فشل نهج المفاوضات لا يكمن فقط في قوة إسرائيل وفي ضعف الفريق
الفلسطيني المفاوض، ولكن أيضا والأهم يكمن في غياب البديل لدى
الفلسطينيين والعرب عموما، وقول عمر موسى ومسئولون فلسطينيون بأنهم
يمنحون فرصة أخيرة لإسرائيل لا يعني أن لديهم بديل عن المفاوضات إن
فشلت مجددا، وبالتالي فالفلسطينيون وفي ظل استمرار حالة الانقسام وعدم
الاتفاق على استراتيجية وطنية للمقاومة، ليس أمامهم إلا أحد خيارين
أحلاهما مر كما يقال:إما الاستمرار بالمفاوضات العبثية التي تغطي على
الاستيطان الصهيوني بل تشرعنه بطريقة غير مباشرة، وإما الدخول في حالة
ألا حرب وألا سلم أو ألا مقاومة وألا مفاوضات.
استنجاد السلطة الفلسطينية بلجنة المتابعة وبجامعة الدول العربية لن
يغير من الواقع شيئا فلا لجنة المتابعة ولا الجامعة العربية يملكا من
أمرهما شيئا فبالأحرى أن يمنحا فرصا أخيرة للآخرين ففاقد الشيء لا
يعطيه. في تعملنا اليومي كما في السياسة، فإن منح فرصة أخيرة للخصم لا
يكون إلا من القوي إلى الضعيف، أو على الأقل يكون توازن للقوى بما يدفع
الخصم لإعادة حساباته حتى لا تُهَدَد مصالحه، ولم يحدث أن هدد الضعيف
بمنح فرصة أخيرة لخصمه الأقوى منه.
عندما سمعنا السيد عمر موسى الأمين العام لجامعة الدول العربية يبرر
موقف جامعة الدول العربية بالموافقة على المقترح الفلسطيني الرسمي
بإجراء مفاوضات غير مباشرة مع إسرائيل، بأنه فرصة أخيرة لإسرائيل مدتها
أربعة أشهر، لم نعرف هل نضحك على موقف هزلي عربي تجلى في منطوق النص
الذي قرأه الأمين العام للجامعة وفي طريقة الإلقاء وفي الصمت بل
والاستهتار الرسمي لعديد من الدول العربية؟أم نبكي على حالة عربية وصلت
حدا من الهزل لم يعد فيها القادة يحترمون شعوبهم بل يتعاملون معهم
وكأنهم قطيع من الأغبياء والجهلة ؟.
الذي يمنح فرصة أخيرة هو القوى ولا نعرف ما مصدر قوة عمر موسى
وجامعته العربية ولا مصدر قوة الحالة السياسية الفلسطينية المنقسمة على
نفسها، فلا الجيوش العربية تحاصر إسرائيل، ولا توجد مؤشرات بأن الحال
العربي سيكون أفضل بعد أربعة أشهر، ولا يوجد حتى إجماع عربي حول القرار
وحول مجمل القضية الفلسطينية. فكيف يمكن للعرب منح فرصة لإسرائيل وهم
غير قادرين على إعادة إعمار غزة ولا رفع الحصار عنها ولا انجاز
المصالحة الفلسطينية ولا وقّف تهويد القدس ولا حتى وقّف التطبيع
ومقاطعة إسرائيل سياسيا واقتصاديا وثقافيا!. لا يعني هذا أن الأمة
العربية ضعيفة وأن الشعب الفلسطيني ضعيف بالمطلق، ولكن المراد من قولنا
هوان الأنظمة السياسية والنخب المتولية لأمر الأمة العربية ليس لديها
الاستعداد ولا الإرادة لخوض مواجهة مع واشنطن وتل أبيب من أجل فلسطين
والقدس.
القبول العربي والفلسطيني بالمفاوضات غير المباشرة يطرح أكثر من
سؤال ويستدعي الملاحظات التالية:-
1- إن قرار العودة للمفاوضات وإن تكن غير مباشرة ليس قرار جامعة
الدول العربية وأمينها العام ولا اقتراحا فلسطينيا، بل مقترح أمريكي لم
يكن أمام السلطة الفلسطينية وجامعة الدول العربية، التي مقرها مصر إلا
قبوله.
