مجازر في كربلاء وبغداد، وأخرى في كراتشي... الأرض تصطبغ باللون
الأحمر... والسماء تتلقى الصرخات والعويل والدعاء على مرتكبي
الجرائم... في مشاهد رهيبة تمتزج الدماء فيها بالدموع... وعلى رغم
الأجساد المقطعة والأشلاء المُفحّمة استمر الزحف نحو المعشوق في
كربلاء، نحو من ضحى بنفسه وأهل بيته وأصحابه من أجل إعلاء كلمة الله
والحق والعدل والحرية والدفاع عن الكرامة الإنسانية...
الزاحفون نحو مدينة الحسين (عليه السلام) لم يرهبهم الموت، ولا
التهديدات بوجود السيارات المفخخة أو رابطي الأحزمة الناسفة، بل زادتهم
عزيمة وإصرارًا على الزحف، وتمسكًا بسيرة ومبادئ أبي الأحرار الإمام
الحسين.
في طريقهم نحو كربلاء المقدسة، وتجديد البيعة مع سيد شباب أهل الجنة،
تندلع من حناجرهم الشعارات التي طالما ألفوا على ترديدها: “لبيك يا
حسين”.... “لو قطعوا أرجُلنا واليدين نأتيك زحفاً سيدي يا حسين”.
هذه الشعارات المدوّية تحمل في طياتها معاني عظيمةً ودلالات تاريخية.
التاريخ يشهد أن الوالي الأموي (الحجاج بن يوسف الثقفي) الذي وُصِف
بجلاد عصره، وعُرِف عنه حقده على آل البيت وأتباعهم، أصدر أمره بقطع يد
أو رجل كل من يرغب في دخول كربلاء لزيارة الحسين، وعلى رغم القرار
الظالم والجائر إلا أن محبي الإمام كانوا يتوافدون نحو مداخل كربلاء،
ويصطفون في طوابير “قطع الأطراف”؛ ليأخذ كل واحد منهم نصيبه في أخذ
تأشيرة الزيارة بقطع إحدى يديه أو رجليه. هكذا جرت المظالم على زوار
الحسين ومحبيه في السابق وحتى اليوم.
هذا العام، وفي ذكرى أربعينية الإمام الحسين التي يعتبرها الشيعة
أهم من يوم عاشوراء؛ والسبب في ذلك أنه يصادف عودة السبايا من الشام،
حاملين معهم رؤوس الشهداء بقصد دفنها مع الأجساد. وقد أقيم حينها أول
مجلس عزاء مُهيب لسيد الشهداء وبقية الشهداء من أولاده وأصحابه.
في العشرين من شهر صفر من كل عام، يزحف الملايين من عشاق الحسين نحو
المدينة المقدسة. وقد شهدت هذا العام سلسلة من العمليات الإرهابية في
ضواحي كربلاء، وبغداد، وكذلك مدينة كراتشي الباكستانية استهدفت الزوار
ومُقيمي العزاء، فسقط بسببها مئات القتلى والجرحى، وقطعت الرؤوس
والأيدي والأرجل، وتمزقت أجساد الرجال والنساء والأطفال، وعلى رغم ذلك
لم تتوقف مراسم العزاء والزحف نحو كربلاء، بل بالعكس، حيث ازداد
الزاحفون ولاء لآل الرسول الأكرم، وأضحوا أكثر إصراراً على التمسك بقيم
الثورة الحسينية.
يوم الأربعين يعتبره الشيعة يوم تجديدٍ للبيعة؛ ولذا نجد أعداد
زوار كربلاء تتضاعف في مثل هذا اليوم.
في آخر إحصاء رسمي، وصل عدد زوار كربلاء هذا العام قرابة 10 ملايين
زائر، معظمهم من داخل العراق، و100 ألف زائر من الخليج والدول العربية،
و20 ألف زائر من الهند وباكستان وأوروبا.
البحرينيون كعادتهم تصدروا قائمة الزوار القادمين من خارج العراق
(35 ألف زائر)، وكان الموكب الموحد لزوار البحرين الذي طاف بين حرم
الإمام الحسين وأخيه العباس (عليهما السلام) لافتاً هذا العام، وقد
عادوا جميعاً إلى وطنهم سالمين غانمين على رغم الأنباء التي تحدثت عن
جرح أحد الزوار البحرينيين نتيجة الانفجار الذي استهدف الزوار...
اليوم وبعد أن انتهى موسم العزاء، ورجع الزوار إلى ديارهم، وصعدت
أرواح الشهداء في العراق وباكستان إلى بارئها، نتساءل: متى ستتوقف
المجازر بحق زوار الحسين عليه السلام؟ ومتى ستختفي فتاوى التكفير
وإهانة الرموز والمراجع باتهامهم بالفسق والفجور والزندقة؟
لقد شاء القدر أن ينتهي حكم الظالمين - من أمثال يزيد والحجّاج
وصدّام - في العراق، ويمحى ذكرهم، بينما الحسين الشهيد بقي مخلداً
وتحيا ذكراه كل عام، وأصبح رمزاً للحرية والكرامة، ورايته خفاقة على
مرّ العصور.
التكفيريون بأعمالهم الدنيئة هذه لن يستطيعوا إخماد روح الولاء في
قلوب العاشقين من الزوار والمقيمين للشعائر الحسينية، وهذه المسيرة
العاشورائية والأربعينية سوف تستمر وتتجدد عامًا بعد عام. والمعلوم أن
العاشق يزداد عشقاً ورغبة في لقاء المعشوق كلما واجه الحذر والمنع، أو
التهديد بالقتل، خصوصا إذا كان المعشوق وريث الأنبياء، وشفيع يوم
الجزاء، ووسيلة التقرب إلى المعشوق الأكبر وهو الله جلّ جلاله. |