بعد أن تثبت ضرورة العمل بالشورى في الدولة الإسلامية لضمان الحريات
السياسية للشعب وتقديمه إلى الأمام من القمة السياسية الى أبسط الدوائر
والمؤسسات، قد يتساءل البعض عن أهم الفوائد والمعطيات التي تترتب على
نظام الشورى، وللإجابة على هذا التساؤل نذكر عدة من الفوائد والمعطيات
لذلك، وهي كالتالي:
1- العمل الجماعي
حيث إن في شورى الفقهاء ثباتاً نسبياً للخطط الجماعية التي ترسم
للعمل؛ لأن الشورى تقوم على نظام المؤسسة والعمل الجمعي؛ إذ هناك نحوان
من العمل. الأول: العمل الفردي والثاني: العمل الجماعي، وبينهما بون
بعيد من حيث الفعل والتأثير والاستدامة، فالعمل الفردي مرهون في الغالب
بوجود الفرد يبتدىء بابتدائه وينتهي بانتهائه، أي يحيا ويموت بحياة
وموت الفرد.
أما العمل الجماعي فهو أكثر ثباتاً ودواماً واستقراراً من الأول،
وكمثال على ذلك حياة الفرد، فإنها تبتدىء يوم يفتح عينيه على الوجود
وتنتهي يوم يودع الدنيا، بينما حياة المجتمعات ليست كذلك؛ إذ إنها تحظى
ببقاء أطول، ولاتنتهي بموت أفراد معدودين منها.
مثال آخر: الترعة الصغيرة لو سحب منها الماء الكثير تنتهي وينفذ
ماؤها، بينما ماء البحر لايظهر عليه النقص حتى لو سحبت منه ملايين
الأطنان، ففي الوحدة النوعية ثبات نسبي تفقده الوحدة الشخصية، بل طابع
الوحدة الشخصية عدم الثبات.
وكذلك يقال في المرجع الواحد وشورى المراجع، فالمرجع الواحد إذا
ارتحل عن الدنيا تغير الخط الذي كان يمتد في حياته، أو يموت خطه أيضاً،
بينما المؤسسات الجماعية ليست كذلك، فالحزب مثلاً إذا مات رئيسه يبقى
مستمراً يديره بقية مفكري ذلك الحزب.
القيادة لو كانت متجسدة في مرجع واحد فهي رهينة حياة ذلك المرجع،
تبقى مادام ذلك المرجع باقياً، وتنقرض بانقراضه، بينما القيادة
المتجسدة في شورى المراجع ليست كذلك، فإنها تبقى مستمرة وتدوم مادام
للمسلمين مراجع، والمراجع موجودون دائماً؛ لأنهم الخلفاء الشرعيون
للرسول، والوكلاء العامون للإمام المهدي صاحب الزمان (عليه السلام).
ومثل هذا يجري أيضاً في جميع الأنظمة الديكتاتورية تقريباً، حيث
تنتهي الدولة ويختل النظام وينعدم الأمن فيها لمجرد تعرض الرئيس الحاكم
إلى الموت أو السقوط، والأمثلة على ذلك كثيرة، فقد كانت قيادة مصر
والخط الحاكم فيها مثلاً تعتمد على إنسان واحد هو جمال عبد الناصر؛ إذ
كان هو الأول والأخير في اتخاذ القرارات وتنفيذها، وكان هذا الخط باقياً
مادام عبد الناصر على دفة الحكم، لكن فور انعزاله وموته تغيّر أُسلوب
الحكم، ودفن الخط الحاكم رأساً، ودار من فلك الشرق إلى أُفق الغرب،
وذلك حينما جاء السادات إلى الحكم، وكان هذا الأخير كسابقه هو الوحيد
الذي له حق اتخاذ القرارات وإمضائها حتى إذا أُطلقت رصاصة واحدة تغيّر
الخط الحاكم من الجذور، ثم جاء بعده خط جديد وأُسلوب آخر يختلف تماماً
عن سابقيه ليدير دفة الحكم في مصر وهكذا.
بينما القيادة في لبنان مثلاً غير متوقفة على شخص واحد، ولافرد معين،
بل موزعة بين الجميع وإن لم تكن بصورة عادلة؛ لذلك نرى أن ملايين
الرصاصات قد أُطلقت في لبنان ولم يحدث في خط الشعب اللبناني العام
تغيير ولاتبديل(1).
والجدير بالذكر أنه عقد في مجلس الأُمم المتحدة اجتماع طارىء بعد
اغتيال السادات، فقال الممثل المصري في خطاب له: إن هناك دولة يتغير كل
نظامها بإطلاق رصاصة واحدة، وينتهي النظام بموت إنسان واحد وهو السادات.
فقال ممثل لبنان مجيباً في خطابه: وهناك دولة تصمد أمام ملايين
الرصاصات، ولايتغير نظامها الحاكم وهي (لبنان) رغم الحروب والصراعات
الموجودة فيها.
وهذه هي إحدى الفوارق الجوهرية بين الوحدة الشخصية المتمثلة في
زعامة السادات الذي كان يتخذ القرارات بنفسه، حتى إنه اتخذ قرار زيارة
إسرائيل وحده بعد حرب طالت ثلاثين عاماً، مما أدهش مجلس الأُمة المصري،
وبين زعامة الهيئة الحاكمة في لبنان التي تتخذ قراراتها وفق الإجماع أو
الأكثرية.
ومن الواضح أنه لاضمان لدوام أية دولة دون توزيع القرارات واعتماد
الشورى؛ ولذا نرى أن البلاد الديكتاتورية تسقط الواحدة تلو الأُخرى
بعكس الدول الديمقراطية.
وبالطبع لاينفع أن يكون في البلاد مجلس استشاري يطلق عليه مجلس
الأُمة أو الشورى أو البرلمان إذا لم يكن وراء المجلس أحزاب حرة، فإذا
لم توزع القدرة بين الأحزاب الحرة لاتسلم الحقوق الإنسانية للأُمة، بل
تصادر أبسط حقوقها وحرياتها.
أما مصير الدولة فيكون السقوط على أثر انقلاب عسكري غالباً، كما هو
المعتاد في كل بلد يحكمه حزب أو جهة واحدة، أما البلاد الديمقراطية ذات
الأحزاب الحرة فلايقع فيها انقلاب عسكري مادامت الحرية السياسية هي
الحاكمة، والأحزاب المعارضة لها حق التعبير عن رأيها.
2- تكامل الأدوار
من أهم مايتميز به العمل الشوري هو تكامل الأدوار بين أطرافها
المختلفة بخلاف العمل الفردي، فمن الواضح أن المرجع الواحد له أُسلوبه
وطريقته ونظريته في العمل، ويبذل زهرة عهده المرجعي في نطاق سياسته
الخاصة ونظرياته في العمل والخدمة والقيادة وتطبيق الإسلام، وليس
بالضرورة أن يؤمن المرجع المستقبلي بذلك، بل في كثير من الأحيان تختلف
أساليب العمل عند المراجع، وأحياناًَ تختلف النظريات السياسية عندهم في
تفجير حركة سياسية، أو قيادة ثورة ثقافية، أو حركة إصلاح شاملة، أو غير
ذلك، وتبدل القائد يغير السياسة القيادية غالباً في البلاد ذات الحزب
الواحد.
في الاتحاد السوفيتي مثلاً – والأمثال تضرب ولاتقاس – تتغير سياسة
لينين بعد موته، وكذا سياسة ستالين وخرتشوف، وهكذا في الصين بعد موت
ماوتسي تونغ، ومصر والعراق بعد موت أي رئيس فيهما، وهذا أمر لايخفى على
المطلع على التسلسل السياسي لهذه البلاد، وبالطبع هذا لايعني عدم تغيير
السياسات في البلاد ذات الأحزاب المتعددة، بل المقصود أن الثبات
السياسي أكثر استقراراً من غيرها.
والمسألة طبيعية لأن الاجتهادات والنظريات الإدارية والسياسية تختلف
دائماً كالإجتهادات الفقهية والأُصولية، وكذا الأساليب والتكتيكات
للاجتهادات المتباينة.
أما في ظل القيادة الجماعية فتتحجم مثل هذه التحولات السياسية
الانقلابية، وتسير وفق نسق ثابت قائم على مبدأ الأكثرية غالباً، أي
الرأي الجماعي.
وكلما ارتفع مرجع إلى الشورى تبلورت شخصيته وأفكاره، وبقيت الأساليب
الإدارية ثابتة، ولايستطيع المتقدم الجديد قلب موازين الإدارة السابقة،
وتخطئتها ورسم خطة جديدة مضادة للخطة السابقة، بل لاحق للمرجع الجديد
في الشورى الانحراف عن الخطة المعمول بها في الشورى والتحليق خارج
السرب إلاّ إذا أسند خطته بأدلة ووثائق متينة وبراهين ساطعة، وتمكن من
إقناع الأكثرية.
وهكذا تدار شؤون المرجعية على نسق محكم ومنظم وثابت دون حدوث أية
اضطرابات إدارية وتبدل مواقف ناشىء من تبدل مرجع أو ارتقاء مرجع إلى
الشورى، فتتحصن الشورى عن المؤثرات العاطفية والانفجارات الوقتية، وفي
هذا الجو تخطط لقيادة الأُمة وتناقش المشاريع المطروحة بموضوعية
وواقعية وهدوء.
3- توحيد
الاتجاهات
لاشك أن شورى الفقهاء صيغة منطقية عقلائية لتوحيد بعض الاتجاهات
المتباينة لبعض الفقهاء الذين هم القادة الواقعيون الشرعيون للأُمة، بل
إن كل شورى متكافئة وسيلة للتوحيد النسبي بين الاتجاهات المنصهرة فيها
أيضاً.
إنا لو لاحظنا تاريخ خمسة آلاف عام إلى اليوم لواجهتنا عدة أسئلة
تقول:
1-هل باستطاعة محور قوة واحدة من الهيمنة الكاملة على الجميع ونسف
باقي المحاور الأُخرى وإعفاء أثرها بالكامل؟
2-مع تعدد الآراء والاتجاهات هل يمكن الجمع بينها والتوفيق بين
متضاداتها وتطبيقها عملياً؟
3-عندما توجد عدة قوى اجتماعية ماهي النسبة التي تكون بين هذه القوى
والقدرات؟ النسبة التي أثبتها التأريخ هي التباين والتصادع. نعم يمكن
للبعض أن ينسج التوافق الخيالي أو الصوري بين القوى دون تشريكها في
الحكم والإدارة، كالكاتب الذي لم ير من الحرية إلاّ اسمها في بلد ما
فيضطر إلى السفسطة، فيتحدث عن الحرية في العراق أو الاتحاد السوفيتي
وأمثالهما من البلاد المحكومة بنظام الحزب الواحد، لكن التجربة
والتأريخ أثبتا أنه لايمكن جمع محاور القوى إلا عن طريق تشريكها في
الإدارة والمسؤولية حكومية كانت أو غير حكومية(2)، وهذا شيء طبيعي
للمجتمع الإنساني ككل، ومع عدم تشريك مختلف محاور القوى في الإدارة فإن
المصير الحتمي هو الضعف واللجوء إلى الاستبداد والسقوط أخيراً.
