ما هو الهدف من الخلقة؟

آية الله السيد مرتضى الشيرازي

لماذا خلقنا الله سبحانه وتعالى؟ ما هو الهدف من الخلقة؟ وما هي العلَّة الغائية من وجودنا في هذا العالم؟

ان العبادة هي أول الأهداف بقوله تعالى:( وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ﴿55﴾ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)، «مادة» (ليعبدون) و«صيغتها»، تدلان على الهدف من الخلقة..

ماذا تعني العبادة؟

أما المادة فهي (العبادة)، (وما خلقتُ الجن، والإنس) إلا للعبادة، هذه المادة.. ولكن ماذا تعني العبادة؟

إن (العبادة)؛ هي غاية التذلل والخضوع.. وهذا هو الذي يريده الله تعالى منا..

الله خلقنا للعبادة، فأنت تستقدم معلماً لماذا؟ حتى يُدرِّسَ أطفالك، وإذا لم يُدرس، تطرده.. والله خلقنا لماذا؟ حتى (نعبده).. فإذا لم نعبده كما يجب، فسوف يكون المصير إلى النار -لا سمح الله - وهذا هو الفشل الحقيقي في مسيرة الحياة..

و(العبادة) كما قلنا؛ هي غاية التذلل، وليس فقط (التذلل)، وإنما هي (غاية التذلل..فهذا الجانب (الكيفي) يجب أن نلاحظه، الله يُريد منا غاية التذلل.. أي يُريد من كل واحد منا أن يسعى لكي يكون مثل سلمان المحمدي، هذه هي غاية الخلقة..

الفرق بين (حَقَّ تُقَاتِهِ) و (اسْتَطَعْتُمْ)

نعم؛ إنه ليس من الواجب علينا بلوغ مثل هذه الدرجة، ولكنها مرتبة من مراتب الهدف من الخلقة، وهي مطلوبة إلا أن الله تعالى خفَّفَ علينا، فماذا قال؟

قال(فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِّأَنفُسِكُمْ)[1]

ولو أنه سبحانه وتعالى اقتصر على قوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[2]

لكان الأمر صعباً جداً، إذ أن (تقوى الله حق تقاته) مما دونه خرط القتاد، ومما تتزلزل منه الجبال الرواسي، إلا أن الله سبحانه، وبرحمته، وبفضله خفَّفَ علينا، فقال:( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ).. إذ مَنْ ذا الذي يستطيع أن يعمل بـ(اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ)؟

بهذه اللفتة الدقيقة؛ لعل السيد الوالد (رحمة الله) كان يوضح الفرق بين الآيتين الشريفتين.. أي أن الله أولاً صَعّد، لأن ذلك هو الهدف الأسمى.. الله يريد منَّا أن نتقيه حقَّ تُقاته.. إلى درجة أن لا يخطر ببالنا حتى مُجرَّد التفكير بالمعصية، فالتفكير بالمعصية ينبغي أن لا يخطر بالبال إطلاقاً.. وأن الإنسان عليه أن لا يعصي أبداً، وأن لا ينظر إلى امرأة أجنبية -لا سمح الله- أو يستمع إلى غيبة، أو يغتاب، أو يتَّهم، أو أن ينّم، أو أن يحسد، أو يحقد، أو ما أشبه ذلك ولو لمرة واحدة.. أو أن يكون في عمله رياء، أو عُجب أو ما أشبه.. ولو بقدر جناح بعوضة.

إنه سبحانه وتعالى يُريد منا (اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ)، هذا هو هدف الخلقة.. ولذلك قال الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) في تفسير الآية الشريفة، عندما سئل عنها: (يُطاع ولا يُعصى، ويُذكر فلا يُنسى، ويُشكر ولا يُكفر..)[3] فلاحظ المعنى الشامل والعميق لـ(يذكر فلا ينسى)..

إذ إنه يغطي مساحة عمر الإنسان كله.. كل يوم يوم.. وكل ساعة ساعة.. بل كل ثانية ثانية.

