استمطار الرحمة الإلهية بالإنصات للقرآن الكريم

مستل من مقدمة كتاب بحوث في العقيدة والسلوك

آية الله السيد مرتضى الحسيني الشيرازي

الحمد لله رب العالمين بارئ الخلائق أجمعين باعث الأنبياء والمرسلين؛ ثم الصلاة والسلام على سيدنا ونبينا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين الذين اذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين.

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)[1]

كيف نستمطر رحمة الله سبحانه وتعالى حتى تهبط علينا وتتنزّل علينا كالمطر؟

الكثير منا؛ بل كلنا، له من المشاكل ما يُؤرِقُهُ، ويُزعِجُهُ ويقضُّ عليه مَضجعَهُ، فهنالك إنسان مبتلى بدَينٍ، وكثير منكم يمكن أن تكونوا الآن مديونين أو هنالك إنسان مبتلى بمشكلة مع زوجته، أو مع أطفاله، أو مُبتلى في صحته، أو مُبتلى بجارٍ له مُزعج، يُؤرقه ويُزعجه، وما أشبه ذلك، أو مُبتلى بابتلاءات أخرى شَتَى.. فكيفَ (نَستمطرُ) رحمةَ الله سُبحانه وتعالى لدفع هذه الفِتَنِ والمِحَنِ والمشاكل والابتلاءات؟

إن الآية القرآنية الكريمة تجيب على هذا التساؤل، إذ تقول: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) إن مما يُؤسَف له أن الكثير مِنَّا، غافلون عن هذه الرحمة الإلهية، فعندما تدخلون إلى المجالس، أو تحضرون في فاتحة، أو غيرها، ويُقرأ القرآن فيها، تجدون الكثير من الناس مشغولاً بالأحاديث الجانبية.. هذا هو سبب من أهم أسباب سلب الرحمة الإلهية عن الإنسان..

والغريب أنه إذا لم يكن مشغولاً بالحديث، فستراه مشغول الذهن أو شارده، فذهنه يُشرّقُ ويُغرّبُ، يُفكرُ هنا وهناك في مسألة فقهية، أو أصولية، أو في أزمة اقتصادية أو قضية سياسية أو في السوق، أو في مشكلة اعترضت طريقه..

إنه يفكر في كل شيء، ولا (ينصت) لحديث الإله القادر المتعال.

إن هذا هو سبب رئيسي لسلب الرحمة الإلهية.. وانتم جرِّبوا لمدة شهر، جربوا الإنصات لتلاوة القرآن، وأقول ذلك معتقدا به ومُجرِّباً له أيضاً، وليس عن اعتقاد فقط.. والآية الشريفة هي أكبر شاهد على ذلك هي الصِّدقُ، بل هي الحقُّ وليستْ صِدقاً فقط..

لشهر كامل دعنا نلتزم بذلك حقاً فمتى قُرأ القرآن، فلنستمع له وننصت، وراقب كيف أن المُشكلة التي نويتها أو التي لم تنوها، فإن الله سبحانه وتعالى يحلها من حيث لا تَحتسب، ومن حيث لا يُحتسب.

(وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا) ، وكنت أفكر مع نفسي، وأنا أتأمل الآية الشريفة: إنه أنتم إذا حضرتم أو حضرنا في محضر شخص عظيم، وكان يتكلم معنا وعندنا لديه حاجة، فهل إذا رآنا شاردي الذهن، مشغولين بالفكر عنه.. هو يُكلمني وذهني في مكان آخر.. هل يقضي حاجتي؟

كلا.. سوف لا يقضي حاجتي.. ذلك أن هذه الحالة تُعتبر إهانةً لذلك العظيم.. وقد يكون عظيماً معنوياً كمرجع تقليد، أو مادياً كملك.. تخيلوا ذلك: الملك أو مرجع التقليد يحدّثُ الطرف الآخر، وهذا ذهنه في مكان آخر، أو إنه يهمل الاستماع وينشغل بالحديث مع الآخرين في محضر المرجع أو الملك ألا تعد هذه إهانةً له؟

إننا إذا أردنا أن نستمطر رحمة الله سبحانه وتعالى، فمن الطرق لذلك هو الاستماع والإنصات للقرآن الكريم..

الاستماع للقرآن في الصلاة وغيرها

وهنا مسائل خمس:

يجب ترك القراءة في الصلاة الجهرية إذا سمع المأموم صوت الإمام ولو همهمته، فرغم إنه يريد قراءة القرآن إلا أنه مادام الإمام يقرأ القرآن فعليه أن لا يقرأ.