وهذه القاعدة جارية بالنسبة إلى المراجع ومقلديهم، فإن كل مرجع يملك
النفوذ على مقلديه وليس للآخر نفوذ على مقلدي هذا فيما تختلف آراؤهم
فيه، كما ليس له شرعاً فرض آرائه عليهم بالقوة وإن كان هو الأقوى.
فهل لهذا المشكل الكبير من علاج؟ يعني ماذا نفعل لكي نجمع كل القوى
والقدرات الموجودة على الساحة مع اختلاف آرائها وقياداتها حول النظام
حكومياً كان النظام أو مرجعياً؟ وهل هناك طريق أفضل من جمع المراجع
وتشريكهم الواقعي في إدارة النظام عن طريق شورى الفقهاء؟.
4- توحيد الأمة
الواقع أن الأُمة الاسلامية العامة الشاملة على الصعيد السياسي
لاالعقيدي والفقهي مشروطة أيضاً بشورى الفقهاء والعلماء، ولاتتصور
بدونها.
الوحدة الإسلامية كشعار وبديل لعواطف غير نابعة من القلب شيء سهل،
أما إلباسها لباس الواقع المباشر فهي بحاجة إلى طرح متكامل يؤلّف بين
الأُمة والدولة من ناحية ومختلف الاتجاهات التقليدية والمراجع والعلماء
من ناحية ثانية، ولعل هذا الطرح الذي نذكره يفي بالأمرين.
إن في العالم الإسلامي حوالي أكثر من ألف وخمسمائة مليون مسلم حسب
آخر الإحصاءات، وهؤلاء متشابكون في البلاد، وإن كان الأكثر في بعض
البلاد شيعة وفي بعض البلاد سنة، كما أنهما يتساويان في بعض البلاد
الأُخر.
فاذا أُريد جمع هؤلاء في وحدة دينية حكومية واحدة فاللازم اتباع عدة
خطوات:
إحداها: جمع كل مراجع التقليد الشيعة في مجلس أعلى يحكمون فيه
بأكثرية الآراء.
ثانيها: جمع كل مفتي السنة والعلماء الذين يتبعونهم في أخذ الأحكام
في مجلس أعلى يحكمون فيه بأكثرية الآراء.
ثالثها: وهذان المجلسان يجمعهم مجلس واحد، فإذا أريد صدور حكم
بالنسبة إلى إحدى الطائفتين فقط كان لعلمائهم إصدار الحكم بأكثرية
الآراء، وإذا أُريد صدور الحكم بالنسبة إلى الجميع – حيث إن الأمر يهم
كل الألف وخمسمائة مليون مسلم من جهة سلم أو حرب أو ماأشبه – كان الحكم
يتبع أكثرية آراء المجلسين معاً، لكن بمعنى أكثرية هذا المجلس وهذا
المجلس لابمعنى الأكثرية المطلقة.
مثلاً لنفرض أن في كل مجلس تسعة من العلماء مما يشكل المجموع ثمانية
عشر، فإذا أُريد الحكم على البلد الإسلامي ذي الألف وخمسمائة مليون
مسلم كان اللازم خمسة من كل مجلس لاعشرة وإن كان تسعة منهم من مجلس
وواحد من مجلس، وذلك لأن الأكثرية المطلقة ليست محلاً لقبول الطائفة
الذين لايحكم أكثرية علمائهم.
رابعها: وكل طائفة من الطائفتين لهم حرية المناقشات الأُصولية
والفروعية، وإنما لايحق لطائفة أن تعتدي اعتداء جسمياً أو مالياً على
طائفة أُخرى، فإن حرية الرأي والكلام والنشر وماأشبه من مفاخر الإسلام
الذي جاء لإنقاذ الإنسان من الكبت في كل أنواعه.
خامسها: ثم ينبع من المجلس الأعلى وشورى العلماء أحزاب إسلامية حرة
كل حزب في نطاق طائفته، وتكون هذه الأحزاب مدارس سياسية اقتصادية
اجتماعية تربوية لأجل تربية الصالحين لإدارة البلاد في المجالات
التأطيرية الشريعة والقضائية والتنفيذية.
وينصب الولاة من جنس الأكثرية في القطر بدون أن يحدد ذلك من حريات
الأقلية، وكذلك حال القضاة ومن إليهما.
وتكون مهمة هذا المجموع – العلماء والأحزاب – إرجاع الأُمة الواحدة
الرشيدة إلى الحياة(3)، وبذلك يظهر أنه بدون شورى الفقهاء لايمكن بحال
جمع طاقات الأُمة وتوحيدها.
يقول الأستاذ عبد الكريم الخطيب: والشورى طريق إلى وحدة الأُمة
الإسلامية ووحدة المشاعر الجماعية من خلال عرض المشكلات العامة أو
تبادل الرأي والحوار(4).
ويقول الدكتور محمد البهي مؤكداً على أن الشورى أبعد من الانقسام
وأحفظ لوحدة الصف، والشورى على أية حال اجتهاد في الرأي تحتمل الصواب
والخطأ، ولكنها أقرب إلى الأمان، وأبعد عن الانقسام والهزات بين صفوف
المؤمنين في أُمتهم(5).
ويؤكد في مكان آخر من كتابه على الوحدة النسبية التي تحققها الشورى
في الأُمة، ويطرح المسألة طرح المسلمات المفروغ منها، فيقول: ووجوب
الشورى في الأمر بين المؤمنين بعضهم بعضاً لالضمان الوحدة بين صفوف
الأُمة فحسب، ولاللإطمئنان على مصلحة كل طرف داخل مع طرف آخر في
معاملته، أو للمصلحة العامة لجميع الأفراد فقط، وإنما قبل ذلك لتنبيه
كل فرد على مسؤوليته الفردية، وعلى مايترتب على هذه المسؤولية من
التزامات نحو الفرد نفسه، أو نحو الآخرين معه في المجتمع(6).
5- تفجير الطاقات
الطاقات البشرية مواد خام مختزنة تكتشفها المسؤوليات، ولايمكنها
الوصول إلى مرحلة العطاء إلاّ إذا وضعت في مستوى المسؤوليات.
إن للإنسان كثيراً من الطاقات، لكنها سوف تبقى مختزنة في الباطن إذا
لم نهيىء لها العمال والمسؤوليات الضخمة التي تحفزها على التفكير، ثم
على إيناع الطاقات الكبيرة الكامنة فيه، وهذا ماجرّب عملياً. مثلاً:
الفرق بين الحوزات العلمية والجامعات العلمية الحديثة – ويتحسس هذا
الفرق جيداً من جربهما معاً– هو أن الجامعي دائماً في حالة أخذ وليس له
عطاء في الغالب، وهذا مايجعله خاملاً منطوياً على نفسه، بينما الحوزوي
فور مايقطع مرحلة أولية يبدأ بالتدريس، والتدريس هو الذي يصقل فكر
المدرس، حتى قيل: الأُستاذ لايصنع التلاميذ، بل التلاميذ يصنعون
الأُستاذ. وهذا حق، وأثبته أيضاً علم التنظيم، حيث إن الأفراد لهم
الدور المهم في تربية المسؤول قبل أن يكون هو مربيهم.
هذا على مستوى الفرد، وأما على مستوى المجتمع فهو أيضاً كذلك، حيث
إن أفراد المجتمع إذا دخلوا حلبة الصراع الفكري للبناء والتقدم ورقي
البلاد تبلورت الأفكار، وأثمرت وسخت بالعطاء، وعلى أثر تلاقح أفكارها
ورشدها تتقدم البلاد في كل المجالات، وحينما أرادت أمريكا أن تبني
كيانها وتؤسس دولتها أطلقت نداءها المعروف في العالم: أيها المتعبون في
العالم هلموّا إلى أرضكم وبلادكم، وبادروا إلى المشاركة في إدارتها.
وبالفعل اشترك الجميع في الإدارة حتى أصبحت أمريكا تهيمن على أكثر
بلاد العالم، فمثلاً: في ولاية كاليفورنيا التي هي واحدة من إحدى
وخمسين ولاية أمريكية توجد (200) محطة إذاعة، و(0 150) صحيفة تصدر في
(150) صفحة إلى (500) صفحة أحياناً، وتباع فيها محطات الإذاعة والتلفاز
كما يباع أي شيء في بلادنا. هكذا دولة التي تشارك في إدارتها كل
المحاور والقوى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية تستحق بالطبع أن تكون
أقوى دول الأرض.
منذ ((200)) عام كانت نسبة الأُميين في أمريكا أكثر مما هي في مصر
الآن، ومع ذلك نالت أمريكا الحرية الكاملة والديمقراطية الكاملة في تلك
الأيام، وبهذه الحرية والديمقراطية أوصلت نسبة التعليم إلى (99 (عليهم
السلام)) فالحرية والديمقراطية هي التي تلد التعليم، وليس العكس، بدليل
أن هتلر لما تولى حكم ألمانيا كانت نسبة المتعلمين فيها مائة في المائة
ومع ذلك جاءتها الديكتاتورية التي حولت الشعب المتعلم إلى رقيق
وعبيد(7).
وهذا بالطبع لايبرر الثغرات الحضارية الضخمة في الكيان الأمريكي
بوجه عام، وفي الجانب الاقتصادي تعتبر البلاد المعتمدة على إشراك مختلف
القدرات في الإدارة قوية رغم وجود ضعف مافيها، فلبنان مثلاً الذي لازال
يشتعل بنار الحرب الأهلية منذ ثلاثة عشر عاماً مع أنها لاتمتلك مقومات
الحياة ومنابع الثروة كالنفط والغاز وأمثالها فإنها تتمتع بوجود كل
مايحتاجه الناس، ولم تسقط عملتها سقوطاً تاماً، ومقدار سقوطها الحالي
طبيعي كأي دولة تتعرض للحرب وفي نفس الوقت لم يقل من رصيدها الاقتصادي
من الذهب شيء.