ثم لاحظ المعنى الشمولي والدقيق لـ(يشكر ولا يكفر) فمن ذا الذي يستطيع أن يشكر الله حق شكره.. على كل نعمة.. وحركة وسكون.. بل هل يوجد من يستطيع إحصاء نعم الله تعالى حتى يشكره عليها تفصيلاً؟

ولكن بعد ذلك خفَّفَ علينا، حيث أن التفكير في المعصية، مثلاً لا عقوبة عليه، أي العقوبة على النية مرفوعة.. وبعد أن خفف الله سبحانه وتعالى، قال) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ).. بناء على أن المُراد من (الاستطاعة): - والله العالم - ليس منتهاها، والمعنى الدقيق الحقيقي لها، بحيث لا يكون وراءها قدرة واستطاعة، وإلا لكنا وقعنا في أشدِّ العَنَت، والنَصَب وإن كان ذلك عند أولياء الله ألذُّ من اللذيذ، وأحلى من العسل المصفى بل المُراد الاستطاعة العرفية، أي قدر الوسع والطاقة.. فتأمل.

وهذا المعنى الذي ذكرناه في الفرق بين الآيتين، هو الذي قد يقتضيه التدبر في الآيتين، وهو الذي تدل عليه بعض الروايات، فقد سُئل أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب (عليهما السلام) عن قوله تعالى(اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ)[4] قال: ((والله ما عمل بها غير أهل بيت رسول الله، نحن ذكرنا الله فلا ننساه، ونحن شكرناه فلن نكفره، ونحن أطعناه فلم نعصه) فلما نزلت هذه قالت الصحابة لا نطيق ذلك، فانزل الله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)[5].)[6]

هل هو نسخ أو تخصيص؟

وبذلك يظهر لك وجه النظر فيما ذكره البعض[7] في رد ذلك، ولذلك تفصيل لا مجال هنا لذكره لكن نشير إشارة: إلى أن هذا المعنى الذي استظهرناه لا يعني (النسخ) إذ لا مانعة جمع بين المعنيين، فإن المطلق والمقيد المثبتين لا يقيد أحدهما الآخر، أو يقال (النسخ) تخصيص في الأزمان، والآيتان ليستا من هذا القبيل، بل تخصيص في المراتب أو فقل لا وجوب لبعضها، أو يقال: التخصيص بلحاظ الأفراد فتبقى آية (اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) على إطلاقها بالنسبة للمعصومين وتقيد في حق غيرهم بـ(فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) والله العالم ونضيف أنه لا خوف من الالتزام بنسخها بعد تصريح علي ابن إبراهيم القمي في تفسيره بنسخها ووجود روايات أخرى كما فيما رواه الطبرسي وغيره فراجع البرهان وغيره.

وإننا نجد: إن الله سبحانه في هذه الآية، يصرِّح بـ(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ).. والعبادة هي بنصِّ اللغويين والمفسرين؛ غاية التذلل والخضوع.. فهذه هي الغاية من خلقتكَ؛ فإن شئتَ فاسعَ لتكون ممن يعبد الله ويتقيه (حَقَّ تُقَاتِهِ)، وإن شئت فكن ممن يعبد الله ويتقيه (حسب استطاعته)..

ومن الواضح أن من يهدف عبادته (حق عبادته) لا يمكن بل يستحيل عليه ذلك إذا لاحظنا الوجه الذي يلي الرب من (حَقَّ تُقَاتِهِ)؛ نعم يمكن - ولكن بأشد أشد المشقة - إذا لاحظنا الوجه الذي يلي الخلق من(حَقَّ تُقَاتِهِ).. وهكذا كان رسول الله  (صلى الله عليه وآله وسلم) أعبد خلق الله، وذلك من أسرار تقديم (عبد) على (رسول) في (وأشهد أن محمداً عبده ورسوله).

