).

 [18] يمكن مراجعة كتاب (حق اليقين) للسيد عبد الله شبر(رحمة الله)، و(شرح التجريد) للعلامة الحلي (رحمة الله) و(كفاية الموحدين) وغيرها.

 [19] بحار الأنوار للمجلسي: ج3، ص225.

 [20] نهج البلاغة: خطبة156.. ووردت قريباً من هذا المعنى في كلمة أخرى له  (عليه السلام) في الحكمة 374..

 [21] ولأمير المؤمنين  (عليه السلام) كلام دقيق حول ذلك يفوق ما أشرنا إليه ولعل مفاده أن (الواحد) وإن نفى (وقوع) الثاني والثالث إلا أنه لا ينفي (إمكانه) إذ للواحد إطار عام هو (النوع) لذا لابد من (الأحد) وستأتي الإشارة له في المتن بعد قليل والله العالم.

[22] مخطوط.

[23] من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق:ج2 ص605..وداع الإمام الرضا  (عليه السلام)، وراجع مفاتيح الجنان قسم زيارة الإمام الرضا  (عليه السلام).

[24] للفيض الكاشاني (رحمة الله)..

[25] تفسير الصافي للفيض الكاشاني: ج5 ص391 تفسير سورة الإخلاص.. وتفسير نور الثقلين للحويزي: ج5 ص711..

[26] من الآية الثالثة لسورة الحديد..

 [27] هو محمد بن الإمام علي بن أبي طالب  (عليهم السلام)، وعُرف بأمه، وكان من أبطال الهواشم، وعلماءهم، وله مواقفه المشهودة..

 [28] (المائدة:64)

 [29] راجع تفسير الصافي للفيض الكاشاني في ذلك لتجد عدداً من الروايات عن الإمام الباقر  (عليه السلام) بهذا الشأن..

 [30] وقيل لا علم له بذاته وقيل لا يعلم معلولاته

 [31] راجع الكتاب: (الضوابط الكلية لضمان الإصابة في الأحكام العقلية) للسيد (دام ظله)`.

 [32] راجع مثلاً تفسير البرهان للسيد البحراني (رحمة الله)، ونور الثقلين للحويزي (رحمة الله)، والصافي للفيض الكاشاني (رحمة الله)، والبحار للمجلسي (رحمة الله) وغيرها..

 [33]  حيث يقول الله تعالى:  وفي دعاء الإمام عليه السلام: (يا من دلَّ على ذاته بذاته).

 [34] التحفة الاثني عشرية للآلوسي: ص8.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 13/آذار/2010 - 26/ربيع الأول/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م