العبادة تشريفٌ لا تكليف

آية الله السيد مرتضى الحسيني الشيرازي

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا ونبينا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم:(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)[1]

دروس وإضاءات في الآية الكريمة

يمكن أن تُستفاد من هذه الآية الشريفة، مجموعة دروس، كما تُستفاد منها مجموعة من المطالب، والإضاءات.

والدروس هي أولاً: (تحديد الهدف) وثانياً: (الوضوح في الهدف) وثالثاً: (سمو الهدف) ورابعاً: معرفة (الهدف من الهدف) أو (فلسفة الهدف).. وإليكم بعض التوضيح.

أولاً: تحديد (الهدف) في الحياة

الدرس الأول: هو ضرورة تحديد الغاية والهدف من أي عمل، أو موقف، أو قرار، أو أخذ أو عطاء، أو قبول أو رفض، بل في أية حركة وتصرف من تصرفاتنا، وفي كل سكنة، بل حتى مثل (الأكل) و(النوم) لابد من أن يحدد لهما الإنسان هدفاً، وبالهدف سيتلوّن (النوم) ليكون (عبادة)، أو يكون مجرد (عمل مباح)، بل حتى ليكون مقدمة حرام أيضاً لا سمح الله..

إن الله سبحانه وتعالى قد حدَّد الهدف والغاية من الخلقة بوضوح، بقوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ).. فنتعلم من هذه الآية الشريفة الدرس الأول في الحياة، وهو (تحديد الغاية) و(تعليل الأفعال)..

فعندما يأتي الطالب للحوزة العلمية المباركة عليه أن يُحدد (الغاية)؛ لماذا ينتمي إلى هذه الحوزة العلمية المباركة؟ هل ليصبح مفكراً؟ أو ليصبح مربياً؟ أو ليصبح مؤسساً؟ أو ليصبح مبلغاً؟ أو لغير ذلك؟ فالغاية يجب أن تُحدد.. وكما أن الطالب مسؤول عن تحديد هدفه أو أهدافه، كذلك يقع جزء من المسؤولية على (الأساتذة) وعلى (الإدارة)، فإن على الأستاذ وعلى الإدارة أن تتفاعل مع الطالب لكي تكتشف: أن نفسيته تنسجم مع أي هدف وقدراته توصله لماذا؟ و(الضرورات) المرحلية والإستراتيجية، تقتضي ماذا؟ فهل هذا الطالب يُصلح أن يكون مبلغاً، أم مفكراً، أم مربياً، أم مؤسساً، أم محققاً أم مرجع تقليد؟ أو أنَّ الأولى له، أن ينصرف إلى مجال آخر؟

الشيخ الإسلامي مؤسساً

المرحوم الشيخ عباس علي الإسلامي (قدس سره) في قصة مُفصَّلة، وهو رجل دين، من الناحية الظاهرية عادي، ولكنه حدد لنفسه هدفاً وهو أن يكون (مؤسساً).. ومن النمط الرفيع.. فطوال خمسين سنة هذا الرجل، الذي لم يكن يسنده أحد، إلا الله سبحانه وتعالى، وإلا هِمَّته الرفيعة.. هذا الرجل استطاع أن يُؤسس (ثلاثمائة مدرسة)!!.. في خمسين سنة أسس ثلاثمائة مدرسة!.. أي في كل سنة (ست مدارس).. أي كل شهرين مدرسة.. ولا يعرف صعوبة ذلك إلا من جرب تأسيس مؤسسة واحدة ليعرف كم من الجهد والأعصاب والوقت، يستنزف تأسيس مؤسسة واحدة؟

إن هذا رقم خيالي في منطق رجل الدِّين العادي، الذي ليست له ثروة، وليست له مرجعية، وليست له تلك الشخصية المميزة والمعروفة.. رجل واحد، ولأنه حدّد الهدف، وتسلح (بالتوكل على الله تعالى) واستعان بالتوسل بالرسول وأهل بيته الأطهار (عليهم السلام)، استطاع أن يؤسس ثلاثمائة مدرسة.. وهذه الثلاثمائة مدرسة ربَّت خمسين ألف طالب.. وهذا العدد هائل.. وغريب فعلاً.. والأغرب إنه تعرض للملاحقة والسجن ليكف عن ذلك.. لكنه استمر.. نعم.. لقد سجن ثمانية وخمسين مرة!! ولم يتراجع.. وحكم عليه بالإعدام تسع مرات كما نقل كل ذلك السيد الوالد (قدس سره) ما عنه ولم ينثنِ ولم يتراجع وكان إن بارك الله في جهوده وعطائه.

فالإنسان عليه أن يتعلم من هذه الآية القرآنية الشريفة أن يحدد الهدف.. فالله حدد الهدف من الخلق: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ).. وأنا عندما أنتمي للحوزة العلمية، علي أن أسأل نفسي لماذا الحوزة؟ أو عندما أتاجر، لماذا أتاجر؟ حتى أدافع بهذه الثروة عن حريم الدين؟ أم أقوي اقتصاد البلد؟ أم أسرح، وأمرح كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (كَالْبَهِيمَةِ الْمَرْبُوطَةِ هَمُّهَا عَلَفُهَا أَوِ الْمُرْسَلَةِ شُغُلُهَا تَقَمُّمُهَا..)[2] والعياذ بالله، أم ماذا؟.

الميرزا مهدي الأصفهاني مُربياً

أحد علمائنا الأبرار كان له هدف محدد وهو: أن يكون (مربياً)، وهو المرحوم الميرزا مهدي الأصفهاني (رحمة الله)، هذا الرجل حدد لنفسه هدفاً؛ بأن يُربي سلسلة، ومجموعة من الفطاحل، ومن العلماء الصالحين، الذين يرفعون رأية (الحديث الشريف) و(العقل الرباني) في مقابل (الفلسفة) و(العقل الطاغي) بل (الوهم الطاغي)، قبل ما يقارب خمسين سنة في مشهد المقدسة.. وبالفعل ربى العشرات، بل المئات من الفطاحل، والأعلام الذين ذبُّوا عن حريم الدِّين..