نموذج من عبادة رسول الله  (صلى الله عليه وآله وسلم)

والحقيقة أن الواحد منا قد يستغرب، حين يقرأ؛ أن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)  ، الذي كانت على عاتقه أكبر مسؤولية عالمية، بل كونية، وهي مسؤولية تنوء بحملها الجبال الرواسي.. ومع ذلك كان يُصلي كل الليل تقريباً.. والغريب في الأمر كما تعلمون أنه كان يقفُ على رؤوس أصابعه لساعات وساعات، وربما الليل كله تقريباً، تواضعاً لله سبحانه وتعالى، وكنتُ أقرأ ذلك في تفسير (نور الثقلين، أو البرهان)، وفي البحار: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)  كان يُصلي الليل بهذه الطريقة، ولكن بعد ذلك الله سبحانه خفف عنه،فقال له:( طه ﴿1﴾ مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى)[8]

لنتوقف عند نص عبارة أمير المؤمنين، ومولى الموحدين، الإمام علي بن أبي طالب  (عليهما السلام)، في وصفه لرسول رب العالمين، بقوله: (ولقد قام رسول الله عشر سنين على أطراف أصابعه، حتى تورَّمت قدماه، واصفرَّ وجههُ، يقوم الليل أجمع، حتى عُوتِبَ في ذلك، فقال الله عزوجل  : (طه ﴿1﴾ مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى) بل لتسعد)..[9]

وفي آية أخرى، قال تعالى لنبيه: (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا ﴿2﴾ نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا)مَنْ يقومُ من الليل حتى ربعه، أو ثلثه، أو عشره؟ (قُمِ اللَّيْلَ)، ثم إن الله تعالى خفف عليه، فقال له:( قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا ﴿2﴾ نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا ﴿3﴾ أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا)[10]

إنه  (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يعلم الغاية من الخلقة وأنها هي هذه (العبادة).. وأن النجاح - حقَّ النجاح - في الحياة الدنيا والآخرة بذلك.. فكان(صلى الله عليه وآله وسلم) يعبدُ الله واقفاً على رؤوس أصابعه..

وكما قرأنا في رواية البحار السابقة، وفي الخرائج[11]، أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كان على هذه الحالة عشر سنين كاملة.. الليل تقريباً بأكمله يُصلي وهو واقف على رؤوس أصابعه، حتى تورَّمت قدماه واصفّر وجهه الشريف..

والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان قوي البُنية جداً، ومع قطع النظر عن الجانب الغيبي، فإنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان من الناحية الظاهرية صحيح الجسم، وفي منتهى القوة؛ يعني أنه (صلوات الله عليه وآله) كان بطلاً بما للكلمة من معنى؛ بحيث أن الإمام علي بن أبي طالب  (عليهما السلام) وهو مَنْ لا يقف الكون في مقابله لو أراد كان يلجأ إلى رسول الله  (صلى الله عليه وآله وسلم)  كما يقول هو (عليهما الصلاة وأزكى السلام) في نهج البلاغة: (كنا إذا احمرَّ البأس اتقينا برسول الله  (صلى الله عليه وآله وسلم))..[12]

فالنبي إذن كان قوي البنية، وقوي الشكيمة، وكانت بطولته وقُدُراته لا تتصور أصلاً.. ولكن مع ذلك ولعشر سنين كاملة، كان يقوم الليل تقريباً بأكمله، على أطراف أصابع قدميه، حتى تورمت قدماه واصفر وجهه.. لماذا؟ لأنه يعرف هذه الغاية من الخلقة، وأنها (العبادة لله الواحد القهار)، ولذلك وسمه الله بسمة (وأشهد أن محمداً عبده)، فهذا المقام؛ هو ما يريده الله سبحانه وتعالى.. وبعد أن صار (عبداً لله) بما للكلمة من معنى، صار (رسولاً له)، وخاتماً لأنبيائه ورسله (عليهم جميعاً سلام الله)..