أما من الناحية السياسية فيكفي أن نعرف أن العرب والمسلمين بوجه عام
رغم ماكان لهم من قيادات دعت إلى إلقاء اليهود في البحر كعبد الناصر
والذي ملأ العالم العربي رعداً وبرقاً وضجيجاً لم يستطيعوا جميعاً من
زحزحة إسرائيل من مكانها ولابمقدار شبر واحد، بل العكس صحيح؛ إذ أخذت
إسرائيل تقوي مواضعها، وتوسع احتلالها، وتجذر نفوذها بزرع المستوطنات
في مختلف أنحاء فلسطين المغتصبة، وتطور سلاحها واقتصادها وسياستها،
وهذا لم يكن إلاّ نتيجة الانفرادية والأحادية في إدارة بلادنا وعدم
اكتشاف الطاقات الهائلة المكتنزة في ضمير وفكر وروح أُمتنا عن طريق
إشراكها في الإدارة وعبر ممثليها الشرعيين والواقعيين، وهم فقهاؤها
ومراجعها. هذا ماصنعته إسرائيل، وأشركت كل مراكز القدرة الشعبية
والسياسية في الادارة.
فلنعط المبدعين والمتفوقين في منزلتهم العلمية والاجتماعية اللائقة
بهم، ونشركهم في اتخاذ القرارات الهامة في الحياة الاجتماعية والسياسية
لكيلا يفر من بين أيدينا كل عقل مفكر وطاقة بناءة وفكرة مبدعة، وتنصب
في تيار الأُمم الصناعية المتقدمة مجاناً.
نماذج من المؤسسات والأنشطة الجماعية
والحق يقال وإن كان مراً أن جبهات أعداء الإسلام وغيرهم قائمة على
أساس المؤسسات، وهذه المؤسسات والأعمال الجماعية نعرفها عبر:
1- المؤسسات السياسية والإنسانية الدولية
كالأُمم المتحدة التي تمثل أكثر دول العالم والتي يجتمع في ظلها وكلاء
الدول ووزراؤها ورؤساؤها أحياناً، هذه المؤسسات البالغ عددها حوالي
(106) مؤسسة دولية(8)، وكذا منظمة دول عدم الانحياز هي مظاهر لتنسيق
محاور القوى العالمية ورؤسائها فيما بينهم.
2- المؤسسات السياسية المحلية، كجامعة
الدول العربية ومنظمة الوحدة الإفريقية ودول مجلس التعاون الخليجي
وغيرها. هذه مظاهر من الجبهات العاملة بصيغة الشورى والتي تنظم بعضها
جهودها ومواقفها غالباً ضد الإسلام والمسلمين، كما تصب في خطوط
الاستكبار الدولي وخاضعة لمحور المسيحية العالمية أو الإلحاد الدولي.
3- الأحلاف العسكرية الشرقية والغربية
كحلف وارشو وسنتو وأمثالهما. هذه محاور قوى عسكرية خاضعة لأعداء
الإسلام، وهي مظهر واضح للتنسيق العسكري والتخطيط للهيمنة على العالم
كله دون أي اعتبار لأكثر من ألف وخمسمائة مليون مسلم في العالم، ودون
أن تكون لهم أي نوع من التنظيم أو الحلف العسكري فيما بينهم، وهذه
الأحلاف مصاديق صارخة للشورى أيضاً.
4- المؤسسات الاقتصادية العالمية
والمحلية كالسوق الأوربية المشتركة ومنظمتي أوبك وأوابك الخاضعة لسياسة
الدول الغربية، وفي الولايات المتحدة منظمات اقتصادية توجه جوانب من
اقتصاد العالم منها منظمة تجار الذهب التي تضم (600) تاجر كبير يهيمنون
على كثير من أرصدة الذهب في الدنيا.
ولليهود شوريات اقتصادية تهتم بشأن كل تاجر يهودي، بل حتى أبسط
يهودي لو أُصيب بكارثة إقتصادية أو خسر في التجارة تعقد الشورى جلسة
استثنائية وتخطط لإنقاذ اليهودي الفقير أو الخاسر.
وذات مرة خسر تاجر يهودي كل أمواله في بغداد، فاجتمع التجار اليهود
في جلستهم الخاصة، وأقرضوا زميلهم المنكسر رأسمال معين قسّم عليهم
جميعاً، ثم اتفقوا على عدم استيراد بضاعة معينة – الحديد مثلاً – وعدم
شرائها إلاّ من زميلهم هذا لجبر خسارته، مضافاً إلى توجيه زبائنهم إليه،
وهكذا استنقذ التاجر اليهودي المنهار، وارتفع خلال ثلاثة أشهر إلى
مستوى أعلى من قبل سقوطه، ووفى إليهم كل الديون المترتبة عليه، كما أن
لتجار أبناء العامة في بعض البلاد – الكويت مثلاً – مثل هذه الشورى،
ولهذه الشورى دور كبير لتنظيم تجارتهم والإبقاء على هيمنتهم على
التجارة الكويتية.
مضافاً إلى تأثيرهم في السياسة أيضاً، حيث يرتفع أفراد منهم إلى
مجلس الأُمة الكويتي، وفي الدورات الانتخابية تعقد هذه الشورى اجتماعات
معينة للهيمنة على مجلس الأُمة، ومن مواقفها حل النزاعات والخصومات بين
المرشحين والنواب عن طريق إعطاء طرف واحد كمية من المال لشراء سكوته
وتراجعه. هذا ماتفعله هذه الشورى مقابل انسحاب بعض المرشحين منهم فيما
لو أحسوا بالضعف وتفرق الكلمة.
وبالمقابل فإن تجار الطائفة في الكويت يفقدون مثل هذه الشورى، لذلك
نرى أن من حقهم القانوني أن ينتخبوا أحد عشر نائباً لهم، لكنهم
لاينتخبون إلاً ثلاثة فقط، وضعفهم هذا تمتد جذوره إلى عدم الموقف
الموحد لها، وتبعثر طاقاتها في الأُمور الجانبية. هذه التكتلات
الاقتصادية مظاهر للشورى لكونها منضمة تحت صيغة تنظيمية شوروية – تنسيق
متبادل – بين أعضاء هذه الدول والمجموعات، وهذا هو من أجلى معاني
الشورى.
5- أحزاب العالم الحر والمتعددة في كل
تلك البلاد الديمقراطية، وديمقراطيتهم مظهر للشورى، كما أن حرية
الأحزاب عندهم وحرية انتخاب رئيس الحكومة ورئيس الحزب إنما هي مظاهر
واضحة للشورى، بل حتى الأحزاب الديكتاتورية العنيفة كالحزب الشيوعي
الروسي ينظم نشاطاته عبر مؤتمرات يعقدها كل أربع سنوات(9)، والمؤتمر
بطبعه وصيغته الجماعية مظهر شوروي بارز وإن كانت جذور مؤتمراتهم
ديكتاتورية صرفة.
6- المؤتمرات، إن من يتابع الأخبار
السياسية في العالم يعرف كم هي المؤتمرات التي تعقد في مختلف أنحاء
العالم، وهذه المؤتمرات للقمم والرؤساء أو غيرهم هي صيغة رائعة للتنسيق
المشترك والشوروي بين مسؤولي دول العالم، إلاّ أنها تصب في الخط
المعادي للإسلام غالباً، ولقد عقدت (C I A) في عام (1987م) (121)
مؤتمراً للتنسيق بين فصائل هذا التنظيم الجاسوسي الإرهابي الحاقد على
الإنسانية، وفي الهند أطلق اسم المؤتمر للحزب الذي قاد الشعب الهندي
إلى النصر، والذي يهيمن الآن على الدولة هناك، وأُسلوب عمله المعتمد هو
عقد المؤتمرات.
إن مؤتمرات القمة الثنائية والثلاثية والجماعية هي التي تنسق جهود
الدول فيما بينها، وهذه المؤتمرات قائمة على قدم وساق بين مختلف الدول،
وتتخذ أشكالاً مختلفة، فقد تكون علمية كالمؤتمر الطبي الذي عقد في
باريس وحضره ثلثمائة من مختلف الاختصاصات لبحث خواص الثوم وفوائده
الطبية، ومركباته الكيمياوية، والأدوية التي يستفاد منه فيها، وتصنيعه،
ومكافحة رائحته وتقطيره، وتجفيفه وغير ذلك، وقد نشرت الصحافة حينها
تقريرات مسهبة عن هذا المؤتمر.
وقد تكون مؤتمرات صناعية كالتي تعقدها الشركات العالمية، كشركة (سوني)
اليابانية المصدرة للمسجلات والفيدوهات ومشتقاتها، وقد عقدت الشركة
مؤتمرها السنوي لإحدى هذه السنين الأخيرة من الثمانينات، وأجمع المؤتمر
على وقوع سبعة أخطاء إدارية في العام المنصرم، وخطط لتلافيها مستقبلاً،
إلاّ أن رئيس الشركة كتب استقالته وقدمها إلى المؤتمر، معتذراً بأن من
تصدر منه سبعة أخطاء لايستحق رئاسة الشركة !.
وقد تتخذ هذه المؤتمرات أشكالاً أُخرى، وتعقد هذه المؤتمرات بالمئات
أو الأُلوف في كل سنة.
7- ومن مظاهر وأساليب النشاط الجماعي
الاتصالات المستمرة بين قادة الدول عبر الزيارات المتبادلة وبعث
المندوبين والسفارات والاتصالات البريدية والهاتفية، وبين بعض رؤساء
الدول خطوط هاتفية خاصة لايعرف أرقامها غيرهم كالخط التلفوني الخاص بين
الرئيس الأمريكي والروسي والذي أُعد للظروف الطارئة، وأُطلق عليه اسم (الخط
الأحمر !)..
هذه الاتصالات مظاهر أخرى للتنسيق المتبادل بين مختلف بلدان الأرض.