ويكفيكم أن تعلموا؛ بأن أحد تلامذته، وهو المرحوم الشيخ الحلبي، هذا الرجل الذي تتلمذ في النجف الأشرف في البداية، وكان فيلسوفاً يدرُس ويدّرس الفلسفة لمدة عشرين عاماً أو أكثر، ثم وعلى يدي الميرزا مهدي الأصفهاني، المؤسس للمدرسة التفكيكية، اتضحت هنالك له الحقائق، فسلك مسلك أهل البيت (عليهم السلام) في القضايا كلها وهو مسلك العقل المسترشد بالوحي لا مسلك الفلاسفة.. وهو مسلك (العقل المتكبر على الوحي) والذي هو في واقعه (وهم مستعلٍ على الوحي).[3]

وكاستطراد وهو في الواقع ضروري أقول: إذا أردتم أن تعرفوا اختلاف مَسلك الفلاسفة عن مسلك أهل البيت  (عليهم السلام)، وإنهما طريقان لا يجتمعان، ومنهجان متعاكسان، ونتائجهما متضادة، فيكفيكم أن ترجعوا إلى فيلسوف - هو حجة في الفلسفة، كما هو عَلَم في التفسير، ويقبله الفيلسوف، وغير الفيلسوف - وهو العلامة الطباطبائي، حيث يُصرِّح في الجزء الخامس من تفسير الميزان: بأن مَسلك الفلاسفة على مرِّ التاريخ، يختلف عن مَسلك الأنبياء والمرسلين  (عليهم السلام)، وإنهما لا يجتمعان كما أن منهج العرفاء مع منهج الأنبياء لا يجتمعان أيضاً.[4]

وإنك مهما حاولت أن نوفق وتجمع، ومهما حاول الأعاظم من الفلاسفة والعرفاء أن يجتمعوا إلا أن النتيجة هي: (ألفيت كل تميمة لا تنفع). ولذلك مجال آخر.

الميرزا مهدي الأصفهاني؛ كان هدفه، أن يُربي سلسلة من التلاميذ.. وربَّى العشرات، بل المئات من الفطاحل، ومنهم الشيخ الحلبي.. والشيخ الحلبي - على حسب إحصاء نُقل لي - ربَّى من الشباب الجامعي المتدين، أكثر من خمسين ألف شاب جامعي، وأسس لذلك: تجمعاً إيمانياً باسم صاحب العصر والزمان (عجل الله فرجه) كان هدفه تهذيب النفوس وتزكيتها، وتطهير الأرواح وتربيتها وصقلها والسمو بها، أي كان يهدف بناء (الإنسان الصالح) و(المجتمع الصالح)، فكان يتعهد الطالب، من حين هو طفل عمره سبع سنوات، إلى أن يتخرج من الجامعة، والحقيقة أنا رأيتُ قسماً من تلامذة الشيخ الحلبي، سواء في إيران، أم في أميركا، أم في الكويت، أم في غيرها.. فقد كانوا بحق شباباً جامعيين، دكاترة، ومهندسين، ومحامين، من خيرة المتدينين.. الشيخ الحلبي كان هدفه أن يُربي الشباب الجامعي، ليكون أنموذجاً في الصلاح والإصلاح.. وعلى هذا الدرب مشى وسار ربما لأكثر من خمسين عاماً..

أنا بصفتي رجلاً منتمياً إلى الحوزة العلمية يجب أن أُحدد الهدف.. أو عندما أبدأ أي عمل جديد عليّ أن أحدد هدفي، وإن لم أفعل فلأبدأ من الآن.. فما هو هدفي؟ أن أصبح (مربياً) وصاحب مدرسة تصحيحية، كالميرزا مهدي الأصفهاني، أو الشيخ الحلبي؟ أم أن أكون (مؤسِّساً) كالشيخ عباس علي الإسلامي (قدس سره)؟ أم أصبح (مفكراً) و(مجاهداً) و(مؤسِّساً) كالشهيد السيد حسن الشيرازي (رحمة الله)، أو مرجع تقليد مجدِّداً، ومناهضاً للاستبداد والاستعمار، كالميرزا الشيرازي الكبير والآخوند الخراساني (رحمهما الله) وغيرهما؟ أم غير ذلك أم كل ذلك؟

والخلاصة: إن على الإنسان أن يُحدد الهدف، ثم يسعى إليه، فالدرس الأول الذي ينبغي أن يُستفاد منه من هذه الآية المباركة هو ضرورة تحديد الهدف..

ثانياً: الوضوح في الأهداف المُحددة

الدرس الثاني: هو ضرورة (الوضوح في الهدف).. تأملوا؛ الآية جداً واضحة فليست فيها تعقيدات الفلاسفة.. سأل أحدهم فيلسوفاً، عن الله، فقال: مَنْ هو الله،أو ما هو الله؟ فقال الفيلسوف: اسطقص فوق الاسطقصات..

ما هذا التعقيد؟ والولع بالألغاز والأحاجي والمصطلحات الغامضة حتى على قائلها في كثير من الأحيان؟ هذا على عكس منهج القرآن الكريم، الذي منهجه الوضوح، والبيان، لا الطلاسم والرموز.. بل عمق في الوضوح، لا الإغراق بالمبهمات..

وأين تلك العبارة وأشباهها مما جاء في الذكر الحكيم (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) (مَلِكَ الْمُلْكِ)ولاحظوا عبارات الفلاسفة، وتأملوا وقارنوها مع روايات أهل البيت (عليهم السلام)، وأين الثريا وأي الثرى؟

ومن الغريب إنني أنا شخصياً رأيتُ واحداً من أشباه العلماء وأقول: إنه وأشباهه، من أشباه العلماء وإن تصوره الناس من العلماء أو من كبار العلماء حقيقة هزَّني هزاً، فرأيتُ كيف أن الشيطان يتمكن من الإنسان؛ والعياذ بالله.

رجل من العلماء قال لي ذات مرة حيثُ كان مُولعاً بالفلسفة، ويُدرِّس بعض الكتب الفلسفية الشهيرة قال لي: أنا أطالع روايات أهل البيت، فلا أرى فيها شيئاً من العمق؟!

أنتَ لا ترى فيها شيئاً، أم الشيطان متمكن منكَ؟ العمق في كلام ملا صدرا وليس في كلام رسول الله  (صلى الله عليه وآله وسلم)؟!! هكذا يُمسخ الإنسان.. يقول وهذا نصُّ عبارته تقريباً: أطالع، ما أرى فيها شيئاً، أي هو كلام سطحي.. بينما كلام الملا صدرا، أو أبي علي بن سينا، أو الفارابي، أو ابن رُشد.. فيه العمق؟!

والحال في الرواية: أن العلم نقطة، كثَّرها الجاهلون[5]..