وذلك لأن مقام (العبودية) لله، أسمى من مقام (الرسالة).. والرسالة فرع لذلك الأصل.. لأنه ارتقى في هذه المرتبة، جعله الله رسولاً، وإلا ما كان يستحق أن يكون رسولاً، إلا بتمحُضه في العبودية لله سبحانه وتعالى، والتي جعلها الهدف من الخلقة، بقوله تعالى:(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)..

ونؤكد مرة أخرى؛ أن مادة (العبادة) تدل على غاية التذلل، والخضوع لله تعالى.. ونحن - للأسف - في الصلاة غافلون؟ إن الواحد منا عندما يصلي يخاطب الله، ولكن ذهنه يُشرّق، ويُغرّب هنا وهناك، إلى هذا الشيء، أو ذاك المكان، فأية عبودية هذه؟ وهل العبد مَنْ يغفل عن الله لحظة واحدة؟

العابد والرُّمانة

ذلك العبد المنقطع في الجبل كان يعبد الله سبحانه وتعالى ليل نهار، وكانت توجد شجرة رمان هنالك،وعلى مقربة منه أو مبعده الله العالم فللسحور كان يذهب ويقتطف رمانة ويأكلها، وكان هذا سَحوره، رمانة واحدة فقط، وللإفطار كان يقتطف رمانة أخرى ويأكلها وكان هذا إفطاره..

مَنْ منّا يستطيع أن يقتصر على ذلك حتى أسبوعاً واحداً فقط؟

أكله هذا، لا خبز، ولا رز، ولا أي شيء ثاني، رمانة، ثم رمانة أخرى.. وعلى ما في ذهني في الرواية استمرَّ على هذه الحال سبعين أو خمسين سنة - على ما يخطر بالبال الآن - سبعين سنة أو أقل يعبد الله بهذه الطريقة.. ليل نهار منقطعاً إلى الله إلا بقدر أكل رمانتين فقط في اليوم الواحد..

بعد ذلك فكَّر في نفسه أنه قد أدى حقَّ الله سبحانه وتعالى عليه، تصوروا، خمسين أو سبعين سنة شخص يعبد الله ليل نهار، والعبادة حقيقة صعبة، جربوا، حاولوا أن تقضوا ليلة كاملة في العبادة، لا يدعكم الشيطان تفعلون ذلك، الإنسان ينعس، وربما ينام، أو لا أقل يغفل، ويتشتت ذهنه. هذا العبد ولعشرات من السنين كان منقطعاً للعبادة، ولكن ما أن خطر بباله هذا الخاطر، (قد أديتُ حقَّ النعمة، وحق الله)، الله سبحانه فوراً أدَّبه، فأوحى الله إلى نبي من الأنبياء أن قل له: ما أديت حق رمانة واحدة، لعقود من الزمن يعبد الله، ويأكل في كل يوم رمانة واحدة، وبعد ذلك، يُقال له: (رمانة واحدة ما أديت حقها)، فأي شيء نحن، ومَنْ نحن؟ وأين نحن؟

قال ربنا سبحانه:( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ).[13]

نحن محض الفقر الى الله، وليس شيء له الفقر، بل محض الفقر إلى الله، إن هذا الفقير يحتاج إلى الله في كل شيء، في كل حركة، وسكنة، ونظرة، وقيام، وقعود، ومع ذلك يتكبر، ويطغى، ويتجبر، ويعصي الله سبحانه وتعالى - والعياذ بالله- ويتقاعس عن نصرة أولياء الله.. يتقاعس عن (سامراء)، يتقاعس عن (البقيع)، يتقاعس عن خدمة أهل البيت (عليهم السلام).. فهل نحن عبيد؟

