التعددية ورعاية الكفاءات في الحكومة الإسلامية

قبسات من فكر الإمام الشيرازي

شبكة النبأ: مرَّت دول العالم الإسلامي في التأريخ الحديث بمنعطفات سياسية وفكرية مؤثرة قادت شعوبها إلى كثير من المنزلقات الخطيرة في أنماط الحياة والتعامل بين الحاكم والمحكوم وإدارة شؤون الناس وما إلى ذلك مما يتعلق بالعلاقات المتبادلة بين ذوي النفوذ من صنّاع القرار وغيرهم من عامة الناس وشرائح المجتمع.

ولعل المعاناة الكبيرة التي عانى منها المسلمون في ظل أنظمة سياسية مشتتة ومختلفة ترجع في أسبابها إلى ابتعاد هذه الأنظمة عن تعاليم الإسلام ورؤيته لكيفية إدارة شؤون المسلمين سياسيا وفي المجالات الأخرى كافة، ولسنا بحاجة إلى القول بأن تعاليم الإسلام ومبادئه الواقعية السمحاء استطاعت أن تجعل من مجتمع الجاهلية في صدر الرسالة الإسلامية مركزا للحضارة الانسانية وبؤرة للتنوير البشري حين تحول ذلك المجتمع (الذي كان جاهلا ومتخلفا) الى مصدر إشعاع فكري وثقافي وسياسي نقل مؤثراته وتجاربه الراقية في عموم المجالات الى عموم سكان المعمورة آنذاك، وهذا وحده دليل راكز ولا يقبل التشكيك على أن الاسلام له القدرة على التعامل مع وقائع الحياة بطريقة (مثالية واقعية) تجمع بين شؤون الراهن وتوابعه وبين الإلتزام الأخروي الذي يُسهم بطريقة أو أخرى بتقويم حياة الشعوب وجعلها أكثر استقرارا وتوازنا.

وأهم ما ترتكز إلية رؤية الاسلام في تعاليمه ومبادئه السمحاء هو ركن الحرية، حيث الانسان له حرية الرأي والمشاركة من أجل فتح نوافذ الابداع بأوسع ما يمكن، وطالما كانت الحرية مصانة ومتوافرة كان الانسان مبدعا، لذلك يرى الامام السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) أهمية توافر هذا الشرط كما انه وضع ملامح هامة أخرى بهذا الخصوص وردت في كراسه الذي يحمل عنوان (الحسين مصباح الهدى) ومما جاء فيه حول هذا الموضوع:

إن (ملامح الدولة الإسلامية المرتقّبة، هي:

1 ـ شورى مراجع التقليد، الذين تتوفّر فيهم شروط المرجعيّة، إلى جانب اختيار أكثريّة الاُمّة لهم، في أجواء حرّة.

2 ـ الأحزاب الإسلامية الحرّة التي أزمّتها بأيدي مراجع التقليد.

3 ـ تطبيق جميع القوانين الإسلامية، والتي منها الحريّات الآنفة الذكر، والاخُوة الإسلامية، وإسقاط الحدود بين البلاد الإسلامية، حتى تكون بلداً واحداً).

فإذا ما توفر مبدأ التشاور بين القادة السياسيين وتم تنظيم المهام وفقا للرؤية الاسلامية التي تهدف الى حفظ حقوق الجميع حكاما ومحكومين، فإن حياة الشعوب والمجتمعات الاسلامية سوف تستقر من دون شك، وهذا الاستقرار سيقود بدوره الى تفعيل الحريات وتطويرها وجعلها مؤثرة في صيانة حقوق الجميع وبالتالي الوصول الى ما يُطلق عليه اليوم في السياسة (التداول السلمي للسلطة) أي يكون الانتخاب هو العنصر الحاسم في اختار القادة وتشكيل الحكومات، وهذا ما يشكل في الراهن أكبر عقبة بوجه تطور المسلمين حيث تتداخل الحدود وتختلط الاوراق وتشيع الفوضى بين الساسة وغيرهم مما يؤدي الى ضمور دور الشورى وتراجع دور الحريات وغياب صوت الناخبين او تجييرهم لصالح من لا يستحق قيادة الناس، لكن بحضور الحريات، وإذا توفّرت الحركة الإسلامية الصحيحة ذات الصبغة الجماهيرية الواسعة، ووعى الشعب خيره من شرّه، كما يقول الامام الشيرازي (رحمه الله) يمكن أن تعقّب ذلك ما يلي:

(حكومة الشعب: واختفاء الإنقلابات العسكرية، التي ليست إلاّ عبارة عن تآمر جماعة من فاقدي الكفاءات بتخطيط من الكفّار والأجانب، للقفز على الحكم، ثم لا يكون شأنهم إلاّ سفك الدماء ومصادرة الأموال وملء السجون وجعل البلاد نهباً للأجنبي الشرقي والغربي.وكذلك اختفاء الحكومات الوراثية، والوصائية، حيث تمهّد الحكومة السابقة جوّاً من الدعاية لما تريده من حكومة مستقبلة ليس همّها إلاّ حفظ مصالح السابقين، فإنّ كلّ هذه الحكومات -الإنقلابية، والوراثية والوصائية- لا تكون إلاّ في جوّ فقدان الوعي وعدم وجود حركة إسلامية صحيحة تقف بالمرصاد لكل محاولة انتزاع السلطة من الاُمّة).

ويتبع ذلك وجود التعددية، ثم توافر الكفاءات وحضورها بقوة في المجالات العملية والفكرية، إذ أن الكفاءات كما يرى الامام الشيرازي (لا تعيش في جو الاختناق والإرهاب، ولا تظهر ثمارها في مثل هذا الجو، وهذا أيضاً من أسباب قوّة الغرب وضعف المسلمين).

كما ان تضافر العلم والعمل في الاجواء المتحررة وحضور الكفاءات كفيل بتحقيق التقدم المنشود حيث يؤكد الامام الشيرازي على:

(ان الثقل والواقعية الزراعية والصناعية والتجارية والثقافية والعسكرية وغيرها، وليدة الكفاءة والحريّة، وبذلك تتلاحم القدرة والإيمان والعلم والمال والسلاح، وتتقدّم البلاد إلى الأمام بخطوات سريعة).

وهكذا تبدو ملامح الحكومة الإسلامية أو (الحكومة وفق المنظور الإسلامي) نموذجا للحكومات المعاصرة القادرة على أن تكفل حياة حرة كريمة لأفراد المجتمع كافة قائمة على العدل والإنصاف وتكافؤ الفرص، ناهيك عن الشرط الأساس المتمثل بتوفير الأجواء المتحررة ورعاية الكفاءات واحتضانها وتشجيعها لكي تُسهم في بناء المجتمعات الإسلامية المعاصرة القابلة للتطور المتواصل مع حضور التوازن والاستقرار في عموم مجالات الحياة الأخرى.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 9/شباط/2010 - 24/صفر/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م