فكلام أهل البيت  (عليهم السلام)، يعطيك اللب واللباب والجوهر وحاق الحق و(المعرفة الحقيقية الحقة) وبأقل الكلمات وأوضحها (خير الكلام ما قل ودل)، لا مجموعة قشور واصطلاحات غامضة، وألغام وأشواك لفظية، وطلاسم وأحاجي، و(جهل مركب) أُلبس لباس العلم، فالذي يَفهمك ويفهم عمق الحقائق، يُفهمك ببساطة، ويعطيك الحقيقة بتلك البساطة.. خُذ قوله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴿1﴾ اللَّهُ الصَّمَدُ ﴿2﴾ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ﴿3﴾ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴿4﴾)..[6]

أين التعقيد في هذه السورة المباركة؟ هي في أوج العطاء، وفي شدة العمق، بل وعمق العمق، لكنها في الوقت نفسه، في قمة البساطة، والسلاسة، والعذوبة أيضاً.. لا تعقيد ولا تضاريس، بل الوضوح.. كل الوضوح..

اذهب إلى كتب الفلسفة، واقرأ التعقيد، حقيقة هي طلاسم، خفيَّة على قائلها.. بل اقرأ (الجهل المركب): (الوحدة في عين الكثرة والكثرة في عين الوحدة) و(الواحد لا يصدر منه إلا الواحد ولا يُصدر إلا الواحد)!!

يقول الرجل: الروايات أطالعها ما أشوف فيها شيء.. ولم يتجرأ ليقول: لا أرى في (الآيات القرآنية الكريمة) شيئاً أيضاً أعاذنا الله من سلطان الشيطان ومسخ العقول وعبودية الأوهام والله سبحانه وتعالى- تأمل الوضوح- يقول: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)..

لاحظ: الوضوح.. كل الوضوح، ليس فيها تعقيد أبداً.. (أريد منكم أن تعبدوني)؛ هو هذا الهدف وانتهى الأمر، لا زيادة، ولا نقيصة.. فالدرس الثاني، الذي نتعلمه من الآية الكريمة: هو الوضوح في الهدف..

والآن أنتم مثلاً كرجال دين، هدفكم أن تصبحوا مبلغين، هكذا حَددتم الهدف، ولكن الوضوح يعني أن تعرف وتُحدِّد، أَمُبلِّغ في الشرق، أم مبلغ في الغرب؟ فالأمر جداً مُختلف.. فمقتضيات هذا، تختلف عن مقتضيات ذلك..

فإذا كان الإنسان يُريد أن يُبلِّغ في الهند، فهو يختلف عمَّن يريد أن يبلغ في أميركا، وهذا يختلف عمَّا إذا أراد أن يبلغ في الصين، وذلك يختلف عما إذا أراد التبليغ في بلد إسلامي.. وكل بلد منها له خصوصياته أيضاً.

إن الوضوح في تحديد الهدف عامل مهمٌّ للنجاح.. فأنا أريد أن أُبلِّغ؛ ولكن أين أُبلغ؟ في هذه المنطقة، أم في تلك المنطقة؟ أكون داعية دينياً، أم داعية مذهبياً؟ هذا يختلف.. مقتضياته تختلف، الكتب التي يجب أن يُطالعها تختلف.. أو أن يكون هدفه الأقصى مواجهة المد الإلحادي، أو الشركي، أو التكفيري، فيختلف الأمر في ذلك كله..

ثالثاً: ضرورة اختيار الهدف الأسمى دائماً

الدرس الثالث: الذي نستفيده من الآية الشريفة هو؛ (ضرورة أن يكون الهدف هو أسمى هدف ممكن).الله منحنا أسمى هدف، وأعلى هدف، وآخر هدف.. (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ).

إن رجل الدين، أو الشاب المثقف، يمكن أن يأتي، ويدرس كمتفرغ أو في ضمن دورات في العطل الصيفية وغيرها، حتى يكون -على سبيل المثال - مبلغاً في قرية، هل هذا هو المطلوب من رجل الدين؟ أو أن يكون مبلغاً في مدينة؟ أو أن يكون مبلغاً في عاصمة؟ أو أن يكون داعية على مستوى الكرة الأرضية؟ وهذا ما يسمى بـ (سموِّ الهدف)..

الله سبحانه وتعالى طرح لنا في الآية الشريفة،أسمى هدف في الحياة، الهدف الذي لا هدف فوقه،ولا شيء مثله:(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) أعلى شيء، وأكبر شرف، وأسمى وظيفة، وأسمى منزلة،وأرفع مرتبة، للإنسان في هذه الحياة؛ هي عبادة الله سبحانه وتعالى..

إن سمو الهدف يتجلى في: (نوعه) أولاً وفي (إتجاهه ووجهته) ثانياً، وفي (كميته) ثالثاً، والأمثلة الثلاثة الآتية تجسد هذه الأنماط الثلاثة:

المثال الأول: إذا أتيت بخادم عرفت فيه الإخلاص والأمانة لكي يكنس البيت ويغسل الصحون وما أشبه ذلك، وبعد ذلك، رأيتَ أن هذا الرجل وإن كان هدفه أن يخدمك، لكنه جدير بأن يخدم أهدافك الكبرى، وأهل لأن يربي أولادك، أو أن يربحك في تجارتك مثلاً فأين هذان الهدفان عن الهدف الأول؟

المثال الثاني: الإنسان تارة يهدف خدمة صديقه، وتارة يهدف خدمة والده، رتبتان من الهدف صديقه، أو والده.. فـ(اتجاه الهدف) أو (من تهدف خدمته) يحدد قيمة العمل أيضاً..

المثال الثالث: ثم إن (الكمية) لها مدخليتها أيضاً، إذ تارة يهدف الإنسان هداية عشرة، وتارة يهدف ويستهدف هداية مليون.. هنالك هدف دون هدف، وهدف فوق هدف، كماً، وكيفاً، وجِهةً، (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) فهذه أسمى مرتبة في الأهداف..

ولذا نرى الإمام أمير المؤمنين  (عليه السلام)، يقول: إلهي؛ كفى بي عزاً أن أكون لك عبداً، وكفى بي فخراً أن تكون لي رباً، أنت كما أحب فاجعلني كما تحب..[7]

هذا هو الهدف الأسمى، أن يكون الإنسان عبداً لله سبحانه وتعالى..

كأس شاي بعشرة آلاف دينار!

وأمثِّلُ لكم مثالاً لطيفاً، تاجر من التجار من إحدى البلاد- لا نذكر اسم البلدة حتى لا يعدّ اهانة لتلك البلدة - التي كان الاستعمار يحكم فيها، وكان يضايق المستقلين، والذين لا ينضوون تحت لواء الظلم، والاستعمار، فهذا التاجر لطبيعة مواقفه أخذوه، وسجنوه، ثم صادروا ما تيسَّر لهم من أمواله..