العبد هو الذي ينصر مولاه.. بل يتفانى في نصرته، هل رأيتم عبداً موجوداً في البيت، ومولاه يهاجمه الأعداء وهو ساكت، لا يُحرِّك ساكناً أو هو مشغول بالأكل والاستحمام.. هل هذا عبد، أم هذا أكبر مجرم؟

ونحن أقدس مقدساتنا تُنتهك، وأولياء النعم، يَتجرأ عليهم القاصي والداني، وأنا أمشي طبيعي، أذهب طبيعي، آتي طبيعي، لماذا؟

دلالات هيئة فعل المضارع في الآية الشريفة

وبعد ذلك نأتي (للهيئة): لاحظوا لماذا الله تعالى، لم يقل: (وما خلقت الجن والإنس إلا للعبادة)؟ أي لماذا لم يستخدم (المصدر).. ولماذا لم يستخدم (اسم الفاعل)، (وما خلقت الجن والإنس إلا ليكونوا لي عابدين).. وعابد أيضاً يفيد نفس المعنى.. وإنما استخدم الله تعالى صيغة الفعل المضارع، لماذا؟

لان هذا الجزء، هذا الهدف من الخلقة،أن العبادة تتجدد آناً فآناً في حياة الإنسان، يعني حتى الثانية الواحدة ينبغي أن لا يكون الإنسان خارجاً فيها عن زِيِّ العبودية، وعن فعلية العبودية.

فـ(الفعل المضارع) يدلُّ على التجدد.. وأما المصدر فهل يدل على ذات الشيء الذي دلَّ عليه الفعل المضارع؟

كلا؛ فالمصدر لا يدل على الاستمرار، ولا الاستمرارية، إذ لو قال: (وما خلقت الجن والإنس إلا للعبادة)، لصدق ذلك علينا ونحن الذين لم تستغرق العبادة حياتنا، أي يصدق على (مَنْ عَبَدَ الله في الجملة).[14]

أو لو قال: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليكونوا عابدين)، فإن اسم الفاعل يصدق مع العبادة في الجملة.. مثل (النجار)، النجار يصدق عليه نجار وهو يقوم بالنجارة أحياناً فقط، وفي الجملة باليوم ساعتين أو خمس ساعات.. وكذلك (البقال) وما أشبه.. أي مما يكفي في صدق العنوان (التلبُّس) في الجملة، لكن الله لا يكتفي بذلك، و(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ)، حتى يعبدون (بالجملة)، لا(في الجملة) أي بشكل مستغرق، لا إجمالاً..

يعني؛ لحظة، بلحظة (يعبدون)، وهذا يعني أنني إذا لحظة واحدة جلست في مجالس البطالين- والعياذ بالله من أن رجل الدين والمؤمن يجلس في مجالس البطالين حتى إذا لم تكن معصية - أي يُضيِّع وقته - فهذا خلاف الهدف من الخلقة..

الله خلقني حتى ألعب؟ كلا؛ هذا خلاف الهدف من الخلقة.. هذه اللحظة الإنسان مُحاسب عليها، إذ (في حلالها حساب)، بل ومُعاتب عليها، بل ومُعاقب عليها.. في الجملة، وأنت يجب أن يكون أمير المؤمنين الإمام علي (عليه صلوات المصلين) نصب عينيك دائماً حيث قال: (فَمَا خُلِقْتُ لِيَشْغَلَنِي أَكْلُ الطَّيِّبَاتِ؛ كَالْبَهِيمَةِ الْمَرْبُوطَةِ، هَمُّهَا عَلَفُهَا، أَوِ الْمُرْسَلَةِ شُغُلُهَا تَقَمُّمُهَا، تَكْتَرِشُ مِنْ أَعْلَافِهَا، وَ تَلْهُو عَمَّا يُرَادُ بِهَا، أَوْ أُتْرَكَ سُدًى، أَوْ أُهْمَلَ عَابِثاً، أَوْ أَجُرَّ حَبْلَ الضَّلَالَةِ، أَوْ أَعْتَسِفَ طَرِيقَ الْمَتَاهَةِ..)[15]

نعم العقاب على (إهمال اللحظات) منحصر فيما كان هنالك واجب كفائي، لم يقم به فيه الكفاية..والوضع الآن كذلك إذ أن (نصرة أهل البيت (عليهم السلام)) و(الدفاع عن المظلومين)، واجبان كفائيان، فإذا لم يقم بهما مَنْ فيه الكفاية فيأثم الجميع بالترك، فاللازم على ذوي الألباب (استغراق) العمر بأيامه.. وساعاته.. ولحظاته في النُصرة، والدفاع، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر..