8-ومن مظاهر العمل الجماعي أيضاً تلك الشورى القائمة بين القيادات
الدينية المسيحية من القساوسة والرهبان، وهذه الشورى قديمة قد يبلغ
عمرها عدة قرون، وتولدت بعد حروب طاحنة بين المذاهب المسيحية المختلفة،
والتي دامت عشرات السنين، وأبادت مئات الأُلوف من أتباع المذاهب
المختلفة، وكانت الجهة المنتصرة تجمع أسرى المذهب الآخر في ساحة عامة
في روما، وبلغ عددهم مرة أربعة آلاف، ومرة أُخرى اثني عشر ألفاً بما
فيهم العجزة والأطفال الرضع والنساء الحوامل، فكانوا يصبون عليهم الزيت،
ويشعلونهم بالنار، حقاً إنها مآس سودت وجه تأريخهم إلى هذا اليوم، ولم
تنته دوامة المأساة إلى أن قامت مؤسسة مشتركة متكافئة بين قادة المذاهب
والخطوط المسيحية المختلفة سموها بالمجمع المسكوني، ولولا مجمعهم
الشوروي هذا لدامت حروبهم كثيراً، والسبب واضح في ذلك، وهو أن القيادة
الدينية مطاعة في كل المذاهب، ولها هيبة وهيمنة معينة على الأُمة، فلو
صممت أمراً نفذته، وجرت وراءها الأُمة حتى لو لم تكن قواعدها ملتزمة
دينياً فإنها تخضع لعمليات التثوير العاطفي وغسل الدماغ، فتشارك في
المعارك. أما لو وصلت القيادة الدينية إلى حل سلمي معقول وشكلت مجلساً
تنسيقياً للأطراف المتنازعة وأعطى كل طرف حقه بعزة واحترام، فإنه حينئذ
يسلّم للسلم ويرفض الحرب.
ومن هذه المؤسسات الدينية رابطة العالم الإسلامي المستقرة في مكة
المكرمة، وتوجه عشرات الأُلوف من المطوعين، أي رجال الحزب الوهابي في
العالم، وتنشر مئات الأُلوف من الكتب المسمومة، وتشعل الفتن بين
المسلمين في الباكستان والهند والخليج وغيرها(10).
9- مجالس الشورى والإعلام والبرلمانات
وماشابهها والتي تعتبر مجالاً مفتوحاً لكل محاور القوة في البلاد لتعرض
رأيها وتوجه سياسة بلدها، هذه المجالس التي تحاسب أكبر مسؤول في البلاد،
وتراقب تحركات الوزارات، وتحاكم كل مسؤول يتصرف كيفياً، أو يصرح بما
لايوافق عليه البرلمان أو غير ذلك من الهفوات التي قد تتعرض له جهة
مسؤولة في البلاد.
وحين يسرب الرئيس الأمريكي نيكسون شريطاً إلى جهة يحاسب على ذلك
حساباً عسيراً، وتتحول القضية إلى أكبر حدث سياسي في حينه يطلق عليه
اصطلاح فضيحة ووترغيت، ويعفى الرئيس الأمريكي من منصبه، وهكذا في فضيحة
لوكهيد في اليابان حين يضطر رئيس الوزراء الياباني إلى الاستقالة. هذا
في بلادهم، أما في بلادنا فيقوم رئيس أكبر دولة عربية بزيارة إسرائيل
والصلح معها دون أن يكون لمجلس الأُمة المصري أي رأي في القضية، بل
يفاجأ الآخر بزيارة السادات لإسرائيل.
وهكذا في قرارات الحرب وغيرها من القرارات الستراتيجية تتخذ دون أن
يكون في المجلس ولاصوت معارض واحد ليعبر عن منطق المعارضة وبرهانها ضد
الحرب، أليست هذه المجالس أقرب إلى كونها ديكوراً وكارتوناً فارغاً؟.
10- مضافاً إلى مامضى فإن هؤلاء الأعداء
في المعسكر الغربي نموا على الحرية والديمقراطية والشورى حتى الفردية
أيضا، أي إنهم لو عزموا على أمر يستشيرون من حولهم فيه، ويقلبون الآراء،
ثم يتخذون القرار.
ولذا قال أمير المؤمنين (عليه السلام): ((الله الله في القرآن لا
يسبقنكم بالعمل به غيركم)) (11) فليس المراد من هذا النص الشريف الصلاة
والصيام والحج، فإن غير المسلم لا يعمل بها مطلقا، بل المقصود قوانين
الإسلام الموجبة لتقدم المسلمين في مختلف ميادين الحياة، كالشورى
والحرية والنظام وما أشبه ذلك التي تركها المسلمون فتخلفوا عن موكب
الحضارة، والتزم بها غيرهم فتقدموا عليهم على كل الأصعدة. على كل حال
نحن نعيش عصر المؤسسات والتجمعات سواء كانت ديكتاتورية أو شوروية، فلا
يصح أن تظل قياداتنا فردية ولا تجتمع في شورى ومؤسسة متكافئة فيما
بينهما.
6- نضج الأفكار
تسبق الشورى عادة مناقشات حول صحة وخطأ أي الرأيين المتخالفين،
ويحتد النقاش، ويتوالى الكر والفر، ثم بعد ذلك يستنتج مخاض المناقشات
والمداولات.
وليس هناك في الأفكار شيء يسمى باليقين المطلق، وإنما هناك ثقة
كافية لتحقيق غايات الحياة البشرية، ويجوز لنا أو يجب علينا أن نفترض
صحة آرائنا لكي نسترشد بها في تصرفاتنا مع الاحتفاظ بحرمة الآراء
المعارضة، وهناك اختلاف كبير بين افتراضنا صحة رأي ما لأنه لايوجد دليل
على خطئه أو فساده مع تعرضه للمناقشة والانتقاد، وبين افتراضنا صحته
بقصد صيانته من التفنيد أو الدحض، وإن إطلاق الحرية التامة للغير في
معارضة آرائنا ومناقضتها هو الشرط الجوهري الذي يجيز لنا افتراضنا صحة
هذه الآراء حتى يمكننا العمل بها، ومالم تتوافر هذه الشروط لايمكن لأي
إنسان أن يكون على ثقة بصحة رأيه وصواب اعتقاده.
وإذا نحن درسنا تأريخ الآراء والنظريات وتأملنا غالبية الرجال
البارزين لوجدنا أن معظمهم اعتنق كثيراً من الآراء التي شاع الآن خطؤها،
كما كانوا يوافقون على أُمور عدة لايمكن لأحد أن يستسيغها الآن.
رجحان كفة الخطأ
وأما السؤال القائل: لماذا نجد بوجه عام أن كفة الآراء الصحيحة
والسلوك السليم بين الناس هما دائماً الكفة الراجحة؟.
والجواب: أن الواقع هو رجحان الكفة المعاكسة؛ إذ إن البشرية اليوم
والمسلمين على وجه الخصوص في حالة يرثى لها، ومسلسل المآسي اليومية على
صعيد التسلح العالمي الذي بلغت ميزانيته في عام (1987م) حوالي
(000/000/000/2) ملياردين دولار مع أن خمس هذا المبلغ كان كافياً
لإسكان كل من لاسكن له على وجه الكرة الأرضية، إضافة إلى (000/000/125)
نسمة في العالم مهددون عام (2000) بالموت جوعاً حسب تقرير اليونسكو.
وذكرت إذاعة لندن مساء 21 جمادى الثاني 1408 هـ في تقرير سياسي أن
أكثر من مائتين وثمانين مليارد دولار (000/000/000/280) اشترت الدول
الشرق الأوسطية من السلاح الأمريكي فقط دون غيره من وجبات الأسلحة
الضخمة!!.
أما الحالة المأساوية للمسلمين فهي أشد من ذلك؛ إذ إن الأُمة أصبحت
أشبه بمتسكع مجهول الهوية، مرهق الجسم، جاهل لايعرف تدبير أمره وقد
أحاطت به الأعداء من كل حدب وصوب وهو يتجرع الغصص والآلام، ويقتات
الحرمان، وفي كل بلاده حروب وانقلابات وتوترات وسجون متخمة بالمتهمين
الأبرياء، ومقابر مشيدة بجثث الضحايا. هذا أولاً.
وثانياً: أن رجحان كفة الصحة خيال لاواقع له، والسبب في تصور صحته
يرجع إلى مزية من مزايا العقل البشري هي الأصل والمصدر لكل ما هو جدير
بالاحترام والتقدير في الإنسان، سواء في النواحي العقلية أو الأخلاقية
السلوكية، ونعني بها أن كل مايرتكبه الإنسان من الأخطاء قابل للتقويم
والإصلاح.
فالإنسان قادر على تصحيح أخطائه بالمناقشة والتجربة لابالتجربة
وحدها؛ إذ لابد أن تكون هناك آراء مناقشة أيضاً لتبين الكيفية التي
تتيح تفسير الخبرة، إذ الواقع أن الآراء المغلوطة والنظريات الفاسدة
تتضاءل تدريجياً أمام الحقيقة والمناقشة، غير أن حقائق التجارب ودلائل
المناقشات لايمكن أن تؤثر في العقول مالم تعرض عليها وتجابه بها، فقلما
يوجد من الحقائق مايمكن تقريرها دون التعليق عليها وإبراز معانيها، إذاً
فقوة العقل البشري وقيمته تتوقفان على هذه الميزة، وهي إمكان رده إلى
الصواب إذا كان في جانب الخطأ، ولايمكن الوثوق به أو الاعتماد عليه إلاّ
إذا توافرت لدينا وسائل إعادته إلى الصواب، أي المناقشة الحرة والأجواء
المفتوحة.
حق الدفاع عن الرأي
لكي نزيد الأمر وضوحاً وشرحاً للعواقب الوخيمة التي تترتب على
تحريمنا الدفاع عن آراء معينة لأننا حكمنا بفسادها أو بطلانها يجدر بنا
أن نحصر مناقشاتنا حول موضوع بعينه على سبيل التمثيل، وهنا نفضل اختيار
أقل الموضوعات موافقة لصالحنا، حيث يكون الدفاع عن حرية الرأي من أشق
الموضوعات، سواء من حيث الصدق أو من حيث المنفعة، فلنفرض إذاً أن
الآراء المطعون في صحتها هي الإيمان بوجود الله والحياة الأُخرى، أو
عقيدة من العقائد الأدبية التي أجمع الناس على صحتها، فإن الجدال في
مثل هذه الموضوعات يتيح للخصم المتحامل مزية كبرى؛ إذ لابد أنه سيقول:
((وكثير ممن لايرغبون في أن يتصفوا بالتحامل سيقولون ذلك في دخائلهم))
أهذه إذاً هي العقائد التي لاتجدونها ثابتة ثبوتاً كافياً بحيث يمكن
وضعها تحت حماية القانون؟.
