الديمقراطية وسؤال الأزمة في العالم العربي

د. إبراهيم أبراش

سؤال الأزمة هو سؤال المرحلة في العالم العربي، و سؤال أزمة الديمقراطية حتى في الدول الخاضعة للاحتلال كفلسطين والعراق يتصدر أسئلة الأزمة.  ولكن هل حقيقة أن الخطر المحدق بالأمة العربية وبالكيانات الوطنية اليوم  هو غياب الديمقراطية؟ وهل بالفعل أن مشكلتنا يمكن أن تُختزل بغياب الديمقراطية؟ وبالتالي يكون لمعركة الديمقراطية الأولوية على أي معارك اخرى بما فيها المعركة ضد الاحتلال؟أم المراد من التركيز على الديمقراطية إخفاء قضايا أشد خطرا على الأمة من تعثر الديمقراطية، كالاحتلال وأزمات  وجودية تهدد الأمة والدولة الوطنية؟.

بعد سنوات من المراهنة على الديمقراطية كنظام حكم يمكنه أن يوفر الحياة الكريمة للمواطنين ويُخرج المجتمع والأنظمة السياسية الحاكمة من الأزمات التي تعانيها:أزمة شرعية الحكم بعد انكشاف هشاشة شرعيتها الدينية أو الثورية أو العسكرية وأزمة اقتصادية و أزمة دولة ووجود وطني،وبعد سنوات من التجارب الفاشلة حتى تحت رعاية واشنطن ومشروعها للشرق الأوسط الكبير  نجد اليوم كل الكيانات العربية:الغنية منها والفقيرة،ملكية كانت أم جمهورية،كيانات أنتجها اتفاق سايكس –بيكو أو انتجها تاريخ عريق...،هناك أزمة،إما اقتصادية أو ثقافية أو اجتماعية أو سياسية أو وجودية تهدد وجود الدولة الوطنية،وبعضها تعاني منها مجتمعة.

سؤال الأزمة هو سؤال المرحلة،ولكن يبدو أن اختزال سؤال الأزمة بسؤال الديمقراطية أو اختزال الأزمة بالديمقراطية هو ما طفا على السطح على حساب تغييب الأسئلة الأخرى و التهوين من المشاكل الأخرى التي لا تقل أهمية عن الديمقراطية.ليست هذه دعوة لإعادة طرح تساؤلات ما بعد الاستقلال مباشرة حول أيهما له الاسبقية:الحرية السياسية أم رغيف الخبز؟بناء الدولة الوطنية أم الديمقراطية؟ آنذاك عُلقت التجربة البرلمانية والديمقراطية الوليدة وتم حل الأحزاب باسم الثورية ومواجهة الخطر الخارجي،ومنذ ذلك الحين لم ينجز لا الحياة الكريمة ولا الديمقراطية ولا بناء الدولة الوطنية ولا مواجهة الخطر الخارجي...،ما نطرحه دعوة للتوزازن والمواكبة ما بين بناء الديمقراطية واستكمال بناء الدولة الوطنية وحمايتها،وقطع الطريق على محاولات تحويل العالم العربي لحقل تجارب لوصفات ديمقراطية مفروضة من الخارج لا تهدف لدمقرطة العالم العربي بل لخلق (الفوضى البناءة) التي تريدها واشنطن،و تبرير الاحتلال بذريعة مواجهة الاستبداد.

لأن الديمقراطية أقحمت على المجتمع فقد أنتجت مفارقة في المشهد الديمقراطي في العالم العربي وهو انه بالرغم من أن الديمقراطية تعني حكم الشعب فأنها في العالم العربي مطلب نخبة وإن وُجِدت فهي حكم نخبة،فيما الشعب مجرد جموع توظفها النخب والجماعات المتصارعة على السلطة ومغانمها، أو منشغلة بأنشطة سياسية بعيدة عن الممارسة الديمقراطية وثقافتها كالانخراط بالجماعات الأصولية وبالجماعات الطائفية والإثنية المغلقة،ومن المفارقات أيضا أن هامش الحرية الضيق الذي أتاحه التحول الديمقراطي بدلا من أن يعزز المواطنة أحيا وعزز القبلية والطائفية والإثنية وكأن الديمقراطية كانت الرياح التي ذرت الرماد عن جمر انتماءات ما قبل الدولة،وهذا يدل على أن الأزمة ليست بالديمقراطية بحد ذاتها ولكنها أزمة دولة،التحول الديمقراطي كشف أزمة الدولة الوطنية ولم ينتجها وقد لا يستطيع حلها.