(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)، فالفعل المضارع يدلُّ على التجدد آناً فآناً.. والمطلوب من الإنسان أن يعبد الله سبحانه وتعالى كل آن..

من أسباب استغفار النبي  (صلى الله عليه وآله وسلم)

ولعل هذا من أسرار استغفار النبي  (صلى الله عليه وآله وسلم).. إذ يقول  (صلى الله عليه وآله وسلم): واني لاستغفر الله في كل يوم سبعين مرة من غير ذنب..[16] لماذا؟

السيد الوالد (رحمة الله) كان، يقول: بأن المعصية من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مُستحيلة، نظراً لحكمته، ومعرفته مقام صانعه، وشدة ورعه، وعصمته (فإن الاستحالة ليست ذاتية، بل وقوعية) فالمعصية لا تقع منه وهذا واضح، والمكروه لا يقع منه كذلك، وترك الأولى كذلك لا يقع منه، و(الاستغفار) إنما هو عن (القُصور)، إذ أن النبي ولأنه بشر يضطر لينام، ولو كان نومه قليلاً جداً، ورغم أن الله سبحانه رخَّص له، وقال له: (مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى)، ولكن النبي  (صلى الله عليه وآله وسلم) يُحسُّ بالقصور تجاه الله تعالى، فالله خلقني لكي أكون عابداً له في كل آن، فكيف إذن أنام؟

وحتى الثانية الواحدة من النوم، وهو عبادة أحياناً كما تعلم: لأن نوم العالم عبادة[17]- فكيف بنوم النبي  (صلى الله عليه وآله وسلم)  الذي كان (تنام عينه ولا ينام قلبه الشريف) وهو أعلم العلماء، وكان ينام متوضئاً، وكان ملتزماً بسائر مستحبات النوم.. فالنبي   (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى نومه يحوله إلى عبادة بخمسين عنواناً.. ولكن (المرتبة الأعلى) من العبادة أو الاستغراق في (العبادة) بالمعنى الأخص طوال الـ(24) ساعة، فهو يعتذر إلى الله منها، لأنه لا يقدر على العبادة أكثر من ذلك.. لا كماً.. ولا كيفاً.. ولا جهة.. وإلا لكان فعل دون شك.

القُصور نفسه يحتاج إلى اعتذار..

ومثاله الواضح: شخص رجله مكسورة وقد جُعلت في الجبس، فماذا يفعل؟ عندما يزوروه الناس، يعتذر منهم لأنه جالس أو مستلقي، لا يستطيع الوقوف، أو لأنه ممدد ورجله المكسورة أمامهم، فيحسُّ بالحرج فيعتذر منهم، مع العلم أن هذا قصور وليس تقصيراً.. ولكن هناك مجال للاعتذار..

فالنبي   (صلى الله عليه وآله وسلم) لماذا يستغفر من غير ذنب؟ (للقصور)، لأنه يعلم أن الله خلقه لأجل العبادة.. وأسمى درجات العبادة، وأعمق معاني العبادة كيفياً.. ومن الناحية الكميَّة العبادة آناً، فآناً، وحيث أنه لا يقدر على العبادة آناً فآناً أي بأسمى درجاتها في كل آن، لأنه بشر، فيعتذر من الله سبحانه وتعالى، ويستغفر الله سبحانه وتعالى، (وإني لاستغفر الله في كل يوم سبعين مرة، من غير ذنب)[18]..

(وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)..

إذن الهدف من الخلقة حسب هذه الآية القرآنية الكريمة، هو عبادة الله سبحانه وتعالى بهذا المعنى..

(كيفياً): بأن تكون عبادته غاية العبودية والتذلل..

و(كمياً): في كل آن..

و(جهةً): عبادة خالصة من كل شائبة بل محض القربة لله تعالى وذلك لمكان الضمير في (ليعبدون)..

فإذا جعل الإنسان هذا المعنى في باله، واستحضره في ذهنه، وجعل هذا الهدف من الخلقة نصب عينيه دوماً، صدقوا بأن وضعنا سوف يتغير مئة بالمئة. وسيتحول الإنسان إلى إنسان آخر.. إلى إنسان ثاني، أسمى.. فأسمى.. فأسمى..

فإذا كان الإنسان (صالحاً) سيكون أفضل، فأفضل، فأفضل، وإذا كان الإنسان - ذاك البعيد - يجترح أحياناً ولو أحياناً، بعض المعاصي الصغيرة، فإنه سيتغيَّر تغيُّراً جوهرياً بإذن الله، وببركة الصلاة على محمد وآل محمد.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

...........................................

* من مقدمة كتاب بحوث في العقيدة والسلوك

الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر و التوزيع

وهو مجموعة من البحوث والدروس الهادفة التي تتوخى الاسترشاد بالقرآن الكريم للتعرف على الحقائق (التكوينية والتشريعية) ولا صلاح المجتمع وصولا والى السعادة الدنيوية والأخروية، وللنهوض بالفرد والأسرة والأمة. وقد ألقاها آية الله السيد مرتضى الشيرازي على جمع من علماء وفضلاء الحوزة العلمية الزينبية ليالي الخميس طوال العام الدراسي.

..............................................

[1] (التغابن:16)

 [2]  (آل عمران:102)

 [3] راجع تفسير الصافي للفيض الكاشاني؛في تفسير الآية..

 [4] (آل عمران: 102)

 [5] (الطلاق: 16)

 [6] تفسير البرهان ذيل الآية الشريفة ونقله عن ابن شهر آشوب عن تفسير وكيع.

 [7] ومنهم صاحب تفسير الميزان.

 [8] (طه: 2)

 [9] البحار للشيخ المجلسي: ج10 ص 40، وكثيرة هي مصادر الحديث، في كتب الأصحاب..

 [10] (المزمل:1-4)

 [11] الخرائج والجرايح، للراوندي: ج2، ص 917..

 [12] البحار للشيخ المجلسي: ج16، ص 117، وشرح النهج للشيخ محمد عبدة: ج4، ص61..

 [13] (فاطر:15)

 [14] الكلام في الدلالة على الاستمرارية وعدمها، بلحاظ الكلمة نفسها، وهي (يعبدون، أو العبادة،أو عابدون) لا من حيث دلالة الجملة، فإن الجملة (وما خلقت..إلا..) بنفسها دالة على الحصر في أية صيغة كانت (مادة) وما بعد (إلا) فتدبر جيداً.. وبعبارة أخرى: الدال على الاستمرار أمران هما: الحصر المستفاد من (ما) و(إلا).. وهيئة فعل المضارع..

 [15] نهج البلاغة:كتاب (45)، كتابه  (عليه السلام) لصاحبه عثمان بن حنيف عامله على البصرة..

 [16] راجع الكافي للشيخ الكليني: ج2، ص450..

 [17] البحار للشيخ المجلسي: ج68، ص308..

 [18] الكافي الشريف: ج2، ص450، وفيه عن أبي عبد الله  (عليه السلام): (إن رسول الله   (صلى الله عليه وآله وسلم)  كان يتوب إلى الله في كل يوم سبعين مرة من غير ذنب).

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 20/شباط/2010 - 5/ربيع الأول/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م