فمهما بلغ اقتناع المرء بفساد رأي من الآراء، ومهما كثر اعتقاده بما
قد ينجم عنه من عواقب وخيمة، بل ومهما بلغت ثقته بمخالفة هذا الرأي
للدين والأخلاق، فلايجوز له بناء على هذا الاعتقاد الفردي وإن كان
معززاً بالشعور العام في بلده وعصره أن يحول دون سماع الدفاع عن هذا
الرأي، وإلاّ فقد ادعى لنفسه العصمة من الخطأ.
وتلك هي الحال التي يكون فيها ادعاء العصمة أوخم العواقب وأخطرها،
وهذه هي الحال التي ارتكب فيها الناس في أجيال سلفت تلك الأخطار
الشنيعة التي تثير الفزع والرعب في نفوس من تبعهم من الأجيال، وهذه
نفسها هي نفس الظروف التي تجد فيها الأمثلة الشهيرة في التأريخ؛ إذ كان
الناس يتخذون القانون سلاحاً لاستئصال أفضل الناس وأنبلهم عقائد،
فحققوا مع الأسف بعض النجاح في القضاء على الأشخاص، بينما عجزوا عن
القضاء على بعض العقائد، فبقيت حتى اليوم، وصارت بدورها – كما لو كانت
هذه سخرية القدر – سلاحاً لمحاربة الخارجين عليها، أو الذين يفسرون
نصوصها تفسيراً يخالف مايفهمه الناس منها.
ومن الطبيعي أن الشورى تساعد على النضج الفكري للمستشار على وجه
الخصوص فيما لو كان المستشير مستغنياً عنه وأرفع مستوى منه، بل هي في
الواقع من الوسائل التربوية الراقية والذكية في نقل الأفكار إلى
الآخرين، ورفع مستواهم الفكري، لأنها تبعث في ضمير المستشار اندفاعاً
عالياً لإبداء أكمل الآراء وأمتنها، وهذا مايسبب تشغيل خلايا المخ
والضغط الشديد والمتكرر عليها، وإنتاج أروع بضاعة فكرية، وهذا هو الذي
ينضج عقليتهم.
والشورى تربية للفرد على أداء وظيفته الاجتماعية عن طريق تهيئة
الفرصة له لأن يبرز في المجتمع، فيربي ملكاته، وينمي قدراته حتى يكون
أهلاً للمشورة، وهذا بدوره داعية قوية تدعوه إلى الاستزادة من العلم
والمعرفة، ويمكن أيضاً إرجاع أهمية الشورى وضرورتها، أي إن الأفراد
مختلفون في الطباع والعقول.
والشورى لاتنضج فكر الأفراد فحسب، بل أصبحت من وسائل ترفيع المستوى
الفكري للشعوب أيضاً، وهي تذكير للأُمة بأنها صاحبة السلطان، ومن الصعب
على الأُمة التي اعتادت ونشأت على المشاركة في شؤون الحكم وتحمل
التبعات أن تتنازل عن حقوقها، بل تكون هذه الأُمة متوجهة للخير في جميع
أُمورها، وتنعكس هذه النتيجة على أوضاعها تقدماً ورقياً.
كيف تتحقق الإحاطة الشاملة؟
إن مما لاشك فيه عدم تمكن المرء من الإحاطة بدقائق قضية ما، فان
معرفته بها تكون ناقصة، فقد تكون أدلته قوية ويعجز الغير عن دحضها،
ولكن إذا عجز بدوره عن دحض أدلة خصمه فبأي وجه يستطيع المفاضلة بين
رأيه ورأي خصمه؟.
ولايكفي أن يقف المرء على أدلة خصمه كما يسوقها له أساتذته وبما
يتفق مع آرائهم فيها؛ لأن هذه الطريقة لاتنصف أقوال الخصم، كما
لاتقربها الى الذهن لكي يتفهمها، بل ينبغي أن تسمع أقوال الخصم ممن
يؤمن بصحتها، ولايتوانى عن تأييدها والدفاع عنها؛ إذ إن اطلاع الإنسان
على أدلة خصمه وهي صورة واضحة غير مشوهة، وتامة غير مبتورة، بحيث يشعر
بقوتها ورجاحتها وبصعوبة موقف المعارض لها يساعد الإنسان المحايد
ويوصله إلى وجه الصواب الكفيل بدفع الأدلة المعارضة وتذليل صعابها.
إلاّ أنه يندر للأسف بين الطبقة المثقفة المؤمنة من يكلف نفسه تلك
المؤونة، ويبحث عن دفاعات خصمه الفكرية، وبدون ذلك هل يمكن أن يأتلف
شمل النظرية المبتعدة عن أدلة خصمها؟ ومن يقول إنها حقيقة وصواب مالم
يفسح المجال للردود عليها ومالم تثبت في حلبة الصراع الفكري؟.
والحقيقة: يجدر بالمرء إذا وجد من يخالفه في صحة آرائه أو الآراء
السائدة أو الرأي العام إذا أجاز له القانون أن يقابله بالشكر عليه
بآذان صاغية، وأن يغتبط بوجود من يعارضه في آرائه إذا كان يهتم بأن
تكون تلك الآراء مبنية على دعائم معينة؛ لأنها إما أن تكون خطأ فلابد
آنئذ أن يكون هناك رأي آخر هو الصواب وإما أن تكون صواباً، وضرورة
معارضة هذا الصواب بما يناقضه من الخطأ حتى يتمكن الذهن من الإحاطة
بالحق إحاطة تامة، ولو أحاط بالحق فإن نتاجه يبقى وإن كانت الأجواء
والقانون والرأي العام يخالفه، كبعض آراء ((روسو)) التي كانت تحتوي على
شيء من الحقائق التي أهملتها الآراء الشائعة آنئذ، وبعد مرور زمان طويل
ظهرت على مسرح الأفكار من جديد.
7- صواب الرأي
لاشك أن الإنسان ضعيف وجاهل بطبيعته البشرية، فهو مهما كان عظيماً
في عمله وصلباً في إيمانه ومستقيماً في سلوكه فإنه لايستطيع الانفلات
من الضعف والجهل؛ إذ إنهما من طبيعته البشرية المستحكمة في بنيته
وكيانه، لذلك قال الله تعالى في كتابه العزيز: (وَخُلِقَ الإِنسَانُ
ضَعِيفاً)(12)، و: (إِنّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً)(13)، وكلمة جهول
صيغة مبالغة أي كثير الجهل.
فالخطأ والنسيان والسهو والغفلة وماشابه ذلك من اللوازم الطبيعية
للبشرية بالغاً مابلغ الفرد من الكمالات الخلقية والرسوخ في الإيمان
والتقوى لايسلم من ذلك إلاّ المعصوم فقط.
هذا هو حال كل فرد إلاّ من شاء الله عصمته، من هنا انبثقت فلسفة
الشورى في الإسلام، سواء على الصعيد الاجتماعي أو السياسي أو غيرهما؛
ولذلك بلغت التأكيدات الملحة حداً عالياً على ضرورة التشاور والشورى
وتبادل الرأي وعدم الاستبداد به حتى قال الإمام علي (عليه السلام): ((لاصواب
مع ترك المشورة)) (14) ذلك لأن من البديهي أن العقل الواحد أقرب إلى
الخطأ من العقول المتعددة، وهذا مالايشك فيه انسان ذو لب وبصيرة.
والواقع أن الجماعة المتشاورة المكونة من جملة أفراد تختلف عن الفرد
المعرض للزلات، إذ إن في الجماعة يخرج الأمر عن مجرد ((كم)) ويصل أمرها
الى حالة كيفية جديدة، بحيث نجد أن كل مايجوز على كل فرد منفرد من
أفرادها لايجوز على الجماعة مجتمعة وإن لم تكن معصومة، والفرد يجوز
عليه السهو والخطأ والنسيان إضافة إلى الردة والكذب والكفر والضلال،
وكل ذلك بعيد واحتمالاته تقل لأقصى حد على مجموع أطراف الشورى، خصوصاً
لو كانوا طليعة الأُمة وعلماءها العادلين؛ ذلك لأن الاجتماع يضيف جديداً
إلى الأمر، ويؤتي الثمر ناضجاً.
وهذا هو الفارق بين رأي الجماعة مجتمعة وبين رأي آحادها إذا كانت
متفرقة غير مجتمعة، كما أن الاجتماع يوفر القدرة والتجربة غير المباشرة؛
وذلك عبر الاحتكاك بالآخرين الذي يتسبب في الانسجام معهم والاقتباس من
تجاربهم، وهما القدرة والتجربة من عوامل تعديل الرأي وانضاجه، كما
يتولد هذا التعديل والإنضاج عند الاستنارة بالتجربة الذاتية للفرد.
ذلك أنه إذا صح في فعل القادر الواحد أن يكون صواباً إذا تقدمه فعل
آخر ولو لم يتقدم لكان خطأ فما الذي يمنع من كون فعله صواباً إذا تقدم
مثله من غيره؟ ومتى لم يتقدم ذلك لم يجب أن يكون صواباً؟ وهذه طريقة
أهل الخبرة والرأي من ذوي العقول؛ لأنهم إنما يجتمعون في النوازل
والحوادث على المشاورة لكي يحترزوا عن الخطأ الذي لولا اجتماعهم لكان
إلى أن يقع أجوز.
وأنه لايمتنع أن يكون المعلوم من حال العشرة بأعيانهم أن كل واحد
منهم لايختار مع صاحبه إلاّ الصواب وإن كان قد يختار الخطأ إن انفرد،
كما لايمتنع فيهم أن يصيبوا في الرأي إذا اشتركوا فيه وإن جاز أن يخطىء
كل واحد منهم فيما يستبد به.
8- قوة الجماعة
للتجمع واقع غير واقع الفردية، وهو في المحصلة أبعد عن الزلل في
المزالق وإن كان عبارة عن مجموع الأفراد، إذ إن التجمع يخلق واقعاً
رصيناً وإن كان أعضاؤه ضعافاً كآحاد الجيش التي تنتج حالة النصر
الحاصلة من مجموع آحاد العسكر.
قال الجرجاني في معرض دفاعه عن الرأي الجماعي: فان قيل: خبر كل واحد
لايفيد إلاّ الظن، وضم الظن إلى الظن لايوجب اليقين، وأيضاً جواز كذب
كل واحد يوجب كذب المجموع؛ لأنه نفس الآحاد. قلنا: ربما يكون مع
الاجتماع مالايكون مع الانفراد، كقوة الحبل المؤتلف من الشعيرات(15).