مع ذلك ما زالت الديمقراطية الايدولوجيا والمؤسسات، الأكثر حضورا في الخطاب السياسي العربي. قد تكون السمعة الطيبة التي راجت عن الديمقراطية والمستمَدة غالبا من مستوى الرفاهية التي تعرفه الديمقراطيات الغربية، هو ما جعل شعوب دول الجنوب الفقيرة و التي عانت طويلا من الاستبداد والظلم تتطلع للديمقراطية كمُّخلص ليس من الاستبداد فحسب بل من الفقر أيضا،ففي مجتمعات يسودها الفقر والأمية فإن الانشغالات المعيشية تتفوق على الانشغالات الفكرية والثقافية وبالتالي عندما تنفتح هذه المجتمعات على المجتمعات الغربية فإنها تنبهر بالجوانب المادية أكثر من اعجابها وانشغالها بالانجازات الفكرية،إنها تريد أن تكون على شاكلة الغرب من حيث المستوى المعيشي وليس من حيث نظام الحكم.

بالإضافة إلى ما سبق،لو كانت أنظمة الحكم تملك شرعية ولو كانت مكونات النظام والنخب والأمة بشكل عام  متفقة على ثوابت ومرجعيات الدولة الوطنية أو بشكل أخر لو كانت هناك مصالحة بين الدولة والمجتمع لتموقعت الديمقراطية ليس كأداة مقحمة لإدارة أزمة سلطة وشرعيات بل كآلية لتعزيز وتحسين علاقة الدولة بالمجتمع وتسهيل عملية تداول سلمي للسلطة بين نخب توحدها ثوابت الأمة.

إن عقل الديمقراطية لا يقل أهمية عن ممارستها،وأن نعقل الديمقراطية يعني أن ننظر إليها ليس كهدف بحد ذاته بل كاداة لهدف أسمى،هدف يتشكل حسب خصوصية كل أمة واولوياتها،وحيث أن لكل أمة خصوصيتها التاريخية والموضوعية فإن الديمقراطية الوسيلة أو الأداة يجب أن تكون في خدمة هذه الاولويات لا أن تكون مجرد مؤسسات وخطابات تتوسل كل الطرق لتقليد ما هو عليه الحال في الغرب.

 لو كانت الديمقراطية مجرد مؤسسات وخطاب لكانت كل دول العالم تقريبا ديمقراطية،فما القاسم المشترك مثلا بين مصر والسويد أو بين الكويت وفرنسا أو بين الأردن واليابان،أو بين فلسطين الخاضعة للاحتلال وإسرائيل دولة الاحتلال،وكلها تقول بأنها أنظمة ديمقراطية حيث فيها تعددية حزبية وانتخابات وبرلمانات ودساتير؟.

نعم للديمقراطية ولكننا نريدها ديمقراطية مؤسسات وثقافة ونمط حياة للحاكمين والمحكومين تتفاعل لتنتج نظام حكم في مجتمع سيد نفسه يوفر الحياة الكريمة للمواطنين ويؤمن التداول السلمي على السلطة،نظام ديمقراطي يحافظ على المشروع الوطني والدولة الوطنية ويجسد استقلالية القرار الوطني،بغض النظر إن تشكلت هذه الديمقراطية حسب مواصفات النموذج الغربي أم لا.

لقد تلمست منظمات دولية ومختصون بالتنمية في دول الجنوب عبثية الجري وراء محاولة فرض انظمة ديمقراطية شبيهة بالغرب،فتم اليوم شبه تجاوز لاعتماد الديمقراطية كمقياس للمفاضلة بين أنظمة الحكم وتم اعتماد مفهوم الحكم الصالح أو الحكامة،وإن كانت الحكامة تلتقي مع الديمقراطية في كثير من النقاط فهي ليست بالضرورة الديمقراطية،ويمكننا اعتبار الحكم الصالح هو الديمقراطية عندما تتكيف مع خصوصية المجتمع التي لا تتعارض مع الحداثة والتنمية المستدامة وتؤمن للإنسان الحياة الكريمة في دولة وطنية حرة ومستقلة.

هذا الجدل الدائر حول العلاقة ما بين الديمقراطية ومصالح الامة ومشروعها الوطني يذكرنا بالجدل الذي أثاره علماء المسلمين في عهود سابقة حول الحكم السياسي  وعلاقته بالإسلام وما المعايير التي بمقتضاها يمكن الحكم على نظام ما إنه متوافق مع الشرع أم لا؟.آنذاك قال العالم إبن القيم الجوزية (إذا ظهرت إمارات العدل وأسفر وجهه بأي طريق فتم شرع الله ودينه) واليوم يمكن القول حيث يوجد توافق حول المشروع الوطني ويتم الحفاظ على وحدة الامة وكرامة الإنسان بدون استبداد أو دكتاتورية طائفية أو إثنية، توجد الديمقراطية سواء كان النظام مهيكلا حسب مواصفات الديمقراطية في الغرب أم لا.

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 21/شباط/2010 - 6/ربيع الأول/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م