وعندما خرج من السجن وكانت عنده تجارات في دولة ثانية أيضاً هاجر مع أهله إلى العراق -هذه قصة حقيقية وهي في الوقت نفسه ترمز إلى قصتنا نحن وتكشف عن عمق حياتنا نحن- لكنه نتيجة للسجن الذي سُجن فيه، وبعد الهجرة، والمشاكل، ورغم أن أموالاً كثيرة نقلها معه، إذ كان تاجراً عملاقاً مليارديراً إلا أنه على أثر هذا الضغط الذي تعرَّض له، أصيب بلوثة في عقله، أي صار عنده نوع من السَفَه، أو عنده نوع من الخَبَل المُبَسَّط وقد تجلّى خبله بهذه الطريقة: أنه كان يأتي، ويصنع لنفسه الشاي، فكان يُمسُك الدنانير - والدينار بذاك الوقت في العراق قبل ستين، أو سبعين سنة كانت قوتها الشرائية عالية جداً فعشرة آلاف دينار التي الآن سنتحدث عنها ربما كانت تُعادل قوته الشرائية مائة ألف دولار بعملة اليوم أو قريباً منها - فكان يأتي بـ(غوري شاي) وبدل أن يُشعل الحطب تحته حتى يستوي و(يتهدّر)، كان يأتي بهذه الدنانير، ويُشعلها تحته ديناراً فديناراً ودنانير فدنانير.. فيحرق عشرة آلاف دينار حتى يصنع غوري شاي واحد، ثم يشرب الشاي ويقول مبتهجاً، مبتسماً، فرحاً: الله!! هذا الشاي يسوه عشرة آلاف دينار، أي قيمته عشرة آلاف، وينتابه شعور بالسرور والفرح الغامر لأن هذا الشاي يساوي عشرة آلاف دينار!!

هذه القصة واقعية، والوالد  (رحمة الله) ربما قد رأى هذا الرجل مباشرة أو ينقل عمَّن رآه..أن الرجل، يشرب الشاي ويسعد أن قيمة هذا الشاي الذي يشربه، عشرة آلاف دينار!!، أي عندي ثروة طائلة جداً، فمائة ألف دولار هذه أحرقها لوهم لا غير.. هذا الإنسان مَنْ هو؟ أليس هو (نحن) أيضاً؟!

هذه قصة واقعية، إلا أنها هي قصتي أنا، وقصة أشباهي من البشر أيضاً..

الله تعالى يقول: أنا خلقتك حتى تعبدني، فقيمتك هي هذه، قيمة الدينار أن تشتري به مزرعة، فتخدم العباد، والبلاد، وتخدم أهلك، وليست قيمة الدينار أن تحرقه، وتشرب فيه الوهم والشاي..

فأنا الآن بيدي وتحت تصرفي (عمري) ماذا أفعل به، أحرقه في مجالس البطالين، وفي النوم الكثير، أو لا؟

الله يقول لنا: أن هذا العمر ثروة طائلة، تشتري بها جنان الخلد، وتتزوج بها الآلاف من الحور العين، فلا تبعه بالرخيص، أو تشتري النار التي سجرها جبارها لغضبه، ولنعم ما قاله الشاعر:

أنفاس عمرك، أثمان الجنان فلا

تشري بها لهباً في الحشر يشتعل؟[8]

هذا الإنسان الذي يُصاب بلوثة في عقله، هو بعضنا نحن.. لماذا؟ لأن أمير المؤمنين علياً  (عليه السلام) قال: (واعلموا أنه ليس لأنفسكم ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها إلا بها)[9]، وها نحن ماذا نصنع بأنفسنا وأوقاتنا ولحظات عمرنا؟ أنت شيء غالي، وبرأس مالك وهو العمر اشتر شيئاً غالياً هو الجنة، لا تشتر به كأس شاي وتشربه مسروراً بطراً.. نحن نُسر كثيراً عندما نخرج إلى نزهة.. ثم نتحدث عنها بشغف: لقد خرجنا إلى نُزهة، والنزهة جميلة كانت!! أي أحرقتُ وقتي!! كذاك الرجل، ولكن بدلاً من الشاي اللذيذ، كانت جلستنا في مجالس البطالين، حتى لو أن الإنسان قضى وقته في المهم، وليس في (الأهم)، الذي هو غاية العبودية لله سبحانه وتعالى، هذا أيضاً مُتلف لوقته، وبدل ما يشتري بالدينار ملابس يتدثر بها، يشتري (حامض حلو)، ويجلس ليأكله في الشتاء..!!

صحيح أن لـ(الحامض حلو) نوعاً من الفائدة، إذ يوجد نوعاً من الطاقة في البدن ونوعاً من الانشراح المؤقت، ولكنك كُنتَ تحتاج إلى ملابس تتدثر بها.. وأين هذا من ذاك؟ والإنسان عليه أن يتعلم من هذه الآية القرآنية الكريمة، أن تكون غايته الأسمى العبادة ثم العبادة ثم العبادة، والسمو الروحي والمعنوي وبلا حدود إذ قال تعالى: (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ)هذه هي الغاية الأسمى ولا غير، وما عدا ذلك باطل في باطل، وليس وراء الباطل من طائل..

رابعاً: استكشاف فلسفة الهدف

الدرس الرابع: الذي يُستفاد من هذه الآية القرآنية الكريمة؛ هو التعرف على (الهدف من الهدف)، وضرورة (تحديد الهدف من الهدف)، أو إن شِئتَ فقل: فلسفة الهدف.. الله تعالى ذكر الهدف، ولكن لم يتوقف، بل ذكر فلسفة الهدف أيضاً..

أنت تريد أن تكون مثلاً مبلغاً، أو مفكراً، أو داعية، أو مجاهداً مدافعاً عن حقوق الناس، أو تاجراً خيّراً، أو ما أشبه ذلك، ولكن ما الهدف من هذا الهدف؟

وهنا نكتة لطيفة، تأملوا! فالآيات القرآنية دقيقة، فكل كلمة كلمة منها بميزان.. الله سبحانه ذكر الهدف فقط، وكفى؟ كلا؛ بل أضاف فلسفة الهدف: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) ولكن لماذا يعبدون؟ ويأتينا الجواب:( مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ ﴿57﴾إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ)[10]

أي إن الهدف الذي هو (عبادتي)، ليس لأجلي، وإنما هو لأجلكَ أنتَ.. هذه فلسفة الهدف. (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)هنا عرفنا الهدف، ولكن لماذا علينا أن نعبدك يا رب؟

يقول: لأنه يعود بالفائدة عليكم، وإليكم،ولا يعود إليَّ.. (مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ) ، لا تعبدونني كي أستفيدَ منكم، وإنما أنتم الذين ستستفيدون مني..