فالتجمع صفة جديدة، والله ((سبحانه وتعالى)) جعل في هذه الصفة
الجديدة واقع القدرة، وكذلك في كثير من التجمعات، فإن تجمع القطرات
يكون الشلال الذي له قدرة خارقة نابعة عن قدرة القطرات، وبتجمع البيوت
تكون المدينة، وبتجمع ذرات الحديد يكون الفأس القادر على هدم الجدران.
والأُمة الواعية تضع ثقتها في الجماعة أكثر مما تضعها في الفرد، كما
أن الجماعة أقدر على كسب الثقة من الفرد، والسلطة العليا للأُمة تكون
في الجماعة خير من كونها في فرد لبعد الجماعة بدرجات عن الخطأ
والانحراف، وهذا مالانشاهده دائماً في الفرد.
كما أن الشورى أثر طبيعي لاحترام الإسلام للعقل، وأنها مقتضى تكريم
الله للإنسان، وفي قول الله تعالى: (إِنّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ
خَلِيفَةً)(16)، بيان لأهمية الشورى، وهي مظهر من مظاهر المساواة،
وحرية الرأي والنقد، والاعتراف بشخصية الفرد، وهي أيضاً طريق إلى وحدة
الأُمة الإسلامية، ووحدة المشاعر الجماعية من خلال عرض المشكلات العامة،
وتبادل الرأي والحوار.
9- كسب القلوب
والأصوات
تبعث المشورة موجة من الإحساس بالاحترام في نفس المستشار، فيندفع
لحب المستشير وتأييد خطواته ومشاريعه وأفكاره، وسواء كان المستشير
مستغنياً عن رأي المستشار أو محتاجاً إليه فإن روح المستشار تقف الى
جانب المستشير، ويسجل صوته في قائمة المؤيدين له، ولو كان معارضاً له
سيتحول إلى محايد ومنصف، أما لو كان شديد المعارضة له ستخفف الشدة،
ويقل التآمر عليه.
والتأريخ يكتب لنا: شاور رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
أصحابه يوم بدر في الذهاب إلى العير، فقالوا: يارسول الله لو استعرضت
بنا عرض البحر لقطعناه معك، ولو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا معك،
ولانقول لك كما قال قوم موسى لموسى (عليه السلام) :(فَاذْهَبْ أَنتَ
وَرَبّكَ فَقَاتِلآ إِنّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ)(17)، ولكن نقول: اذهب
فنحن معك وبين يديك وعن يمينك وعن شمالك مقاتلون(18).
كيف تفجر الحماس في نفوس الصحابة وظهرت حممه من أفواههم؟ أليس ذلك
بعد مشورة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لهم؟.
وهناك جملة من الروايات التي يؤكد فيها الأئمة (عليهم السلام) على
أن المشاورة مظاهرة، كقوله (عليه السلام): ((ولاظهير كالمشاورة)) (19)
و: ((لامظاهرة أوثق من المشاورة)) (20) و: ((كفى بالمشاورة ظهيراً))
(21) و: ((المشاورة استظهار)) (22) يفهم منها:
1- أن المشاورة تنتج في الغالب الرأي
الصحيح فيما يراد من الأُمور، والرأي الصحيح أنفع في التدبير من القوة
وكثرة العدد، وهذا الرأي الصحيح الصائب يكون سنداً وظهيراً للمستشير.
2- أن المشورة تخطب ود المستشار، فيقف
إلى جانب المستشير ويعينه، فيكون معيناً وظهيراً له، وتكون المشاورة
سبباً لمساندة المستشار لصاحبه وإعطائه صوته، وكلمة استظهار أعم من أن
تكون استظهاراً برأي المستشير أو صوته وتأييده.
والواقع أن كسب الأصوات وإرضاء القاعدة والطليعة من أهل الحل والعقد
وسيلة سامية لكل قائد ناجح؛ لأن المؤيدين للقيادة هم الأساس في تنفيذ
مشاريعها، وبدونهم لاتستطيع إحراز التقدم، والتقدم النسبي الحادث في ظل
الاستبداد لاقيمة له؛ لأنه ثمن إهدار كرامة الأُمة ومصادرة حقوقها
الشرعية والقانونية، والشورى وسيلة ذكية بواسطتها يستطيع القائد احتواء
المعارضة.
وأخيراً جعلها إيجابية لاسلبية، ولافرق في هوية هذه المعارضة، فإنها
تكسب قلباً وقالباً، سواء تمثلت في الحركات أو المحاور المستقلة أو
علماء ومراجع دين أو غيرهم.
10- فتح الآفاق
الحرية قد فطر الله البشر عليها، قال أمير المؤمنين (عليه السلام):
((لاتكن عبد غيرك فقد جعلك الله حراً)) (23).
يقول جان جاك روسو عن الحرية في كتابه العقد الاجتماعي: إن الإنسان
قد ولد حراً وهو مكبل بالأغلال في كل مكان، ويمكن تفسير هذه الأغلال
بكل أنواع القيود التي تكبل الإنسان، وتجعله عاجزاً عن التعبير عن
رغباته الحقيقية(24).
وهذه الحرية مقيدة في الإسلام بوجوب كونها ضمن أحكام الله تعالى،
ويحاول كل حكام الدنيا أن يلصقوا أنفسهم بهذه الحرية وإن كانوا من أبعد
الموجودات عنها، ويبذلون قصارى جهودهم لتحسيس شعوبهم المكبلة بهذه
الحرية المفقودة.
ويبرر الحاكم الديكتاتوري سلطاته المطلقة بأنه يمثل الشعب، وأنه جاء
ليحقق الديمقراطية الصحيحة، ويحاول أن يدعم مركزه عن طريق الانتخابات
العامة والاستفتاءات الشعبية، غير أن جميع هذه التصرفات لايمكن أن تقنع
أنصار النظام الديمقراطي الحر الذين يجدون في هذه المظاهر الديمقراطية
مجرد صور زائفة مرفوضة، وكثيراً مانجد أن أكثر الإنجازات والإصلاحات
التي تحققها النظم الديكتاتورية قد تضيع في لحظة من اللحظات كما فعل
هتلر وموسوليني وغيرهم حينما قادوا أُمتهم إلى الهلاك والدمار.
والحرية حلم جميل يراود ذهن كل فرد وأُمة، وتقدم الأُمم في سبيلها
أغلى التضحيات.
وللحرية الحمراء باب بكل يد مضرجة يدق
والإسلام شرع كل الحريات الإنسانية المعقولة للأُمة، مضافاً الى ذلك
سعى لتحسيسها بذلك.
والشورى تؤدي دور تكريم شخصية الأُمة ورموزها وتحسسهم بالحرية،
فيشعر الشعب وكوادره القيادية بالآفاق الواسعة المفتوحة أمامه، فيبدي
آراءه في كل قضية سلباً أو إيجاباً دون رهبة وتهيب.
ولقد أثبت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للبشرية وللأجيال
كلها نظامه السماوي الحق، نظام الحريات لا الاستبداد، وإن رأي الأُمة
محترم حتى لو خالف رأي الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه كما في
حرب أحد، مع أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مسدد بالوحي، وقائد
الأُمة سياسياً وعسكرياً، ونبي الله المرسل، مع ذلك كله يخضع لرأي
الأكثرية، فما أسماه من تواضع، وماأروعها من حرية صادقة، وماأوسع
الآفاق المفتوحة حيث يبدي كل مسلم رأيه حتى لو خالف رأي رسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم).
تأسّي الأمة
والرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أسوة للمسلمين إلى يوم القيامة
ومعلمهم العظيم، فقد قال تبارك وتعالى: (لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ
أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)(25)، إنما يستشير أصحابه ليسن سنة صالحة حسنة،
فتقتدي به أُمته، وتحذو حذو خطاه، وتتخذ من الشورى قاعدة سياسية
واجتماعية وأخلاقية لإدارة شؤونها وتنظيم مختلف برامج حياتها، وماأروع
هذه السنة الصالحة التي شرعها الوحي، ونفذها الرسول الأعظم (صلى الله
عليه وآله وسلم)، ولقد روى ابن عباس لما نزلت (وَشَاوِرْهُمْ فِي
الأمْرِ)(26)، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ((أما إن الله
ورسوله لغنيان عنها، ولكن جعلها الله رحمة لأُمتي، فمن استشار منهم لم
يعدم رشداً، ومن تركها لم يعدم غياً)) (27).
وقادة الأُمة الاسلامية أولى من يتأسى بالرسول، وتتلقى منه دروس
الشورى، وبذلك تكون هي أيضاً أُسوة للمسلمين اليوم.
فلو بادر القادة إلى الاقتداء بالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
والتنفيذ الجاد للشورى فانهم بذلك سيعلمون مختلف طبقات وشرائح الأُمة
عملياً أُسلوب الشورى.
وليست شورى الفقهاء المراجع إلاّ نموذجاً يستحق الاستضاءة به والسير
على منواله، وبتحققه يتحقق طبيعياً شورى الحركات وشورى الخطباء الوكلاء
والأُدباء والأساتذة والمفكرين ورجال الاقتصاد والتجار والجامعات
وغيرها، وفي التأريخ شواهد صدق على ذلك، فمتى ماتحقق شورى الفقهاء
تشكلت الشوريات الأُخرى أيضاً(28).
وبذلك تتحقق ثورة كيفية في مسيرة الأُمة الإسلامية وطلائعها، وتحدث
مقدمات انقلاب حضاري في علاقات المسلمين بعضهم ببعض، وفي تحركهم
وكفاحهم في سبيل التحرر والخلاص.
11- اكتشاف معادن
الناس
إن لمعرفة النفسيات قيمة عالية في الإدارة والسياسة، ومن يفقد هذه
المعرفة يعجز عن التعامل الناجح مع الأطراف الأُخرى.
والرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) كان عالماً بنفوس جماعته،
واقفاً على أسرار أخلاقهم، محيطاً بغوامض أمزجتهم، يعلم مايغضب له فلان
من الصحابة ومايرضى به فلان، ويعرف مايستشير فلاناً ومايسكت به فلان،
فعامل كل واحد منهم المعاملة المناسبة له واللائقة به حتى أشربت القلوب
محبته، وانطوت على طاعته، فلم ينفض أحد من حوله، وهذا منتهى الحذق في
سياسة الناس، وليس يعلم مالهذه الأُمور النفسية من الشأن في سياسة
الخلق إلاّ الذين كتب لهم أن يمارسوا هذه السياسة ويعالجوها.
