العلاقات الدولية مرت بتحولاتٍ وتقاطعاتٍ، وتنافسٍ على النفوذ،
وبسطٍ للهيمنة، وترك بعضها انعكاسات مشرقةً، لكنّ معظم انعكاساتها كانت
مؤلمة. الصورة المُشرقة قد تكمن في أن البشرية أخذت تقترب من بعضها
بعضا أكثر فأكثر، وأصبح التعايش السلمي بين شعوبها سمة من سمات الحضارة
البشرية.
ربما الزلزال الذي ضرب هاييتي مؤخراً، الذي دفع معظم الدول لنصرة
سكانها يعتبر إحدى النقط المشرقة والمضيئة في العلاقات الدولية. هذه
الكارثة المؤلمة سلطت الضوء مجدداً على معاناة الشعوب الفقيرة. إنني لا
أريد الخوض في النظم الاقتصادية للدول، ولا إلى آليات توزيع الدخل
القومي في كل دولة، لكنني أرغب في تسليط الضوء على الجوانب الإنسانية
لدى دوائر صنّاع القرار في الدول الغنية حين تضع وتقرر موازناتها
السنوية، وموقع الدول الفقيرة في القرارات والبرامج المالية
والاقتصادية لتلك الدول.
قد لا يرغب البعض في قراءة أو سماع شيءٍ عن الجوانب الإنسانية في
الغرب، وربما يرى في كل ما هو غربي سوءًا نتيجةً لتاريخه الاستعماري،
ونهبه لخيرات الشعوب، ويرى فيه سبباً لكلّ الحروب والمآسي والفقر في
عالمنا العربي والإسلامي من دون أن يميّز بين دولةٍ وأخرى. لا أريد
القول إنّ المساعدات التي تقدمها الدول الغنية للدول الفقيرة نابعة من
عقدة الذنب، أو إنّها تقوم بذلك كفارةً لذنوبها، أو تحسيناً لصورتها،
على رغم أن بعض الدول كالولايات المتحدة تعمل وفق ذلك فعلاً؛ فقد خصصت
موازنات ضخمة من أجل تحسين صورتها بعد أن ساهمت إدارة بوش في تشويه
سمعة الولايات المتحدة في العالم، إلا أنّ معظم الدول الغنية اقتنعت
بضرورة العمل على تخفيف معاناة كثير من الشعوب التي تأثرت سلباً جرّاء
نموها الصناعي.
ربما ما حدث في مؤتمر المناخ في كوبنهاغن في ديسمبر الماضي دليلٌ
على مدى مساهمة الدول الصناعية في تلويث كرتنا الأرضية، والأضرار التي
ألحقتها بالدول الفقيرة جرّاء ذلك، وعلى رغم ذلك تعهدت بتقديم مساعدات
إلى الدول الفقيرة حتى عام 2012، فاليابان من جانبها تعهدت بدفع 11
مليار دولار، والاتحاد الأوروبي 8 مليارات دولار، والولايات المتحدة 3
مليارات دولار.
ما أريد قوله، إنّ المنظمات الإنسانية غير الحكومية في الدول
الغنيّة قد حققت إنجازاتٍ ضخمة على صعدٍ مختلفة، فقد استطاعت إرغام
دولها على وضع سياساتٍ وتشريعاتٍ وخططٍ أكثر إنسانية، وأكثر ملائمة
للبيئة، إضافة إلى إرغامها على تخصيص موازناتٍ من دخلها القومي لصالح
الدول الفقيرة، ودعم المنظمات الإنسانية في العالم.
إنها حينما تقوم بذلك تعلم بأنّ عولمة التجارة سوف تزيد من معاناة
الدول الفقيرة، وفي ظل هذه العولمة الظالمة لن يكون هناك وجود للفقراء
أمام جشع الأغنياء؛ ولذلك تكافح هذه المنظمات بشتّى الوسائل لوضع الدول
الفقيرة على جدول الأعمال في برامج حكوماتها والمؤتمرات الدولية.
من جانبٍ آخر، نجد أنّ الأمم المتحدة والبنك الدولي يلعبان دورًا
أساسيًا في انتشال الدول الفقيرة، وتخفيف معاناتها من خلال إقناع الدول
الغنية بتخصيص جزءٍ من دخلها القومي لصالح الدول الفقيرة، إضافةً إلى
دورها في إيصال المعونات والمساعدات.
وهذا لا يعني أنّ البنك الدولي بريء دوماً من بعض إجراءاته
التعسفية. نقدّر ما تقوم به المنظمات التابعة للمنظمة الأممية في
تقديمها للخطط والمشاريع التنموية في البلدان الفقيرة، لكن المؤسف وبعد
إنشاء (منظمة التجارة العالمية) أصبح تحرير التجارة على حساب التنمية
في هذه البلدان، وهذا ما ساهم ويساهم في زيادة معاناة هذه الدول، على
رغم وجود أصواتٍ قويةٍ في بعض الدول الغنية والمنظمات الدولية تدعو إلى
استثناء الدول الفقيرة من بعض إجراءات وقوانين التجارة الحرة؛ من أجل
أن تتمكن هذه الدول من الوقوف أمام أزمة الفقر والغلاء العالمي
وتداعيات الأزمة المالية.
الفقر أضحى همّاً عالمياً، وانتشال 48 دولة في العالم من براثن
الفقر أصبح قضية أممية، والبشرية اليوم أمام تحدٍ حقيقي، إما أن تقوم
بعملٍ جادٍّ ومن منطق المسؤولية الإنسانية، أو أن تقبل بآثار الفقر
وتداعياته التي لا تقف عند حدود الدول الفقيرة فقط، إنّما تترك تأثيرها
على جميع الدول، وتبقى شوكةً في خاصرة الدول الغنية، وربما سبباً في
توتّر العلاقات الدولية. |