(فلستُ أريد منكم عبادتي، لتستثمروا لي، أو لتزرعوا أراضيّ مثلاً كما هو شأن من يستخدم خادماً أو يوظف موظفاً أو يتفق مع مدير من المدراء، فإنني أنا (الرزاق) و(أنا ذو القوة) وإليّ تنتهي كل القوى وأنا (المتين).. فاعبدوني لكي تتكاملوا وتترقوا أنتم).

وفي الحديث القدسي: عبدي خلقتك لتربح عليَّ لا لأربح عليك..[11] الله هو غنيٌ مطلق، ونحن فقراء بقول مطلق.. فنحن الذي نربح، وليس هو حاشاه..

وبذلك يتضح الهدف من الهدف، أو فلسفةُ الهدف..لـ(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)وكان من الضروري بيان ذلك لإمكان أن تحدث شُبهةٌ في الذهن، مثل هل الله يحتاجنا لكي يقول: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)؟ كلا.. يقول ربنا: (مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ)، لماذا: لـ (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ)، فالله غني، وغير مُحتاجٌ لكم، فالأمر يعود لكم برمَّته..

(فإذا أنت عبدتني فأنت الذي سوف تتقدم، وأنت الذي ستتكامل، وأنت الذي ستصل، وتصل، وتصل..) إلى ما لا يمكن حتى لخيالك أن يحلق إليه مثل طفلك، فالطفل يلعب بالبيت، ولكن أنت تبعثه إلى المدرسة لماذا؟ لأن ذلك لصالحه هو، وتدري إنك غداً ستموت، وربما لا تستفيد منه شيئاً، ولكن هذا لصالحه هو.. لأنك تريد مصلحته، ومنفعته..

والمشكلة في الإنسان أنه لا يفهم، يتصور أن قيمته بدُريهمات قليلة يحصل عليها.. وهذا فلسفة الهدف أيضاً درس نستفيدهُ من الآية المباركة، فأنا إذا حَدَّدتُ لنفسي هدفاً كأن أكون مبلِّغاً، أو أن أكون مُدرِّساً، عليَّ أيضاً أن أُفكر لماذا أريد أن أكون مُبلغاً؟

حتى أُشبع في ذاتي الأنا (الغرور) -لا سمح الله- أم حتى أحصل على شُهرة بين الناس؟ أم لكي أحرز رضا الله تعالى؟ فهدف الهدف ما هو؟.. إذ ربما يكون (الهدف) جيداً، ولكن (هدف الهدف) يصبغ الهدف بصبغة رحمانية، أو بصبغة شيطانية..

أريد أن أكون مرجع تقليد، أو مجتهداً، أو تاجراً أو مسؤولاً، أو أي شيء آخر، فلماذا أريد ذلك؟ هل لكي أتمحَّض في خدمة أهل البيت (عليهم السلام)؟ أو لكي أُشبع في نفسي (حبُّ الشُّهرة)، أو ما أشبه ذلك من هذه السفاسف في الحياة الدنيا.. كحبِّ الرِّياسة، وحبِّ الشَّرف على حسب الرواية، وحب الذِّكر وما أشبه ذلك..

وبعد ذلك فإن هذه الآية الشريفة نستفيد منها مطالب عديدة، ودروساً مفيدة أخرى، فإن الدروس التي يمكن أن نذكرها، ونستفيدها من هذه الآية الشريفة، هي عشرون درساً على الأقل، ويمكن ذكر أربعة عشر مطلباً، فلنذكر في هذه العجالة مطلباً، أو مطلبين منها فقط..

العبادة تكليف أم تشريف؟

المطلب الأول: نستكشف من الآية الكريمة: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)، الإجابة على السؤال التالي: هل (لِيَعْبُدُونِ)هذه تكليف، أم تشريف؟

الجواب: أن {ﭸ}، (تشريف)، و(تكريم)، و(تقدير) لنا، وليس (تكليفاً) دون شك وذلك ما نستفيده من (النون) في (لِيَعْبُدُونِ) إذ المعبود هو الله الواحد الكبير المتعال، مالك الملك، الغني المطلق، فأي شرف ستكون عبادته؟

وإذا كانت خدمة (العالم) شرفاً أو خدمة الملك في نظر الناس شرفاً وهو الفقير بذاته، فما بالك بعبادة رب الأرباب، ومصدر الكمالات، ومالك الدنيا والآخرة؟!

إن الإنسان الجاهل يتصوَّر: أن العبادة تكليف، فتراه يقوم لصلاة الصبح، بتثاقل وضغط و(بالقوة)، فهو يرى فيها (كُلفةً)، وزحمةً عليه.. أما الإنسان الذي يعرف الحقيقة، يقول: هذا تشريفٌ لي، هذا أعلى مقام يمكن أن أصل إليه..

والمثال(الخادم) الذي أشرنا له من قبل فيه دلالة، فإذا أتيت بخادم للبيت ليكنس، ولكن بعد ذلك رأيتَ فيه قابلية، فقلتَ له: أنا مُستعدٌ لتكفل نفقات دراستك أبعثك للجامعة، لتصير أستاذاً جامعياً مرموقاً، فإن لم يكن عنده إدراك، ولا شعور، ولا فهم، فقد يتصور ما يريده مولاه (تكليفاً)، فيجيب: (أن أكنس) أمر سهل، أما أن أذهب لأدرسَ، أسهر الليالي، وأطالع، هذا التكليف شاقٌّ جداً..!!

وإن وجدت فيه ذرَّة من الإدراك، والشعور، فإنه سيعرفُ أن ما يقوم به مولاه، تشريفٌ له، وتقديرٌ له، وتكريمٌ له، وفضلٌ منه عليه..

والله سبحانه وتعالى عندما أمرنا بعبادته؛ فإن ذلك هو لنا تشريفٌ، وليس تكليفاً، إذا نظر الإنسان بهذه النظرة الإيجابية إلى العبادة سوف يلتذ بالعبادة، أيما لذة، ويُقبل على الله أي إقبال..