2- لم تكن المشكلة بالمفاوضات لأنها مباشرة وبالتالي صيرورتها غير
مباشرة سيحل المشكلة، المشكلة كانت في غياب مرجعية المفاوضات وفي
الاستيطان وهذا ما قال به الرئيس أبو مازن، وان تعود المفاوضات مع
استمرار الاستيطان وبدون مرجعية وبدون حتى ضمانات أمريكية أومن
الرباعية، معناه الخضوع للشروط الإسرائيلية والأمريكية.
3- العودة للمفاوضات مع استمرار الاستيطان وبدون مرجعية، وان يقود
المفاوضات نفس الفريق الفلسطيني الذي فاوض لثمانية عشر عاما فيما تغير
الفريق المفاوض الإسرائيلي أكثر من مرة وتعاقبت عدة حكومات إسرائيلية،
معناه مزيد من الابتزاز الإسرائيلي ومنح فرصة إضافية لإسرائيل لتستكمل
مشروعها الاستيطاني والتهويدي في الضفة والقدس، ولم تنتظر إسرائيل
طويلا لتعلن عمليا وليس فقط قولا، عدم التعارض بين الاستيطان
والمفاوضات فقد أعلنت عن خطة لبناء 120 وحدة استيطانية في نفس يوم صدور
قرار اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير بالموافقة على العودة للمفاوضات
وفي نفس يوم وجود جورج ميتشل في المنطقة وفي مقر الرئيس أبو مازن.
4- قبول السلطة والفريق المفاوض بالمفاوضات حسب التصور الأمريكي لا
يعود لان السلطة تراهن بأن تؤدي المفاوضات لإخراج المشروع الوطني من
أزمته، بل لان نخبة السلطة تخشى فقدان السلطة وامتيازاتها وفقدان
حضوتها لدى واشنطن، أيضا اقتصار ردة فعل حركة حماس على مجرد تنديدات
لفضية ومناشدات لأهالي الضفة بالتظاهر وكأن غزة وحكومتها تتواجدان ما
وراء المحيطات، يدفع للقول بأن حركة حماس التي تحولت لسلطة تخشى فقدان
سلطتها في غزة، ويبدو أن السلطة لدى الطرفين أصبحت هدفا بحد ذاته
وبديلا عن الوطن.
5- إن كان لا بد من مفاوضات فلتكن مباشرة وعلنية وعلى أسس واضحة،
فالمفاوضات غير المباشرة – كما هو الحال مع سوريا مثلا- تكون في حالة
وجود قطيعة وعداء بين الطرفين، وبالتالي تساعد المفاوضات غير المباشرة
ليتعرف كل طرف على الآخر ولاختبار النوايا وتمهد للمفاوضات المباشرة،
أما في الحالة الفلسطينية فهناك علاقات متداخلة وتجربة طويلة من
المفاوضات المباشرة وغير المنقطعة والتعايش المشترك، وكل فريق مفاوض
يعرف الآخر جيدا. المفاوضات غير المباشرة حاليا أخطر من المباشرة لأنها
تخفي درجة من السرية، وحيث أن واشنطن هي الطرف الوسيط فالفلسطينيون
سيكونون في مواجهة واشنطن وتل أبيب وكيفما كان مصير المفاوضات فالرواية
الفلسطينية عن المفاوضات ستكون الأضعف.
6- السؤال الأهم والأخطر، لماذا هذا الإصرار للعودة للمفاوضات وان
تكون بموافقة عربية رسمية، بالرغم من أن كل الأطراف تقول علنا إنها لا
تتوقع أي تقدم خلال الشهور الأربع المحددة؟فهل هناك تسوية ما طُبخت
بالسر وسيتم الإعلان عنها قريبا ؟ أم أن العودة للمفاوضات سيكون تغطية
على إجراء عسكري في المنطقة، إسرائيلي أو أمريكي أو مشترك؟.
