الأسئلة الإستراتيجية والأهداف الكبرى

الهدف من (الخلقة)

آية الله السيد مرتضى الشيرازي

الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا، ونبينا، وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد، وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين.

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم:( وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ﴿55﴾ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴿56﴾مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنيُطْعِمُونِ ﴿57﴾إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ )[1]

الأسئلة الإستراتيجية الثلاثة

هنالك ثلاثة أسئلة مترابطة، متعاقبة، ترتبط بكل واحدٍ منَّا، بل؛ بكل إنسيّ، بل؛ بكل مَنْ كان من الجّانِّ أيضاً..

السؤال الأول: لماذا خلقنا الله سبحانه وتعالى؟ ما هو الهدف من الخلقة؟ نحن لماذا أصلاً في هذه الدنيا موجودون؟ ما هي العلَّة الغائية من وجودنا في هذا العالم؟ هذا هو السؤال الأول: ما هو الهدف من الخلقة؟ ما هي الغاية من وجودنا في هذا العالم؟

السؤال الثاني: لماذا يجب أن نسأل لماذا خَلَقنا الله؟، السؤال الأول كان هو (لماذا خَلقنا الله)؟ وهذا السؤال هو: (لماذا يجب أن نَسال لماذا خَلقنا الله)؟

نحن طبعاً موجودون ولوجودنا غاية ننتهي إليها أو نُساق لها، أو نتَّجه إليها باختيارنا، سواء أسألنا، أم لم نسأل، فنحن موجودون، وهناك علَّة غائية لهذا الوجود، ولكن هل نكتشفها، أم نكون كما قال ذلك الشاعر:

جئت لا أعلم من أين لكنّي أتيت

ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيت

وسأبقى سائراً إن شئت هذا أم أبيت كيف جئت كيف أبصرت طريقي لست أدري

وبعبارة أخرى: ما هي الفائدة من معرفتنا للهدف والغاية من الخلقة؟

إن الله تعالى خلقنا وأعطانا قدرات، بل امتنَّ بها علينا، وطلب منا استثمارها بما يُرضيه، ووجهنا للمسير في الأرض، والتفكر في الخلق،كما قال سبحانه:( هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ).[2]

وذلك لأن الله سبحانه وتعالى أعطانا أدوات المعرفة،حيث قال:( وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[3]

ولكن لماذا يتحتَّم علينا أن نتساءل؛ لماذا خلقنا الله؟ ولماذا أعطانا كل هذه القدرات، والآلات، والأدوات، التي تمكننا من اكتشاف دقائق الأمور، ومعرفة أسرار الخلق، من الذرة وما هو أصغر، إلى المجرة وما هو أكبر، فهل كان ذلك بلا هدف، أو بدون غاية وحكمة منها؟ والخالق سبحانه حكيم يضع الأشياء في مواضعها التي هو أعلم بها من كل أحد من خلقه، خلقنا بهدف، وأعطانا الأدوات لغاية، وأمرنا بالتفكر والبحث عن الإجابة؟

السؤال الثالث: مَنْ هو الذي ينبغي أن نوجِّه له هذا السؤال ونطلب منه الجواب؟ هل نسأل الطبيب، أم نسأل السياسي، أم نسأل الفقيه، أم نسأل الأصولي، أم نسأل الفيلسوف، لماذا خلقنا الله؟ مَنْ هو الذي علينا أن نسأله حتى يُعطينا الإجابة الأتم، والأوفى، والأوفر؟

نحن نبدأ بالجواب عن السؤال الثالث، ثم الثاني، ثم الأول..

1. مَنْ يملك صلاحية تحديد الهدف من الخلقة؟

إن الذي ينبغي أن نأخذ منه أدق وأشمل إجابة، وأعمق وأفضل إجابة، على سؤال: (لماذا خلقنا الله؟) والذي يمتلك الجواب الشافي الوافي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه،على هذا السؤال، هو الله سبحانه وتعالى.. إذ أنه (الخالق)، والخالق مثلُ مَنْ صنع مصنعاً فإن علينا أن نسأله ما هو هدفك من تشييد هذا المصنع؟ لأنه الأعرف بكل تفاصيل وتضاريس هذا المصنع..

أو مهندس بَنَى مدينة، أو عالم ألّف كتاباً أو ما أشبه..

فأفضل مَنْ يجيب على (لماذا صَنَعْتَ هذه الماكينة، أو الآلة؟)، أو (لماذا هَندستَها بهذا النحو؟)، هو الصانع نفسه..