عبادة في الليل البهيم

وهنالك قصة مُفصَّلة وخلاصتها: أن رجلاً كان مسافراً وحده في الصحراء، وكلما جنَّه الليل، وأقبلَ الظلام، كان يبحث في الصحراء عن صخرة أو شجرة أو ما أشبه يلجأ إليها، ولم تكن تلك الصحراء قاحلة، بل كانت فيها أشجار هنا وهناك أو واحات، فكان يبحث عن شجرة وإذا وجدها، كان يصعد فوقها لينام خوفاً من حيوان مفترس، أو حيَّة، أو ما أشبه ذلك..

يقول: وذات مرة، وبينما أنا على ظهر الشجرة، وإذا بي أرى سواداً أقبل من بعيد بإتجاه الشجرة، رجل ربما يكون شاباً، فهو يرى شبحه افترش الأرض، وبدأ يعبد الله سبحانه وتعالى، ويبكي، ويتمرَّغ في التراب حتى الصباح، عدة ساعات متتالية.

نحن أحياناً ساعة نعبد الله، أو عشر دقائق فقط، فنتعب لأننا نراها (تكليفاً)، وليس (تشريفاً)، والكلفة بالقوة، ولذا فإن البعض منا لا يَحس بلذة العبادة.

يقول: حتى الصباح انشغل الرجل بالعبادة، والبكاء، والتضرع، وأية عبادة؟ وأي بكاء؟ وأي تضرع؟ وبعد ذلك عندما اندلع لسان الصبح رفع رأسه إلى السماء، وقال: (الهي قد تقشع الظلام، ولم أقض من خدمتك وطراً).[12]

وكان ذلك العبد الصالح هو سيد الساجدين؛ الإمام علي بن الحسين عليهما صلوات المصلين، وللقصة تفصيل.

هذا مضمون الرواية، نعم «تقشع الظلام ولم أقض من خدمتك وطراً» أقبل الصباح وأنا لم أفعل شيئاً.. لأنه أدرك لذة العبادة، فسبع، ثمان ساعات عَبَدَ الله، ولا يحسب نفسه أنه عمل شيئاً، هذه لذة العبادة، لذة المناجاة التي يَبتعد عنها، ولا يُدركها مَنْ يعصي الله سبحانه وتعالى.. إنسان يعصي الله بغيبة، أو بكذبة، أو بنميمة، أو نظرة- لا سمح الله- إلى امرأة أجنبية، وأدنى عقوبة له هي أن يسلبَ منه لذَّة مناجاته.

كثيراً ما يغفل الإنسان، ويسرح ذهنه وهو في السجود، فينقلع من السجود، وكأنه لم يسجد، والحال أن في الرواية: (لو يعلم المصلي ما يغشاه من رحمة الله ما انفتل ولا سره أن يرفع رأسه من السجدة)..[13]

ومضمون الرواية: ولو يعلم كم يغيظ إبليس..

فإبليس يحسد بني آدم لأنه هو طُرِدَ من رحمة الله لأنه لم يسجد، فكيف يتحمل أن يَرى هذا الإنسان ساجداً؟ هذا المؤمن المسكين الذي هو له عدو- بل هو العدو حقيقة، وقد حلفَ أن يُدخله نار جهنم- وربما يستظهر من بعض الروايات أن أثقل شيء على إبليس، أن يسجد الإنسان لله سبحانه وتعالى[14]..

وإذا كان الإنسان قد ابتعد عن المعاصي حقيقة، فإنه سيدرك (لذة المناجاة) وسيدرك بعض حقيقة (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ).. فالعبادة هي تشريفٌ للإنسان، تكريمٌ له، لأنها تُمثِّل أسمى هدف وُضع أمامه في هذه الحياة..

ولأضرب لكم مثلاً ذا دلالة، وهو (الضيافة العربية)، أنتم رأيتم: أن بعض الناس يلتذُّ من الضيافة، فعندما يأتيه ضيف يلتذُّ به ويسر أي سرور، وخاصة العشائر ذوي الطبع العربي، ومَنْ أشبههم.. وأهل القرى كثير منهم من هذا القبيل، أما أهل المدن فيبتعدون قليلاً أو كثيراً عن هذه العادات، ولكن أهل القرى، من العرب وغيرهم، والقبائل، والعشائر عادة، يلتذُّون بقدوم ضيف إليهم، لكن يوجد هناك مَن يستثقل الضيف، فهذا يرى الضيف تشريفاً له، وذاك يراه تكليفاً له، فعندما يأتي الضيف و(الضيف ينزل برزقه ويرتحل بذنوب أهل البيت..)[15] ومع قطع النظر عن هذا المفهوم السامي فإن بعض الناس يلتذ بطبعه بالضيافة، وبالاستضافة.. فهذا يعرف معنى الضيافة ويستشعر روعتها ونكهتها وجمالها، وذاك لا يعرف معناها، ولا يرى منها إلا التكليف..

وهكذا (العبادة).. وهكذا الناس تجاه (العبادة).. البعض يدرك روعتها وجمالها ولذتها، ويراها لطفاً من الله به، وتشريفاً له، وفضلاً عليه.. والبعض الآخر عبادته (نقر كنقر الغراب).

فالله سبحانه وتعالى عندما نعبده، فإنما عبادته هي محضُ التشريف لنا، بل هي لطفٌ من الله جل اسمه، إذ ما قيمتنا وما خطرنا، حتى يسمح لنا الله تعالى، بأن نخاطبه مباشرة؟

الإنسان يريد أن يأخذ موعداً من وزير لا يعطوه موعداً.. كثير من الناس هكذا، يطلب من الأمير، أو من الملك، بل ويوسط الوسائط إلا أن طلبه يجابه بالرفض.. بل.. أحياناً يطلب موعداً حتى مع موظف عادي أو حتى شرطي أو رجل أمن، و- هو - لا يدير له بالاً.. والله سبحانه الخالق هو المبتدئ، المتفضل، المتطول، المنان يقول لنا: يا أيها الناس هيا إليَّ، اعبدوني، تكلموا معي، ناجوني ولكم بذلك سعادة الدنيا والفلاح في الآخرة، نحن نقول وبلسان الحال: كلا.. لا نحتاجك!! وهذا ما تشهد به أفعالنا أيضاً إن لم يكن معها لسان مقالنا أيضاً..