والشورى مفتاح معرفة واستكشاف غوامضها. هذه المعرفة التي أحكمها
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقاد بها الأُمة؛ إذ بالشورى
يتبين المشفق الناصح من المنافق المندس، وبها يميز الناضجون عن
السطحيين الذين ينظرون ظاهراً من الحياة الدنيا، وهي المختبر العلمي
لاكتشاف معادن الذهب من الناس عن غيرها، والناس معادن كمعادن الذهب
والفضة(29). كما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).. فائدة
اكتشاف هذه المعادن وقدرة مكتشفها على التعامل المناسب والتعاون
المشترك، وبدون ذلك يكون الفشل المحتوم.
ومؤسسات الشورى محطات التزود بالثقافة الاجتماعية والنفسية والاطلاع
على كوامن الآخرين وطراز تفكيرهم وبناهم النفسية، وهذا الاطلاع ضمان
لنجاح العمل المشترك كما يؤكد ذلك علماء النفس والاجتماع.
وشورى الفقهاء مصداق لهذه القاعدة أيضاً؛ إذ إن القائد كلما اطلع
على كوامن نفوس زملائه وتعرف على طراز تفكيرهم وعرف أسلوبهم وأمزجتهم
وآراءهم المستجدة يقتدر على التعامل الإيجابي أكثر من كونه غير مطلع
على ذلك، والعكس صحيح؛ إذ التباعد يخفي المعلومات الحيوية، ويمنع من
التعامل الإيجابي أو يعقده ويصعبه، بل يعد عاملاً مساعداً كبيراً في
ولادة الاستبداد واستفحاله، بينما الشورى تضمن عكسه؛ لأن من يعرف نفوس
الناس يعرف كيف يديرهم بالأحسن والأفضل، بحيث يضمن حسن تدبيره كما يضمن
رضا الناس عنه، وهذه ثمرة بالغة الأهمية في الشورى.
ليست المشورة عيباً
بلى، هناك شرائح اجتماعية مستبدة تعتبر المشورة منقصة وعاراً وكسراً
لشخصية الإنسان، وخصوصاً إذا كان محصلاً لبعض الثقافة الزمنية أو
الدينية، أو كان فعلاً من طبقة متميزة في المجتمع.
إلاّ أن تصدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للمشورة في كل
الشؤون والإكثار منها حتى ورد في الحديث: ((كان رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) كثير المشاورة لأصحابه)) (30) وثيقة شرعية، وإثبات
لكون الشورى ليست كسراً لشخصية المستشير حتى لو كان أعلم أهل زمانه، أو
نبي دهره، والرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يمثل القيادة
العسكرية والسياسية والاجتماعية العليا في وقت واحد، ومع ذلك يتصدى
للشورى في كبائر الأُمور وأحياناً صغائرها.
فهذا إن دل على شيء إنما يدل على أن الشورى ليست كسراً للشخصية
وهيبتها أو منقصة وعاراً عليها، بل العكس هو الصحيح، فإن تركها يعني
ضعف الشخصية، فقد ورد عن الشعبي: الرجال ثلاثة: رجل ونصف رجل ولاشيء،
فأما الرجل التام فهو الذي له رأي وهو يستشير، وأما نصف رجل فالذي ليس
له رأي وهو يستشير، وأما الذي لاشيء فالذي ليس له رأي ولايستشير (31).
وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: ((مشاورة العاقل
الناصح يمن ورشد وتوفيق من الله عزوجل، فاذا أشار عليك الناصح العاقل
فإياك والخلاف، فإن في ذلك العطب)) (32).
فالمشورة مبعث البركة والرشد، أي نمو الشخصية ونضجها لانقصها
وانكسارها، ولما كانت هذه السنة النبوية الحضارية بهذه الرتبة من السمو
والأهمية فمن أولى من العلماء وقادة الإسلام المخلصين بها؟.
ولعل الذي اعتبر المشورة عيباً ومنقصة خلط بين مفهوم التواضع
والمنقصة، ومثل هذا الخلط ينبع من ذوي النفوس المستعلية التي تنظر إلى
الآخرين من عل؛ لأن الشورى تتطلب التنازل النسبي عن الأنانية واتهام
النفس والعقل بوقوعه الاحتمالي في الخطأ، وقد ورد في الحديث عن أمير
المؤمنين (عليه السلام): ((اتهموا عقولكم فإن من الثقة بها يكون الخطأ))
(33) وهذا تواضع لامنقصة وعار.
12- تجميد
الانتقادات السلبية
المشرع لقانون ماهو الأكثر اطلاعاً من غيره بظروف تشريعه، بل إن كل
متخذ لقرار أعرف بدوافعه لذلك القرار، وأكثر انتظاراً من غيره لثمار
ذلك القرار، أما غيره فلايعرف كل ملابسات ذلك القانون أو القرار عادة،
ولم يحظ بنتائجه الإيجابية والسلبية كذلك، وكذا لم يشعر بضروريته كشعور
متخذ ذلك القرار، وهذه الحالة تسبب:
أولا: عدم الاعتناء كثيراً بنجاح ذلك القرار لو أحرز النجاح.
ثانياً: توجيه سهام النقد لمتخذ القرار وصب اللائمة عليه فيما لو
اصطدم القرار بالفشل.
الشورى تحيط المستشار بأجواء القرار، وتحسسه بظروفه وملابساته،
وتشعره بأن القرار من صنعه، ولهذا الشعور ثمار طيبة:
أولها: مساندة متخذ القرار إعلامياً والتعاون معه عملياً.
ثانيهاً: الإعلام له ومدحه لو نجح وحقق هدفه ولو نسبياً.
ثالثهاً: اعتذار متخذ القرار فيما لو واجه الفشل، واعتبار المستشير
نفسه مسؤولاً هو الآخر عن فشل القرار، فبالطبع يعذر المستشير ويبعده عن
الملامة، فتضيع على المستشار فرصة الانتقاد والعزل.
هذا ماأكده الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) في حديثه القائل: ((من
استشار لم يعدم عند الصواب مادحاً وعند الخطأ عاذراً)) (34).
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: ((من لزم المشاورة لم يعدم
عند الصواب مادحاً وعند الخطأ عاذراً)) (35).
ولعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان في ضمن مايهدف اليه
في مشاوراته الكثيرة لأصحابه، خصوصاً وأن العقليات لم تكن بالنضج
المطلوب فتوجه النقد السطحي لقرارات الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)،
فكان (صلى الله عليه وآله وسلم) يدرأ أمواج الانتقادات السطحية بأُسلوب
الشورى الذكي، وأجواء الأُمة الإسلامية اليوم يعلوها النقد والانتقاد
الذي قد يكون سطحياً، وقد يكون بناء وجذرياً، ولانكاد نشاهد جهة سياسية
أو دينية أو علمية إلاّ وتواجه سيل الانتقادات من كل حدب وصوب، وماأكثر
تلك الانتقادات: جذرية وسطحية، بنّاءة وهدامة، ولاعلاج موضوعي لها إلاّ
الشورى التي هي جسر للتفاهم، ولإطلاع الآخرين من المنافسين بظروف
مايتخذ من قرارات ومواقف وإشراكهم فيها.
وماانتقادات الأُمم الموجهة إلى القادة إلاّ لأن هؤلاء القادة
استغنوا بآرائهم عادة وتركوا الأُمم غير شاعرة بظروف ودوافع وملابسات
تلك القرارات والمواقف. هذا على فرض كونها صحيحة. أما لو كانت على خطأ
فالشورى كفيلة بتصحيحها وتعديلها؛ لأن ((المستشير على طرف النجاح))
(36) كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام)، وقال أيضاً (عليه السلام):
((ماضل من استشار)) (37) و: ((من استعان بذوي الألباب سلك سبيل الرشاد))
(38).
معطيات أخر
إضافة إلى مامضى فان لمشورة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
لأصحابه ثماراً طيبة أُخرى هي:
1- شعور الأُمة باحترام الله ورسوله (صلى
الله عليه وآله وسلم) لها؛ لأن قوله تعالى: (وَشَاوِرْهُمْ فِي
الأمْرِ)39)، يشعر بوضوح بتوقير الله لعباده واحترامه لرأيهم.
2- اطلاع المستشارين على خطئهم؛ لأن
الشورى ايجابيات وسلبيات رأي كلا الطرفين، ومادام رأي الرسول (صلى الله
عليه وآله وسلم) معصوماً عن الخطأ يلزم أن يعرف(صلى الله عليه وآله
وسلم) الآخرين مواقع الخطأ في رأيهم، وهذا يسبب النمو الفكري والنضج
العقلي للمستشار.
3- ولإقامة جسر الارتباط والتنسيق مع
المستشار؛ لأن عدم اطلاعه على المشروع قد يدفعه إلى اتخاذ قرار مضاد أو
تفويت فرصة نافعة أو تصريح ضار بالمشروع، وسبب ذلك عدم تنسيق المستشير
معه.
4- إدامة الشعور بالمسؤولية في ضمير
المستشار وإحساسه بأنه مساهم في صنع القرار، وهذا مايدفعه إلى التعاون
مع المستشير.
طلب إلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يباشر في أمر الحكم
وتدبير شؤون الأُمة مع المؤمنين للمصلحة العامة، وهي أن تكون هناك
مسؤولية جماعية وراء الرأي الذي يستخلص من الشورى، ومعنى المسؤولية
الجماعية عندئذ أن كل فرد من أفراد المؤمنين يلتزم بالمشاركة في تنفيذ
ماانتهى إليه الأمر، وهو التزام أدبي ومادي حسبما يملي عليه إيمانه
بالله، وهناك يكون التضامن والتعاون في الرأي وتنفيذه وفي المسؤولية
والتزاماتها.
فإذاً الشورى من الرسول كحاكم في أُمة هي لضمان التعاون وقوة
الترابط بين الحاكم والمحكومين، ثم لتأسي حكام المؤمنين في الأجيال
القادمة بعده بما أمر به، ووجد عليه لصالح المؤمنين عامة.
خاتمة
عرفنا من مجموع مامضى من الحديث حول ضرورات وثمرات الشورى مايلي:
1- أن مؤسسة شورى الفقهاء المراجع وسيلة
جديدة ومتطورة لتنظيم شؤون العمل المرجعي كبرمجة وتنسيق أُمور الوكلاء،
وكذا تنظيم مناهج الحوزات العلمية وبرامجها الإدارية والاقتصادية
وأنشطتها الإعلامية والخطابية، وكذا تنظيم موارد ومصادر الحقوق الشرعية
وغير ذلك من الشؤون المرجعية التي تعاني الآن بعض الفوضى واللانظام
والتي تتكفل الشورى بتنظيمها ولو نسبياً.