فخيرُ مَنْ يُسأل عن غاية خلقنا، هو الله جلَّ اسمه، وخيرُ مَنْ يُجيب هو الله، وقد أجاب الله سبحانه وتعالى مباشرة عن هذا السؤال..

هذا، مع الفارق الكبير؛ لأن المهندس، أو المصمم لا يعلم إلا الظواهر، ولا يملك إلا العلل المعدَّة، و(العلل الصوَرية) بل بعضها فقط، ولا يملك إيجاد (العلة المادية)، ولا يهيمن على المستقبل، ولا يعرف المفاجآت، ومطبات الغيب في المستقبل.. والله سبحانه وتعالى محيط بكل شيء، ومهيمن على كل الحياة فهو الخالق، (للمادة) و(الصورة)، وسلسلة العلل المُعدَّة وغيرها..

وفارق آخر؛ هو أن المهندس قد يُخطئ، في (التصميم)، أو يشتبه في تحديد (الهدف) الأفضل من هذا الإنتاج؛ أو حتى تحديد الهدف الذي يُمكن أن يُحققه إنتاجُه، وهذا على العكس من الباري تعالى العالم بكل شيء، وعلمه محيط فلا يعزب عن علمه مثقال ذرة، سواء كانت في السماوات العلى، أم الأرضين السفلى..

وبكلمة: إن الإنسان يبقى محدوداً مهما تعملق في فكره، فهو محدود بالتفكير، والاتجاه، والزمان، والمكان، والإمكانيات، والأدوات، والخالق سبحانه وتعالى، مُطلق وغير محدود في شيء من ذلك كله، ولا قياس أصلاً بين المُطلق في كل النواحي، والمحدود في كل شيء..

إذن مَنْ ينبغي أن يُسأل، ومَنْ هو الأفضل في السؤال وتلقي الإجابة منه؟

الإجابة: هو الله سبحانه وتعالى..

والسؤال الثاني: لماذا يجب أن نُحقِّقَ لماذا خلقنا الله؟

الكثير ربما يتصوَّر أننا سواء سألنا أم لم نسأل، فالأمر سيَّان، وأكثر الناس - للأسف - لا يدرون، وربما حتى أن كثيراً من الأفاضل لا يعلمون، الهدف الحقيقي من الخلقة؟ ولماذا خلقنا الله؟ وما هي فوائد معرفة الإجابة؟

وحسب تتبُعي أن هناك أربعة أهداف.. ذكر الله سبحانه وتعالى، ثلاثة منها في القرآن الكريم، والرابع مذكور في بعض الروايات الشريفة.. هي أهداف الخلقة..

2. لماذا تجب معرفة (الهدف) من خلقتنا؟

ولكن قبل مباشرة التعرف واكتشاف (أهداف الخلقة)، علينا أن نسأل: (لماذا علينا أن نعرف (أهداف الخلقة) ولماذا خلقنا الله؟ وما هي فوائد معرفة العلة الغائية من وجودنا؟) والإجابة على ذلك:

أولاً: كي ننجح في الحياة..

لأن الذي لا يعرف الهدف من الخِلقة، يُخفقُ في الحياة، ويفشل في الحياة، وبعد الممات،ويكون من الضائعين..

إن الفرق بين الضائع في الصحراء والذي يعرفُ الطريق، أو عنده خريطة تدلُّه على المقصود هو هذا، الضائع في الصحراء لا يعرف أين المَسير، والمسار، وأين المقصد، والغاية.. فإنه وإن علمها بوجه إجمالي، إلا أنه وحيث لم يعرفها تفصيلاً فقد يقصد (نقطة) في الصحراء يكون فيها هلاكه، والضائع يضيع فيفشل، ويخسر حياته، ويخسر قيمته، وقِيَمَهُ أيضاً..

وأما الإنسان الذي يعرف الهدف من الشيء فإنه ينجح عادة..

واللطيف أنه كان هناك تحقيقٌ علميٌ قبل فترة في إحدى البلاد، حيثُ عمدوا إلى مجموعة من الطلاب في المتوسطة، ربما كانوا خمسين طالباً أو أقل،أو أكثر، سألوهم ما هي أهدافكم في الحياة؟ فكان لبعضهم تصور واضح عن هدفه، أو أهدافه وهكذا أجاب أحدهم: أنا أريد أن أصبح طبيباً..

والثاني، قال: سأكون مهندساً..

والثالث، قال: بروفسوراً، وأستاذ جامعة؛ والرابع كذا، وكذا..