ألا يحين وقت الصلاة، وينادينا هاتف الرب ونحن لاهون ساهون؟ أو في أفضل الأحوال في اجتماع، أو في زيارة، أو عمل أو شبه ذلك؟ هل مناجاة الخالق أهم وهو من بيده كل ما تملك وما لا تملك والدنيا والآخرة معاً أم (عرض الحياة الدنيا) الفاني الزائل؟

الله سبحانه وتعالى ملك الملوك، ورب الأرباب، وهو الذي بيده ملكوت السماوات والأرض، والخزائن كلها.. فتح لنا (خطاً مباشراً) معه.. وكان من لطف الله سبحانه بنا إنه لم يأمرنا بعبادة غيره مهما كانوا عظماء أو أنبياء بل اختصنا لنفسه، رغم إنه كان من الممكن أن يقول سبحانه وتعالى لنا: إنكم (ما تستاهلون) أن تعبدوني أيها البشر! بل اعبدوا واحداً من مخلوقاتي، اعبدوا (آدم) فرضاً، (بل إنه لا يوجد قياس من حيث المستوى والمكانة بيننا وبين آدم أيضاً) وذلك كما أمر الملائكة بالسجود لآدم:( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ).[16]

نحن ما قيمتنا حتى (نعبد) الله سبحانه وتعالى؟! بل نقول: ما قيمتنا حتى نعبد عبداً من عباد الله الكرام: من ملائكته ورسله وأوليائه العظام؟ ومن الواضح أن ذلك غير جائز، إلا أنها قضية شرطية وقضية (لوّية) أي (لَوْ) كما في قوله تعالى: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا)[17] وهذا من فضل الله، أن الله حرَّم عبادة غيره علينا وأوجب عبادته علينا فقط رغم أنه الغني المطلق ونحن الفقراء بما للكلمة من معنى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)[18] بل يقول البعض: إن الإنسان ليس (ذاتاً ثبت لها الفقر) بل هو (عين الفقر والحاجة).

هذا هو المطلب الأول، وهو أن ( ِليَعْبُدُونِ) تشريف وليس تكليفاً، فلنتأمل في ذلك ولنحاول أن نستشعر، في أعماق جوانحنا وقلوبنا وأفئدتنا.

علاقة التضاد بين عبودية الله وعبودية الدنيا

المطلب الثاني: هناك علاقة التضاد بين العبودية لله سبحانه وتعالى، وبين ما عدا ذلك: العبودية للبطن، العبودية للدنيا، العبودية للدرهم وللدينار.. ويمكن استفادة كون العلاقة هي علاقة التضاد من (الحصر) في قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) ومن كون متعلق ( ِليَعْبُدُونِ) هو ضمير الجلالة جل اسمه وحده.

معاني تسعة لـ(تعس عبد الدرهم)

يقول رسول الله  (صلى الله عليه وآله وسلم) في رواية لطيفة: تعِس عبد الدرهم، تعِس عبد الدينار..[19]

والآن لنتساءل ماذا تعني كلمة (تَعِس)؟ راجعوا كتب اللغة، مثل مجمع البحرين، وبعض الكتب اللغوية الأخرى، فإنكم ستجدون المعاني التالية لتعس، فـ:

(تعِسَ): يعني (شقيَ).. شقي عبد الدرهم، شقي عبد الدينار.

و(تعيس): يعني هالك.. فـ (تعس) تعني أيضاً هلك، أي هلك عبد الدرهم، هلك عبد الدينار. وأما (شقي) فيعني (بَعُدَ) لأن (شقي) جوهرها يعني أنه في شق والسعادة في شق آخر.. فـ (شقي) هو بُعد واحد من معاني (تعيس)، فكأن التعيس في شِق ورحمة الله في شِق آخر.

الذي يُفكر بالأمور المادية وبالأموال، ولا يفكر في خدمة أهل البيت (عليهم السلام).. همَّه بالليل والنهار، المال ثم المال، ثم المال، هذا شقي.. هذا بعيد عن رحمة الله سبحانه وتعالى..

(تعِس): أيضاً يعني (سقط).. وسقط في امتحان الحياة..

(تعس): أيضاً يعني (انحط)، الإنسان إذا عبد الدرهم، انحط.. الله يقول: (اعبدوني) وهذا يعبد الدرهم، يعني إنه ليست له عند الله أية قيمة.

(تعس): أيضاً يعني ساء حظه.

(تعس): يعني ساء مصيره.

وبذلك ظهر أن (تعس) لها معاني عديدة، وكلها متضمنة في الرواية.. (تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار..) (تعس) أي شقي، أي بَعُدَ من رحمة الله، أو انحط، أو سقط، أو عثر حظه، وطاح حظه - على حسب التعبير المعروف- وأخيراً أي ساء مصيره..

ألذُّ الطعام لا لذَّة فيه

أحد التجار كان يتحدث عن نفسه: - وهو واحد من الأثرياء الذين يمتلكون مئات الملايين بل ربما المليارات - إنه على مائدة الطعام يأتون بالطعام، ومن أفضل أنواع الأطعمة، ولكن لا أشعر بلذتها إطلاقاً، فأنا أغبط الفقراء، الفقير قد يأكل الخبز والخضروات فقط، ولكنه يلتذ به، وأنا لا ألتذُّ بشيء..

يقول: لأن عيني معلقة على شريط الأخبار الاقتصادية، وانخفاض أو ارتفاع هذه العملة أو تلك.. فالذهن مشغول وقلق على مستويات تقلبات العملات المختلفة لذا ينتهي الغداء والعشاء، من غير أن أفهم ماذا أكلت؟ وكيف أكلت؟ والقلق يعتصرني مع كل تحول وتقلب.

فالذي يفهم، لا يقلق ويفكر: لماذا ذاك عنده أموال وثروات، وأنا لا أملك ما يملك؟!! فأنت ماذا عليك من ذلك كله، إذا كان منك السعي ولم تفتح لك الأبواب، فاعلم أن ذلك من تدبير الله سبحانه.. فإن رزقك الله (عزوجل) فقل: الحمد لله، وإلا فقل أيضاً: الحمد لله.. فهو المحمود على كل حال في السرَّاءٍ، وفي الضرَّاء..

وفي الحديث القدسي الشريف: (أن من عبادي المؤمنين مَنْ لا يُصلحه إلا الفقر..)[20] الله يحبنا، فهو عالم بأنه لو أعطانا ذهباً وفضة وأموالاً فقد نطغى، ونتكبر ونتجبر.. ولأنه يُحبني، ويُريد أن يُدخلني الجنة فيبقيني رغم سعيي فقيراً، ولكنني لا أفهم ذلك، فأغضب، لأنني لا أفهم الحِكَم وخفايا الغيب..

مثله كمثل: طفل تريد إجراء عملية جراحية ضرورية لصالحه، ولكنه هو لا يفهم ذلك، فيبكي.. ويصرح.. ويحاول الهرب والتملص.. مما تتوقف نجاته عليه، (إن من عبادي المؤمنين مَنْ لا يصلحه إلا الفقر)..

