المتابع للمشهد السياسي العراقي ومنذ اربعة عقود على وجه التحديد
لايزايله الارتباك والدهشة ازاء ما جرى ويجري على الساحة العراقية.
قد يكون مفهوما لدى المتابع، ان هناك اسبابا قاهرة قد تكون موجودة
في نظام الحكم السابق منعت تبلور معارضة سياسية فاعلة على الساحة
العراقية، ليس اقلها قسوته وبطشه في التعامل مع المعارضين.
ولا اقصد هنا المعارضة السياسية كما هو سائد في الممارسة السياسية
العراقية، بل هي على حد تعبير عبد الاله بلقزيز (صون الحياة السياسية
من الاضطراب ومدها بأسباب الاستقرار، حتى تصبح المعارضة بهذا المعنى
قوة توازن ضرورية في المجال السياسي بوصفه مجالا عموميا، وليست عبئا
على السلطة او مصدر ازعاج لها).
لذا قد يكون مفهوما انعدام المجال السياسي الذي تتحرك فيه المعارضة
السياسية طيلة حكم النظام السابق... لكنه غير مفهوم او مستساغ ما يحدث
الان.
بمعزل عما دار وراء الكواليس لاقرار بعض القوانين، من مثل قانون
الانتخابات، عاش العراق تجربة انتخابية واحدة، تجربة استفتاء واحد ايضا،
ناهبك عن انتخابات مجالس المحافظات الاخيرة، وقد اشترك في التجربة
الاولى عشرات الاحزاب والكتل السياسية وكانت نسبة المشاركة عالية داخل
العراق وخارجه، والجميع صوت لمرشحيه بعيدا عن برامج تلك الكيانات
والاحزاب، والتي لم تدخل مارثون السباق الانتخابي ببرامج اجتماعية
واضحة المعالم..
الجميع كان همه الاول الوصول الى السلطة متوسلا الطائفية او
الاثنية او العشائرية في شعاره الانتخابي والسياسي والذي يختلف تماما
عن المشروع السياسي، وهي شعارات ارادت منها تلك الاحزاب التبعية
والتجييش.. مع ملاحظة ان جميع هذه الكيانات والاحزاب قد اتكأت على
الديمقراطية كمشروع سياسي لها ظنا منها ان هكذا مشروع حتى لو كان في
مجاله التنظيري البحت هو ما يحتاجه الناخب.
وقد وصل الانسداد في هذه التجربة الى انتهاج العنف السياسي بين هذه
الكتل والاحزاب دفاعا عن مصالحها ومحاولة الحصول على مكاسب جديدة.
نتيجة اخرى لمسها الناخب الذي اوصل هذه الكتل وا لاحزاب الى سدة
السلطة والبرلمان متمثلة بفشلها في تحقيق ولو ادنى ما رسمته لنفسها في
سباقها الانتخابي وسبب اخر لعدم تبلور معارضة سياسية فاعلة في الوسط
السياسي العراقي يعود الى انعدام الديمقراطية الداخلية لتلك الاحزاب
والكتل، والتي تمارس اقصى درجات الاقصاء والتهميش مع اعضائها المنتمين
اليها على قلتهم، مع ملاحظة كثرة الانشقاقات داخلها.
هل ما نشاهده على الساحة السياسية العراقية يبشر بمآلات سياسية
ناجحة ؟ لا اعتقد ذلك فما تعيشه هذه الساحة هو على حد وصف صموئيل
هينتغنتون (انفتاح ليبرالي من دون ديمقراطية) يتمظهر بكثرة الصحف
والمجلات والفضائيات الناطقة بلسان حال احزابها وحركاتها.
لقد نهلت السياسة العراقية من محيطها السياسي العربي خاصة وانها
عاشت تجربة اقامة طويلة في منافيها خارج الحدود (سوريا – الكويت –
الاردن – ايران) وهو محيط يتعامل مع السياسة عبر مفهومين : مفهوم
يوتوبي طهراني، ومفهوم منفعي مصلحي، وبعبارة اخرى مفهوم مثالي حد
استحالة التحقق، ومفهوم براغماتي حد الضحالة..
واخذت تلك الاحزاب في منافيها ايضا جميع عاهات الاحزاب السياسية
العربية في الاطر التنظيمية والبيروقراطية الحزبية والكاريزما التسلطية
والاقصاء السياسي والاجتماعي.. وهي عاهات جاءت بها الى الوطن بعد عام
2003 , ولم تسطع رغم مرور هذه السنوات الست ان تتاقلم مع تحولات الفكر
والسياسة والواقع الذي وجدته في العراق، فبقيت على طروحاتها التي مضى
عليها الزمن، وبالتالي فقدت تلك الاحزاب صورتها امام المنتمين اليها او
المتعاطفين معها، على قلة هؤلاء المنتمين والمتعاطفين.. حيث ليس لدى
احزاب اليوم قاعدة جماهيرية يمكنها ان تضع العراق في واقع سياسي جديد. |