ولكن البعض الآخر لم يكن يعرف ماذا يريد،ولم يُحدد لنفسه هدفاً، فقال: سننتظر ونرى..

والمهم أنهم وثَّقوا تلك الأجوبة، وسجلوها، وبعد عشرين سنة رجعوا إلى تلك الملفات، وكلها محفوظة لتحقيقهم العلمي فوجدوا أن الذين كانوا قد حدَّدوا أهدافهم، وهم في المتوسطة، وصلوا إلى تلك الأهداف إلا ما شذَّ وندر منهم..

فالذي كان يعرف ماذا يُريد من الدراسة، والذي عنده وضوح في الرؤية لـ(الهدف).. وما هي الغاية من وجوده في المدرسة؟ وصل إلى هدفه الذي حدده من البداية..

وهذا هو الفرق بين مَنْ له هدف، ومَنْ ليس له هدف، فالذي كان عنده وضوحٌ في الرؤية وَصَلَ إلى مُبتغاه، فصار طبيباً، أو مهندساً، أو بروفسوراً، أو ما أشبه ذلك، والفاشلون مَنْ كانوا؟

كانوا أولئك الذين قالوا: لا ندري.. ونُفكر.. وبعد ذلك نرى الوضع؛ ونُحدد ماذا يكون.!!.

وهكذا أضاع مستقبله فلا صار تاجراً، ولا صار مهندساً، ولا غير ذلك..

فمن حدد لنفسه الهدف من البداية يصل إلى هدفه بالنهاية، ومن لم يحدد هدفه لم ينجح في الحياة، بل أضاع العمر في المتاهات.. اللهم إلا من (استدرك) منهم في مرحلة لاحقة وحدد أهدافه فإنه لعله يصل.

وهذا مثال مبسَّط للنجاح والفشل في الحياة.. فإننا إذا عرفنا الهدف من وجودنا في هذا الكون، وغايتنا في هذه الحياة، ولماذا خلقنا الله سبحانه وتعالى، فسنكون من الناجحين في الدنيا، وفي الآخرة، وإلا سنفشل في هذه الدار وفي تلك الدار أيضاً،لا قدَّر الله..

سر نجاح الشيخ الأنصاري (رضي الله عنه)

ومن الأمثلة على ذلك: والدة الشيخ الأنصاري (رضي الله عنهما)، والدة الشيخ الأنصاري كان عندها هدف واضح بأن يكون ولدها الشيخ مرتضى الأنصاري العالم، الزاهد، الورع، المتقي من الطراز الرَّفيع، وهكذا صار فعلاً.. فالأم الحامل، أو مَن عندها رضيع وإن لم تضع لابنها هدفاً سيصبح ابنها إنساناً عادياً عادة، إلا لو وضع له شخص آخر هدفاً سامياً، أو كان هو ذا بصيرة ثابتة وطموح كبير، وعندما أُخبرت والدةُ الشيخ؛ بأن ابنك الشيخ مرتضى أصبح المرجع الأعلى للشيعة، وأن له كذا من الدَّرجات في الزهد، والورع، والتقوى..

فقالت: ذلك أمر طبيعي؛ لأنني عندما كنتُ حاملة به لم أقضِ ساعةً إلا وأنا متوضئة، وكنت أواظب على العبادات، والأذكار..وعنيتُ بتربيته وهو في المهد أفضل عناية.. ولعلها قالت: كنتُ أتوقع منه،وله أكثر من ذلك..

إذن عندها هدف واضح؛ هو أن يكون هذا الجنين، ثم الرضيع وليّاً من أولياء الله، ولعلها كانت تهدف أن يكون ولدها المرجع الأعلى للشيعة وهكذا صار فعلاً..

تقول: لم أكن إلا متوضئة.. ولم أنم إلا على وضوء، وكنت ذاكرة لله سبحانه وتعالى دوماً، ثم غَرَسَتْ هذا الهدف السامي في ذاته، فليس شيئاً غريباً أن يكون الذي كان، من العظمة، وعلوِّ الشأن..

فالذي يُحدد الهدف، والذي يكتشف الهدف، والذي يعرفُ الهدف، والغاية من الشيء يصلُ إلى الهدف، والغاية، وينجح في حياته.. والذي لا يعرف هدفه يضيع في هذه الدنيا..

من أصحاب الأهداف الكبيرة

السيد الوالد (قدس سره) [4] كان قد وَضَعَ هدفاً لنفسه - وكان هذا هدفاً من أهدافه - أن يُؤلِّف ألف كتاب.. وبالفعل وصل إلى هذا الهدف، وأكثر..[5]

وصاحب الجواهر (رضوان الله تعالى عليه) حدَّدَ لنفسه هدفاً؛ وهو أن يكتبَ أعظم موسوعة فقهية شاملة وجامعة، في التاريخ، وحقَّقَ هذا الهدف..