فهذا التاجر يقول: يساق إليَّ أفضل أنواع الأطعمة، يقول: وهكذا دأبي وحالي ووضعي كل يوم، وأنا لا ألتذُّ بالطعام أصلاً، لماذا؟ لأنه أثناء الطعام أراقب التلفزيون وأقرأ الشريط الذي يرصد حركة أسعار العملات: الينُّ صعد، والجنية نزل، والبوند صار بكذا، والدولار بكذا.. إنه صرّاف، وجزء من عمله الصرافة، فيقول: كل فكري بالفلوس، لا ألتذ بالحياة أصلاً، ويضيف: كذاك الحال بالنسبة إلى النوم ففي الليل أصلاً ما ألتذ بالنوم، أنام، وأنا قلق على الأسعار..!!

اشكروا ربكم، نحن ننام مرتاحين، الإنسان الذي ما عنده (رياسة) يرقد مرتاحاً، الذي ما عنده (شهرة) ينام باطمئنان، لا يخاف من شيء، وكل أمره وَكَلَهُ لله سبحانه وتعالى.. والذي لا يتعامل مع الأسهم والسندات والاستثمارات مرتاح هادئ البال، ولكن مُشكلة الإنسان أنه لا يفهم حِكَمُ الحياة.. فالذي لم يُقدَّر له، يذهب وراءه.. ولو لم يحصل عليه يعتب على الله لا سمح الله.

وأنت الذي عندك (القناعة) و(القناعة كنز لا يفنى..)[21] من غير أن يعني ذلك طبعاً أن لا تسعى، بل السعي للكفاف من الرزق بين واجب ومستحب، والسعي للثروة لكي يخدم بها الإنسان، العباد والبلاد بين واجب ومستحب أيضاً[22] حسب الحاجة المعطلة ووجود من به الكفاية إلا أن الكلام أن الإنسان لو لم يقدر له ذلك رغم تخطيطه وسعيه وجده وجهده فإن عليه أن يتحلى بـ (الرضا) ولا يستنكر ذلك على الله تعالى، ولا يَعكِس ذلك على أخلاقه فيسيء التعامل مع أهله وأولاده وشركائه وأصدقائه ومجتمعه.

(تعس)، تأملوا، هذا التاجر أليس شقياً؟ هو يقول ذلك، وهو عالم بشقائه، يقول: الليل لا أقدر أن أنام، فذهني قلق لأنه بلحظة واحدة قد تنهار أموالي.. تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، هذا كلام رسول الله  (صلى الله عليه وآله وسلم).

الله تعالى يقول: (يا أيها الناس.. خلقتكم حتى تعبدونني، وليس لتعبدوا الدرهم.) نقول نحن والعياذ بالله: كلا؛ نحن نعبد الدرهم، الدرهم أفضل بكثير- والعياذ بالله- والإنسان حاله هكذا وفعاله هكذا.. بلسان الحال وبشهادة الأفعال، وإن لم يكن لسان المقال عن ذلك مفصحاً..

وقد يشهد بذلك ما إذا كان أحدنا في الحرم أو المسجد، وأخبر أنه بمجرد خروجه سيعطونه بعض المال، أو سيحصل على (عقد) مميز، كيف يكون وضعه؟ هل يترك الحرم أو المسجد فوراً، أو يستمر منقطعاً للعبادة والزيارة غير مشغول الذهن بغير الله ووسائله في خلقه إلى موعد انتهاء الزيارة؟ فهذا امتحان طبعاً، فمن ينجح فيه ومن يفشل؟ والحياة مليئة بأمثال هذا الموقف.. والحديث في هذه الآية الشريفة طويل، ومع الأسف أدركنا الوقت، نسأل الله سبحانه وتعالى أن نكون من الذين محَّضهم لعبادته.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

......................................

* من مقدمة كتاب بحوث في العقيدة والسلوك

الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر و التوزيع

وهو مجموعة من البحوث والدروس الهادفة التي تتوخى الاسترشاد بالقرآن الكريم للتعرف على الحقائق (التكوينية والتشريعية) ولا صلاح المجتمع وصولا والى السعادة الدنيوية والأخروية، وللنهوض بالفرد والأسرة والأمة. وقد ألقاها آية الله السيد مرتضى الشيرازي على جمع من علماء وفضلاء الحوزة العلمية الزينبية ليالي الخميس طوال العام الدراسي.

.................................................

[1] (الذاريات:56)

 [2] راجع نهج البلاغة؛ كتاب أمير المؤمنين  (عليه السلام) لعثمان بن حنيف الأنصاري واليه على البصرة..

 [3] لقد وفقنا الله تعالى للحديث عن ذلك بالتفصيل في كتاب (الضوابط الكلية لضمان الإصابة في الأحكام العقلية) فليراجع.

 [4] تفسير الميزان: ج5، ص259.

 [5] عوالي اللآلي للأحسائي:ص130

 [6] (سورة الإخلاص)

 [7] البحار للشيخ المجلسي:ج74 ص400.

 [8] بيت من قصيدة جميلة للشاعر حسن بن محمد علي العلوي، راجع أعيان الشيعة، للسيد محسن الأمين:ج5 ص261

 [9] نهج البلاغة:حكمة 456.

 [10] (الذاريات:58)

 [11] شرح نهج البلاغة-إبن أبي الحديد-باب الحكم المنسوبة إلى أمير المؤمنين  (عليه السلام)- الحكمة665

 [12] بحار الأنوار: ج46، ص40.

 [13] تحف العقول: 122.

 [14] الخصال: ص616، ح10، وفيه عن أمير المؤمنين  (عليه السلام) (أطيلوا السجود، فما من عمل أشد على إبليس من أن يرى ابن آدم ساجداً، لأنه أمر بالسجود فعصى).

 [15] البحار للشيخ المجلسي: ج72، ص461 وهو حديث عن الرسول الأعظم  (صلى الله عليه وآله وسلم)..

 [16] (البقرة:34)

 [17] الأنبياء: 22.

 [18] (فاطر:15)

 [19] البحار للشيخ المجلسي:ج70 ص320..

 [20] الكافي للشيخ الكليني:ج2 ص352.

 [21] مستدرك الوسائل الميرزا النوري: ج15، ص226، ح12، وهو عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).

 [22] للتفاصيل والأدلة والبراهين راجع (الفقه الآداب والسنن من موسوعة الفقه) وكذا (الفقه المال) والفقه الاقتصاد.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 2/آذار/2010 - 15/ربيع الأول/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م