ولكن وبالرغم مما سبق يبقى السؤال:هل لدى الفلسطينيين والعرب من
خيار آخر غير المفاوضات ؟بدون مكابرات وبعيدا عن الشعارات الكبيرة فإن
السلطة الفلسطينية والأنظمة العربية ليس لديهم من بدائل غير التمسك
بنهج التسوية ولا تسوية بدون مفاوضات، وحتى بعد الأشهر الأربع المحددة
للمفاوضات وبغض النظر عن نتائجها، فلن يكون أمام العرب والفلسطينيين
إلا (منح فرصة جديدة )لإسرائيل بذرائع وتبريرات جديدة، لتستكمل مشروعها
الاستيطاني، لأنه ليس هناك بديل جاهز لا عربي ولا فلسطيني، القول
بالمقاومة والممانعة كبديل هو قول خطابي فارغ المضمون، حيث لا أحد من
الحكومات العربية ولا كلها مجتمعة مستعدة للحرب من أجل فلسطين ولا
راغبة فيها، فهم تخلوا عن هذا الواجب القومي منذ عام 1974 عندما
اعترفوا بمنظمة التحرير كممثل شرعي ووحيد، وهو لم يكن اعترافا مؤسَسَا
على إيمان بقدرة الفلسطينيين على تحرير وطنهم ولكنه كان ستارا يخفي
تخلي العرب عن مسؤوليتهم القومية، ولا السلطتين والحكومتين الفلسطينتين
مستعدتان لتفعيل خيار المقاومة، فكل منهما يخشى فقدان السلطة إن مارس
المقاومة.
السلطة الوطنية أخطأت بالعودة للمفاوضات، ولكن أيضا حركة حماس وبقية
الفصائل تتحمل مسؤولية، لأنها في الوقت الذي تعارض وتنتقد نهج
المفاوضات لا تطرح بديلا، مجرد القول بالمقاومة أو الممانعة لا يعتبر
مشروعا سياسيا ولا وطنيا في ظل غياب إستراتيجية عمل وطني ووحدة وطنية،
ومجرد الرفض لا يصلح للتعامل مع القضية دوليا. رفض مبدأ المفاوضات دون
بديل معناه الدخول في حالة ألا حرب وألا سلم وهذه الحالة هي التي
تريدها إسرائيل وواشنطن حيث يريدان إدارة الأزمة لا حلها، وفد جربنا
نتائج هذه السياسة خلال الأشهر العشر التي مرت على وقف المفاوضات، حيث
كثفت إسرائيل الاستيطان والتهويد في القدس، بل وصل الحد لتعلن أن الحرم
الإبراهيمي في الخليل ومسجد بلال في بيت لحم جزءا من التراث اليهودي
بمعنى أن الخليل وبين لحم جزء من ارض أرض إسرائيل.
نعم نرفض عودة المفاوضات بدون مرجعية وفي ظل استمرار الاستيطان سواء
كانت مفاوضات غير مباشرة أو مباشرة، ولكن الرفض كمجرد خطاب لن يكون إلا
رفضا عدميا أو يدخل في باب اللهم إني قد بلغت، وهولن يوقف عملية
التسوية حسب الرؤية الأمريكية ولن يردع إسرائيل عن غيها. الرد على تل
أبيب وواشنطن واستنهاض الحالة الفلسطينية المأزومة سواء في الضفة أوفي
غزة، عند المراهنين على التسوية أو القائلين بالمقاومة، لا يكون بمزيد
من الغرق في مماحكات واتهامات متبادلة مرة حول الفساد وأخرى حول
الاعتقالات ومرة حول تقرير جولدستون وأخرى حول المفاوضات الخ، لا نقلل
من أهمية هذه القضايا ولكنها تداعيات لغياب الاتفاق على إستراتيجية
وطنية طويلة المدى، غياب الاتفاق على ثوابت للمشروع الوطني وإحلال
السلطة محله سيؤدي لمزيد من التدهور في الحالة الوطنية، لن يتحرر الوطن
إلا إذا تحرر المشروع الوطني من السلطة واستحقاقات التسوية الأمريكية
الراهنة، أو تصالحت السلطة مع المشروع الوطني وتحولت لأداة مؤقتة لخدمة
المشروع الوطني كمشروع تحرر وطني.
ibrahem_ibrach@hotmail. com |