وفي المقابل تجد: أن شخصاً آخر عادياً كان أو عظيماً وهو لم يحدد مثل هذا الهدف فإنه لا يصل، بل قد لا يُحقق حتى ما يتناسب مع قدراته في حالة استثمارها بشكل عادي..

إذن قد اتضح لنا حتى الآن الإجابة على هذا السؤال: (لماذا يجب علينا أن نسأل أنفسنا أنه لماذا خُلقنا،ولماذا نحن هنا؟)

لأنه إذا عرفنا الهدف من الخلقة سوف ننجح، وسوف نصل إلى ذلك الهدف.. وإلا فسنخفق ونفشل في مسيرة الحياة.. إن هذا هو السبب الأول، والوجه الأول لضرورة أن نكتشف السبب، والعلة، والغاية الكامنة، وراء خلقنا في هذه الحياة الدنيا..

ثانياً: أداءً للحق، وشكراً للنعمة..

إن الإنسان الذي يعرف الهدف، يستطيع أن يتحمل المسؤولية وأن يقوم بها.. والذي يعرف الهدف يستطيع أن يؤدي الواجب الملقى على عاتقه.. والذي يعرف الهدف يستطيع أن يشكر النعمة، يستطيع أن يُؤدي ما أُريد منه.. عكس مَنْ لا يعرف الهدف..

ومثاله الواضح لكم: أنكم إذا استقدمتم معلماً.. فإن كان هذا المعلم يعرف غايتكم وهدفكم من استقدامه، ويدري مثلاً أنكم تريدون منه أن يربي أطفالكم ليكونوا فقهاء، لتُعلمونهم الفقه مثلاً.. فالهدف أمامه واضح، وبمقدوره أن يسعى لتحقيقه من لحظة وصوله.. ولكن المعلم إذا جاء وهولا يدري ما هو الهدف من مجيئه؟ فإنه لا يدري بالتبع ما الذي عليه أن يُدرسه، وماذا يُدِّرس؟ هل يدرس الفلسفة، أو الفيزياء، أو الطب؟ ثم لعله لم يكن يدري أن عليه أن يُدرِّس مَنْ؟ هل الطفل الذي عمره عشر سنوات؟ أو الرجل الذي عمره خمسين سنة؟ فهذا المعلم لا يستطيع بطبيعة الحال أن يؤدي الواجب الملقى على عاتقه..

إن معرفتك الهدف؛ تُؤدي إلى مقدرتك على تحمُّل المسؤولية، والقيام بالواجب،قال تعالى:( إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا)[6] إن الإنسان الذي لا يعرف (ماهية الأمانة) والهدف من الأمانة، فإنه سيضيعها دون شك، بقصوره، وتقصيره، أو تغافله.. بالتعبير الأدق، وإنما عبَّرنا (بتقصيره) لأن (الأمانة) مركوزة في أعماقنا، وقد عجنها الله تعالى بفطرتنا التي فطرنا عليها، وقد تطرقنا لتفصيل بعض ذلك في كتابنا (فقه التعاون على البر والتقوى)[7] فراجع إن أردت التفصيل أكثر..

إذن أداءً لحق تلك النعمة علينا، وشكراً لتلك النعمة، علينا أن نعرف الهدف من الخلقة..

3. أهداف الخلقة

وأما السؤال الأول: لماذا خلقنا الله؟ فالجواب عليه هو: أن الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم - بحسب تتبعي الناقص - أعطانا ثلاثة أجوبة، والنسبة بين هذه الأجوبة وهل هي العموم والخصوص من وجه، أو العموم والخصوص المطلق، أو غير ذلك؟ ربما نذكرها فيما بعد إن شاء الله تعالى..

(العبادة) هي أول الأهداف..

الآية الأولى: وهي تُحدِّد الهدف الأول، بقوله تعالى:( وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ﴿55﴾ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)[8] إن الله سبحانه يصرِّح، بأنه جلَّ اسمه لم يخلقنا وكل ما جنَّ واستتر إلا لأجل (العبادة)،( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ).. هذا هو الهدف الأول والذي سنبحثه بشيء من التفصيل إن شاء الله تعالى..

(العلم) هو ثاني الأهداف..