2- وشورى الفقهاء أقرب إلى الروح
الإسلامية الاجتماعية السامية؛ لأنها عبارة عن احترام الكرامة
الإنسانية والعلمية للأعضاء وتبادل المحبة والانسجام والتفاهم والتنسيق
بين قادة الأُمة، وتفتح المجال للنقد البناء وتهادي العيوب وتبادل
النصح والخبرات وأسرار العمل المرجعي وإحياء أمر آل البيت (عليهم
السلام) كما في الأحاديث التي أكدت على التزاور، وهي كما هو واضح أبعد
عن الروح الاستبدادية والديكتاتورية، وأقرب إلى طبيعة العصر الحديث
أيضاً.
3- وشورى الفقهاء المراجع تحقق مع قيامها
ثورة إدارية في الأُمة، حيث تتحرك القيادة لتنظيم أُمور المسلمين
الدينية، وتتحمس الأُمة للتعاون معها، وترتفع معنويات الجهاد في سبيل
البناء، وتتفجر الطاقات، وتشترك كل الأطراف في تقرير مصيرها وتشييد
مستقبلها وتقديم مبادئها، وتتلاحم القوى الفكرية والاقتصادية والسياسية
المنتمية إلى قيادات مرجعية مختلفة، فتشكل وحدة مرجعية رصينة تكون
منطلقاً لوحدة جماهيرية إسلامية صلبة حصينة، فتعاد للقيادة المرجعية
هيبتها وعزتها، وللأُمة شخصيتها وقوتها، فتكون هذه الشورى وقاية ناجعة
من السقوط المستقبلي الشامل للمسلمين والذي يخطط له أعداء الإسلام في
كل المعمورة، واستجلبوا خيلهم ورجلهم، وأعدوا قوتهم، وشحذوا أسلحتهم
للانقضاض النهائي الماحق على هيكل الإسلام المتبقي الآن، واستئصال
جذوره. هذا ماصرح به قادة الغرب(40)، وخططوا له منذ زمن بعيد، ولازالوا
متمادين في تنفيذه، وماالأنظمة الإرهابية التي تلاحق الإسلام في عقر
داره إلاّ حلقة من سلسلة مخططات أعداء الإسلام العالميين.
4- وتضمن الشورى ارتقاء الأصلح والأكفاء
إلى سدة القيادة المرجعية، وتشكل سداً منيعاً في وجه غيره، ذلك لأنها
تجعل المرجع أمام مسؤولياته القيادية، وأمام متابعة الشورى له، وأمام
وعي الأُمة وأهل حلها وعقدها من المجتهدين وأهل الرأي، ووعيهم يسد
الطريق في وجه المدرس الذي لايملك كفاءة القيادة، والسياسي الذي يهدف
الحصول على الجاه، ويمنع هؤلاء وأمثالهم من إحراز هذه القيادة الإلهية
لنفسهم، كيلا تقع الأُمة ضحية لضعف تدبيرهم وعجزهم عن تحمل الأعباء
الملقاة على كاهلهم.
والشورى بطبعها تتابع العضو، وتطالبه بتنفيذ القرارات المصوبة، فهي
ضمانة لتطبيق القرارات أيضاً، وتحمل المرجع لمسؤولياته ليس تجاه أتباعه
ومقلديه فقط، بل تجاه كل المسلمين أيضاً من مقلدي غيره.
5- وقيام شورى الفقهاء يعني انطلاق القوى
الخيرة لمكافحة بعض المنكرات المنتشرة في بلاد الإسلام، والأمر
بالمعروف، والدعوة إلى سبيل الله بالتي هي أحسن، واجتذاب أصحاب
المبادىء والمذاهب المخالفة والباطلة إلى حظيرة القدس الإسلامي
وهدايتهم إلى سبل السلام والنور الذي أُنزل، وتطهيرهم من دنس الشرك
ووسخ الرذيلة.
والشورى بعث جديد لعلوم أهل البيت (عليهم السلام)، وراية عدل وسلام
وخير للأُمم المستضعفة، خصوصاً وأن ساحة العمل الشوروي تتسع أكثر من
ساحة العمل الفردي، حيث تتلاحم الطاقات، وتتفجر وتساعد كل مجموعة
أُختها، وتستقبلها على أرضها وفي منطقتها، وتفتح في وجهها مجالات
الانطلاق.
6- وقيام شورى الفقهاء يعني قيام جبهة
وحدوية عريضة بين مختلف المذاهب الإسلامية حسب أُطروحة الإمام
البروجردي (رحمه الله)، حيث أحرز الإنجازات الرائعة على هذا الصعيد،
فتكون ذات طابع سياسي تعرف الدفاع عن حصون الإسلام المهددة، في الوقت
الذي يكون أتباع كل مذهب على طريقتهم في العقائد والفروع، وعلى
نظرياتهم ومذاهبهم في التاريخ والتفسير وغيرهما، أما في مواجهة أعداء
الاسلام يكونون يداً واحدة على سواهم كما ورد في مضمون الحديث النبوي
الشريف.
7- مثل هذه الشورى تصون الأمة عن تغلغل
أخطبوط الطابور الخامس من عملاء الاستعمار الذين ينفثون في المزامير،
ويقرعون الطبول حول أن العلماء مختلفون، والدين ليس إلاّ حفنة أوهام
برجوازية وشعوذات شيطانية، وقيام الشورى يثبت للعالم أجمع أن علماء
الاسلام متحدون، بل هم دعاة الوحدة، فلايبقى مجال لتصيد الأعداء في
الماء العكر وتشويه سمعة الاسلام ورجاله، متذرعين بمسألة اختلاف
العلماء والمراجع.
8- والشورى بين الفقهاء تعني أيضاً ضمن
ماتعني من مفاهيم وقيم إسلامية سامية نمو الكفاءات القيادية، وكفاءات
خطوط المرجعية؛ ذلك لأن الشورى تنتج مجالات واسعة للحصول على خبرات
دقيقة وعلمية حول كل ظاهرة أوقضية من قضايا الأُمة، وطرحها على بساط
البحث العلمي الدقيق، وهذا ماينضج الأفكار، ويرفع المستويات، وبعد
ماتنضج الآراء تأتي القرارات تبعاً لها ناضجة مستوية فتنتظم الأُمور،
وينال كل ذي حق حقه، ويوضع كل صاحب كفاءة في مكانه المناسب.
9- والقيادة الشوروية تتسم بطابع الشعبية،
وتعيش هموم الناس، وتعاشرهم في المساجد والمحافل والمهرجانات العامة،
وتتحسس طموحاتهم، ولاتقبع بين أربعة جدران وتصدر القرارات الفوقية عبر
الحجّاب وأعضاء المكاتب والبوابين إما لكثرة أعمالها أو لسبب آخر، وهذا
يتدارك في القيادة الجماعية التي توزع المسؤوليات، وتتنافس لخدمة
الإسلام والأُمة، وتعيد إلى الواقع الخارجي روعة قيادة الرسول (صلى
الله عليه وآله وسلم) الشعبية التي كانت في الناس ومع الناس وبينهم.
10- وآخراً لا أخيراً أن شورى الفقهاء
المراجع خطوة عملية جادة نحو إصلاح أوضاع المسلمين وإعادة عزمهم الغابر،
وحل معضلاتهم وتحريرهم من براثن الاستعمار وابنه الاستبداد، وإيجابيات
مثل هذه الشورى كثيرة اكتفينا منها بالقليل.
* فصل من كتاب الحرية السياسية
** استاذ البحث الخارج في حوزة كربلاء
المقدسة
...............................................
(1) الطريق الاسلامي عدد محرم، 1408 هـ.
(2) كتاب دراسة للتاريخ لأرنولد تويني من أروع ماكتب
في هذا الحقل، ويثبت أن جميع الحضارات إنما سقطت لتباين محاور القوى في
ظلها.
(3) كيف نجمع شمل المسلمين:ص 4.
(4) مجلة الوعي الاسلامي العدد 69 ص47 الكويت.
(5) الدين والدولة: ص 388.
(6) المصدر نفسه: ص391.
(7) صحيفة الأخبار المصرية 3-1 -1980.
(8) راجع (المؤسسات الدولية) بحوث نشرها التلفاز
الكويتي وطبعت في كتاب.
(9) راجع (التنظيم الثوري) لسبعة من قيادات السوفيات.
(10) للتفصيل راجع الطائفية سلاح العدو الخطير.
(11) مجمع الزوائد: ج9، ص143؛ جواهر المطالب: ج2،
ص102.
(12) النساء: 28.
(13) الأحزاب: 72.
(14) المناقب للخوارزمي: ص375 ؛ ينابيع المودة: ج2،
ص413.
(15) انظر نظم المتناثر من الحديث المتواتر: ص13.
(16) البقرة: 30.
(17) المائدة: 24.
(18) تفسير ابن كثير:ج 1، ص429.
(19) نهج البلاغة: ج4، ص14، الحكمة 54.
(20) الوسائل: ج 12، ص39، ح15583، باب 21 باب
استحباب مشاورة أصحاب الرأي.
(21) عيون الحكم والمواعظ: ص386.
(22) عيون الحكم والمواعظ: ص60.
(23) ينابيع المودة: ج2، ص 253.
(24) انظر العقد الاجتماعي: ص29.
(25) الأحزاب: 21.
(26) آل عمران: 159.
(27) الدر المنثور:ج 2، ص 90.
(28) للتأكد من ذلك راجع (نهضت روحانيون ايران)
للأُستاذ علي دواني، فإن فيه نماذج كثيرة لذلك.
(29) الكافي: ج8، ص177، ح197 ؛ الفقيه: ج4، ص380،
ح5821.
(30) انظر بعض ماجاء في غزوة الحديبية:ص 14 ؛ تفسير
الجلالين: ص89.
(31) تهذيب الكمال: ج14، ص36 -37.
(32) درر الاخبار:ص 624.
(33) عيون الحكم والمواعظ:ص 91.
(34) مستدرك الوسائل: ج8، ص342، ح9611، باب 20؛
البحار: 72، ص 104، ح37.
(35) عيون الحكم والمواعظ: ص433.
(36) عيون الحكم والمواعظ:ص 46.
(37) المصدر نفسه: ص476.
(38) المصدر نفسه: ص 463.
(39) آل عمران: 159.
(40) راجع قادة الغرب يقولون حطموا الإسلام، أبيدوا
أهله، والغارة على العالم الإسلامي والصياغة الجديدة. |