شبكة النبأ: قبل أن تُشذََّب النزعات
اللاإنسانية من الطبيعة البشرية القائمة على الصراع والتحرّز
والاستحواذ، كان الانسان يتعامل مع نفسه ومع غيره من الكائنات وفق
قانون الغاب الذي يقضي فيه القوي على الضعيف بعيدا عن قوانين التحضّر
او الاحتكام الى العقل والرأفة بالآخرين، ثم بدأت أفكار التنوير تقوّم
سلوك الانسان وتفتح أمامه سبل التعامل الانساني مع الذات ومع الآخرين.
وكان للدين قصب السبق في عمليات التقويم البشري، حيث جهدت الاديان
لكي تنزع من سجايا الانسان وسلوكياته ما يشكل خطرا عليه وعلى غيره،
ففتحت أمامه السبل القويمة لكي يحترم ذاته من خلال احترامه للذوات
الاخرى وبدأت الحكمة تسود شيئا فشيئا لتجعل الحياة أكثر رحمة وسلاسة
وهدوء مشفوعا بالانتاج والعمل المتواصل على تحسين حياة الانسان فوق
كوكب الارض.
وما يُشار إليه في صفحات التأريخ القديم وحتى المنظور وجود الكثير
من سياسات القوة العمياء التي غالبا من يستخدمها الطغاة من البشر ضد
أممهم وشعوبهم وضد غيرهم من الامم، وكانت الحاجة ملحة بل في غاية
الإلحاح لكي تتم السيطرة على نزعات الانسان الخطيرة وصولا الى التحييد
التام لها ومن ثم العيش وفقا لشرائع وقوانين ترحم الانسان وتجعله أكثر
قدرة على التواؤم مع غيره من خلال نشر سياسات قائمة على الحرية وهي حجر
الزواية في النجاح دائما، وكان الدين هو السباق في تقويم نزعات الانسان
وفتح سبل النور أمامه في مجاهيل الحياة.
ومن هذا المنطلق نرى أن الدين الاسلامي حمل الحرية فنارا يُهتدى به
وجعل من الحرية ايضا طريقا مهما وواضحا لتحقيق السلام البشري، وفي هذا
الصدد يقول الامام السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) في كتابه
الموسوم بـ (عاشوراء والقرآن المهجور):
(إن الإسلام هو دين الحرية والتحرر، وقد تنعّم المسلمون الأوائل في
صدر الإسلام بهذه النعمة الإلهية الكبرى، ولمسوها بقلوبهم وأبدانهم،
وتحسّسوا بردها وروحها).
وقد أكد الامام الشيرازي على التركيز الكبير على الحرية التي تشكل
هدفا أسمى للبشرية جمعاء، فأضاف في كتابه نفسه قائلا:
(إن الإسلام أعطى كامل الحرية للإنسان، وذلك في غير ما فرضه الله
تعالى على الإنسان لحفظ إنسانيته، وتعالي روحه، ورغد عيشه، وسعادة
حياته، من فعل الواجبات وترك المحرمات، وما أقلهما بالنسبة إلى الحريات
الإسلامية، فانه فيما عدا ذلك جعل الله الإنسان حراً في أن يفعل ما
يشاء، وأن يترك ما يشاء، فأعطاه الحرية في الفكر والعقيدة، والحرية في
العمل والاكتساب، فله أن يختار ما يشاء منها ويترك ما يشاء منها، على
ما يحب هو ويريد).
ويؤكد المختصون بأن الحريات السياسية تكمن في جوهر تعاليم الاسلام
ومبادئه التي أطلقت حرية الاختيار والرأي والعمل والسفر والتملك وحرية
الابداع في المجالات التي تصب في صالح الفرد والجماعة في آن واحد، ولعل
التحديد الوحيد للحرية وفقا لرؤية الاسلام يتمثل بعدم التجاوز على حقوق
الآخرين، وهو أمر يتفق عليه الجميع بطبيعة الحال.
ويقودنا هذا الكلام الى واقع الحال في العراق ومواصلة الإعداد
لاجراء الانتخابات النيابية القادمة، حيث يتطلب الامر اتفاقا بين جميع
الاحزاب والكتل والشخصيات السياسية على مبدأ الحرية الذي أكد عليه
الاسلام، فلا وصاية ولا تشهير ولا تسقيط لا يتوافق مع الحريات
السياسية، وهذا ما يهدف إليه الاسلام الذي منح الانسان حريات واسعة، إذ
نقرأ في هذا المجال قول الامام الشيرازي في كتابه المذكور آنفا بأن
الاسلام أعطى للانسان:
(الحرية في طلب العلم ومواصلة الدراسة، وفي الاستفادة من الثروات
الطبيعية، والمباحات الأصلية، ومن السفر إلى أي بلد شاء، والإقامة في
أي بلد أراد، وفي البناء والعمران، وفي إبداء الرأي في المسائل
السياسية، وإعلان انتقاداته بالنسبة إلى الحاكم والرئيس، والقادة
والوزراء، وكذلك الحرية في الزراعة والصناعة، وغير ذلك من الحريات
الكثيرة التي منحها الإسلام للإنسان في حياته اليومية، بلا حاجة إلى
اقتناء جنسية، أو جواز سفر، أو هوية، أو جواز عمل، أو ترخيص بناء، أو
ما أشبه ذلك من القيود والأغلال.كما إن الإسلام أعطى الحرية للفرد،
والحزب، والتجمعات السياسية، بأن يبدوا آراءهم، ويعلنوا انتقاداتهم،
ويقدّموا أطروحاتهم، في كيفية الحكم وطريقته، وفي نوعية السياسة، وفي
منهجية الحكومة، عبر كل وسائل البث والنشر، من صحف ومجلات، وراديو
وتلفزيون، وكتب ومقالات، وندوات وتجمعات، وغير ذلك).
وهكذا يتضح للجميع، وخصوصا للسياسيين، أن مبدأ الحريات السياسية من
المبادئ المهمة التي طرحها الاسلام، ولعله الركيزة الاساس التي قامت
عليها مسيرة الدولة الاسلامية التي انبثقت في وسط بشري كان محاطا
بالظلام والتخلف والتعصب القبلي ليتحول الى امة تسيّدت العالم بأفكارها
وابداعها في الميادين كافة، وهذا يؤكد أن الحرية السياسية وإشاعتها بين
الجميع واعتماد المشاركة والتعايش والتنوع والتسامح هي السبيل الأقرب
والأسلم لبناء دولة معاصرة قائمة على العدل والمساواة وتكافؤ الفرص
والإلتزام بحفظ حقوق الجميع من قبل الجميع. |