الآية الثانية: والهدف الثاني مذكور في آية قرآنية ثانية وخلاصته وإيجازه (العلم).. حيث يقول سبحانه وتعالى:( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا)[9].. هذا هو الهدف الثاني من الخلقة.( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ) ، هذا هو أصل الخلقة.. وبعد ذلك يكون التدبير..

فعندنا خَلق أولاً، ومن ثم التدبير.. ) يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ)، والهدف للاثنين، أي لأصل الخلقة، ثم للتصرف وللتدبير، هو؛( لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا)..

إذن الهدف الثاني من الخلقة: هو (العلم) ولكن أي علم؟ وما هي حدود هذا العلم؟ وهل هو خاص بعلم الشريعة، أو هو عام وشامل للعلوم الأخرى كالفيزياء، والكيمياء، والفلك، والجيولوجيا.. وغيرها من أنواع العلوم.. وهذا ما سنبحثه في وقت آخر بإذن الله تعالى..

(الرحمة) هي الهدف الثالث..

ويوجد هدف ثالث مشار إليه في آيات القرآن الحكيم، وهو(الرحمة) وقد ذُكر في القرآن الكريم، في قوله تعالى:( إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)[10]

وهدف رابع جاء في رواية الإمام الحسين  (عليه السلام) ونتطرق له لاحقاً وفي مكان آخر إنشاء الله..

«مادة» (ليعبدون) و«صيغتها»، تدلان على الهدف من الخلقة..

ولنبقَ في حَرَمِ الآية الأولى:( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)..

ولنُركِّز على كلمة(لِيَعْبُدُونِ).. فالمُتأمل يجد؛ أن في كلمة (لِيَعْبُدُونِ)عندنا (مادة)، وعندنا (هيئة).. وكما أن المادة تفيد المقصود، كذلك الهيئة فإنها تفيد (المقصود) أيضاً.. أي أن المادة تُحدد (الهدف) والهيئة كذلك، وهذا هو اللطيف في الآية..

إن الآيات القرآنية جداً دقيقة.. فالحرف القرآني الواحد بحساب وبميزان، بل المد بحساب وبميزان.. وفي وقت سابق كتبتُ - في بحثنا الأصولي حول (الحُجَّة) - بحثاً حول (الفلسفة من قواعد التجويد)، وفيما يرتبط بعلم الفقه، وهو في الواقع كان يعدُّ نوعاً من الاستطراد على حساب المنهج العرفي الأصولي، ولذا تركته..

فـ(المَدُّ) مثلاً؛ ما هي فلسفته، وما هو الهدف منه في القرآن الكريم؟

و(الإدغام) ما هو الهدف منه؟

إذ أن علم (التجويد) عادة يذكر لك كيف تُجوِّد، وكيف تُرتل، وأين تقف، وأين تدغم، وأين تصل.. الخ. ولكن ما هي الفلسفة من ذلك؟ هل هي الجمال فقط؟ كلا، ليس الجمال فقط، بل هناك شيء آخر وراء الجمال، هو أكثر عمقاً ودلالةً.. وهذا ما سوف نذكره في محله، بإذن الله تعالى..

وهنا - في هذه الآية الشريفة - (المادة) تُحدد الهدف من الخلقة الذي هو (العبادة)، و(الهيئة) وهي صيغة المضارع تُحدده أيضاً..

.............................................

* من مقدمة كتاب بحوث في العقيدة والسلوك

الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر و التوزيع

وهو مجموعة من البحوث والدروس الهادفة التي تتوخى الاسترشاد بالقرآن الكريم للتعرف على الحقائق (التكوينية والتشريعية) ولا صلاح المجتمع وصولا والى السعادة الدنيوية والأخروية، وللنهوض بالفرد والأسرة والأمة. وقد ألقاها آية الله السيد مرتضى الشيرازي على جمع من علماء وفضلاء الحوزة العلمية الزينبية ليالي الخميس طوال العام الدراسي.

............................................

[1] (الذاريات:55 - 58)

 [2] (الملك: 15)

 [3] النحل: ٧٨

 [4] هو سماحة الإمام آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس الله نفسه وعطر رمسه).

 [5] حيث بلغت إنجازاته العلمية ومؤلفاته حين وفاته إلى (ألف وثلاثمائة وخمسين كتاباً)..

 [6] (الأحزاب:72)

 [7] فقه التعاون على البر والتقوى: ص328 مبحث (تحقيق القول في الفطرة)..

 [8] (الذاريات:56)

 [9] (الطلاق:12)

 [10] (هود: ١١٩)

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 11/شباط/2010 - 26/صفر/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م