نظم التربية والتعليم عند العرب

أزمات ومقترحات

زهير الخويلدي

أن نربي لا يعني أن نصنع كهولا وفق نموذجا جاهزا وإنما أن نحرر كل إنسان مما يمنعه من أن يكون ذاته وأن نسمح له بأن ينجز نفسه وفق عبقريته الخاصة.

أوليفيه ريبول

 

العناية بالتربية والتعليم رهان حقيقي بالنسبة إلى كل الدول التي تنشد النهوض والتقدم وذلك لما يفضي إليه من حسن تصرف في الموارد البشرية وتهيئة مدنية متبصرة للأجيال المستقبل من أجل أخذ المشعل وتحميلها مسؤولية تنظيم الشأن العام والارتقاء بالحياة المؤسساتية نحو الأفضل وتوفير اطر وكوادر قادرة على تسيير شؤون المجتمعات.

ولئن حاولت بعض الدول العربية بعد حصولها على الاستقلال المراهنة على هذا القطاع الاستراتيجي وقامت بإصلاحات هيكلية في نظم التعليم وتجاوزت الازدواجية وأرست برنامجا موحدا وتخطت المسالك الموازية والطرق التقليدية إلا أن البعض الآخر ركز انتباهه على مشاكل أخرى وتعامل ببرودة مع ملف التربية والتعليم وكان الحصاد هو بقاء نسب الأمية مرتفعة وفقدان الكفاءات وتدني مستوى الثقافة والوعي لدى عامة الناس.

علاوة على ذلك هناك تراجع في المردود في البلدان التي عنيت بالتربية والتعليم وظهور بوادر أزمة خانقة في مستوى الجودة والمردودية وفي مجال الانقطاع المبكر عن الدراسة وفي معدلات النجاح وقيمة الشهادات العلمية بالمقارنة مع بقية بلدان العالم وفي ترتيب المؤسسات الجامعية على الصعيد الدولي وتقلص نسب صناعة الذكاء وهجرة الأدمغة إلى دول المركز. فماهي أسباب تردي الوضعية التي تحيط بالعملية التربوية؟ ولماذا بات تعليمنا لا يخرج سوى الفاشلين العاطلين عن العمل؟

إن أسباب الأزمة عديدة ويمكن أن نذكر منها ما يلي:

- فراغ البرامج من المضامين والمبادئ المتوازنة التي تقدر على بناء مواطن متصالح مع ماضيه ومتطلع إلى المستقبل عبر قراءة نقدية لواقعه. ما نلاحظه هو تركيز مختلف البرامج المدرسة على الجانب الشكلي وإسقاط جملة من المقررات دون مراعاة خصوصية البيئة الاجتماعية والنسيج النفسي والثقافي الذي تتنزل فيه.

- فوضى القرارات وارتجالية التدابير وضعف في المناهج والأسانيد البيداغوجية وغياب الرؤية الإستراتيجية والتخطيط العلمي والإبقاء على الطرق التقليدية التي تكرس نفس الذهنية القروسطية وتشجع على الإتباع والتلقين.

- تدهور قيمي كبير تمظهر في بروز العنف اللفظي والبدني في الوسط التربوي  وتوتر العلاقة بين جميع مكونات العلمية التربوية من مربين وتلاميذ ومشرفين.

- سلعنة التعليم وربطه بسوق الشغل واختزاله في عملية التكوين وتفشي ظاهرة الدروس الخصوصية والتعويل على الحلول التسكينية من أجل تحقيق أعلى نسب النجاح كميا دون مراعاة الكيف والدرجة.

- الوضعية الاجتماعية الصعبة للمربي وتشوه صورته في المجتمع وتدهور طاقته الشرائية ومحدودية إمكانياته المادية مما يفتح الباب بالنسبة إليه للتضحية برسالة العلم من أجل ضمان لقمة العيش.

- تراجع التعويل على اللغة العربية الفصحى وضعف الناشئة في مستوى تعلم اللغات الأعجمية وميل المربين إلى استعمال اللهجات الدارجة حرصا على التبليغ والإفهام.

 هذه بعض من مظاهر الأزمة التي تعصف بالتربية والتعليم وذلك من خلال تشخيص جزئي والتي يسهل معالجتها لو اتخذت الحكومات الخطوات التالية واستعاد الرأي العام الشعبي الرغبة في التعلم وأدرك أهمية احترام العلم وأهل وتقديس المؤسسات التربوية:

- العناية الدقيقة بالبرامج ومحاولة التأليف بين تحقيق التجذر وتحصيل التحديث والابتعاد عن البرامج الجاهزة المملاة من الخارج وكذلك تفادي البرامج الماضوية التي تكرس الجمود وتعيد إنتاج نفس البضاعة المعرفية وتشد الناشئة إلى الخلف.

- اعتماد تصور متكامل وبناء مشروع إصلاحي وتحقيق الاستقرار والمداومة في نفس التمشي التربوي مما يعزز الثقة ويقوي اللحمة والتفاهم بين مكونات العملية التربوية.

- إحداث ثورة أخلاقية في الفضاء التربوي وذلك بإعادة الاعتبار إلى القيم الأصيلة والمبادئ الكونية وحث الناشئة على التمسك بها واستخدام أساليب التوعوية الكافية والترغيب السلمي الهادئ.

- الكف عن ربط التعليم بالاقتصاد وتنظيم الدروس الخصوصية والتفكير بجدية في منعها والتأكيد على الرسالة التربوية السامية للتعليم والفائدة الوجودية منه والتمسك بمبدأ التعليم من أجلى تحصيل العلم وليس التعليم من أجل الحصول على شغل.

- توجيه الاستثمار نحو قطاع التربية والتعليم ورصد اعتمادات كافية والترفيع في النسب المخصصة من الميزانيات إلى هذا القطاع مما يحسن من التجهيزات والمرافق ويطور من مداخيل المربين ويقيهم من كل ضروب الاحتياج.

- تضافر الجهود من طرف كل مكونات المجتمع من أجل إعادة الاعتبار للمؤسسة التربوية وللمربي باعتباره محور العملية التعليمية وتدخل وزارات الإعلام والثقافة من أجل توفير كل المستلزمات المرئية واللامرئية وإحداث مكتبات متطورة تضم الدوريات والمنشورات الجديدة وتشجع على التعريب والترجمة وتعزيز مكانة الفصحى والتمكن من اللغات الأجنبية والمطالعة والتثقيف وتقوم بعصرنة التعليم مما يواكب مجتمع الفرجة وزمن الصورة.

إن الغاية من التعليم هي إبداع قيم جديدة وتثبيت السلم الاجتماعي وتربية الناس على فنون التمدن والرقي وان السلم الاجتماعية لا تتحقق إلا إذا وضع كل واحد بين قوسين الحركيات العميقة التي تبرر هذه القيم المشتركة مثلما يقول بول ريكور في كتابه من النص إلى الفعل. إن التعليم هو مجموعة من العمليات والإجراءات التي تمكن كل طفل من الحصول التدريجي على قدر معين من الثقافة يميزه عن الحيوانات.

 ألم يقل كانط أن المدرسة ليست هي المكان الذي يجب أن نتركه، بل المؤسسة  التي تهدف  ليس فقط  لمعرفة الحقيقة على وجه الخصوص، ولكن لتعلم التفكير؟

خلاصة القول أن أزمة التعليم عند العرب هي عينة من أزمة التعليم في العالم بما في ذلك الدول المتقدمة إذ يشهد الكون اليوم تراجعا رهيبا للعلوم الإنسانية في ظل تفجر الثورة الرقمية وتعويض الفيديوسفير الغرافوسفير وحلول المرئي بدل المكتوب، كما أن المحاولات المبذولة من طرف بعض الهيئات المشتركة سواء العربية كالأسيسكو أو الدولية مثل اليونسكو لا يمكن أن يستهان بها وقد حققت نتائج مقبولة.

ورغم ذلك تظل غير كافية  ومحتاجة إلى حراك داخلي وتوفر قابلية ذاتية للتنمية والنهوض.فمتى يعود البريق إلى المدارس والمعاهد والجامعات في حضارة اقرأ؟ وما السبيل إلى شد رحال وجدان الناشئة إلى العلم مع تذكيرهم بأن المعلم كاد أن يكون رسولا وبأن العلماء هم ورثة الأنبياء؟

* كاتب فلسفي

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 2/شباط/2010 - 17/صفر/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م