الأحوط الأولى ترك الانشغال حتى بذكر الله في الجهرية إذا سمع صوت الإمام ولو همهمته.

الأحوط الأولى الإنصات لقراءة الإمام (الحمد والسورة مثلاً) وإن كان الأقوى في 2و3 جواز الاشتغال بذكر ونحوه.

نعم إذا لم يسمع حتى الهمهمة جازت له القراءة بل استحبت بقصد القربة المطلقة، بل يجوز حتى بقصد الجزئية، وذلك كما ذكره صاحب العروة ولم يخالفه جمع من أعاظم الفقهاء ومنهم السيد الوالد (قدس سره) والسيد العم (دام ظله)`.

وأما في غير الصلاة فالإنصات وإن كان مستحباً مؤكداً لا واجباً كما هو المشهور إلا أن النتيجة التي رتبها الله تعالى على الاستماع والإنصات وهي (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) تدفع الإنسان الحكيم دفعاً أخرى، لكي ينصت حتماً إذ لعل رحمة من هذه الرحمات تشمله فتدفع عنه مصيبة نازلة أو بلية فادحة..

ولعل رحمة تشمله فتدفع عنه ما هو أعظم وهو: معصية كان سيتورط بها فيحفظه الله تعالى عنها ببركة استماعه للقرآن الكريم، بل لعل الله سبحانه برحمة ونظرة منه له وهو يستمع القرآن ويعظمه وينصت له ينقذه من سوء العاقبة والخلود بالنار.

ثم إن تفسير الآية بما لو كان في الصلاة تفسير بالمصداق، كما هو الظاهر إذ المورد لا يخصص الوارد، وإنما رفع اليد عن الوجوب في غير الصلاة للدليل الخارجي وإلا لو خلينا والآية بمفردها كانت دالة على الوجوب كما هو الأصل في صيغة الأمر لولا القرينة.

الفرق بين (فَاسْتَمِعُوا لَهُ) (وَأَنْصِتُوا)

وهنا لفتة بديعة في كلمة (وَأَنْصِتُوا)، ماذا تعني هذه الكلمة؟ يُفسِّرُها المُفسِّرون بـ: الاستماع مع سكوت.. ولكن ما خطر بالبال القاصر: أن هذه الكلمة هي تأكيدٌ، وتأسيسٌ أيضاً..

التأكيد: واضح فيها (فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا)، فهي تأكيد مرة أخرى، يعني استمعوا مع السكوت..

لكن التأسيس كيف؟ يعني ما معنى استمعوا مع السكوت؟ والاستماع المفروض أنه يكون مع السكوت.. ذلك أنه يوجد أمران: (سَمَاعٌ)، و(اسْتِماعٌ)..

و(الاستماع): يعني أن تُعطي له قلبك أيضاً ووعيك له، فتكون عنده حاضراً بقلبك وبذهنك.

فما هو فرق الإنصات عن الاستماع؟

1. الاستماع أثناء الفواصل والسكتات

يَخطرُ بالبال: أنه ربما يكون هنالك معنيان، وكلاهما قد يكون مقصوداً في الآية القرآنية الشريفة.. إذ يمكن أن يستمع الإنسان للقرآن، لكن في الأثناء أي أثناء قراءة القارئ للقرآن، وفي الفواصل أي عندما ينهي آية ويريد أن يبدأ بآية ثانية ننشغل بكلام ولو قصير جداً جملة أو سؤال فقط فالذي يدخل إلى المجلس ماذا يرى؟ يرى أننا نستمع القرآن ولكن لسنا ساكتين..

وهنا تجدنا نُطبِّق (فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا)،لكننا لا نعمل بـ(فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا).. أين الإنصات؟ إنه في الجو العام والهيئة المجموعية بما فيها فواصل التلاوة.. هذا الاحتمال الأول وهو مُراد أيضاً، إذ ذلك خلاف الاحترام.. الملك يتكلم أو مرجع التقليد، وإذا سكت ثانيتين فنبدأ نتكلم مع بعضنا، هذا خلاف توقيره واحترامه، وهو إهانة أيضاً.. هذا يعني أنه ليس سكوتي واستماعي له وهو متشاغل بالحديث، هو المطلوب فقط، بل في الخُلل، والفُرج، والفواصل أيضاً مطلوب مني ذلك..

إذن الإنصات يعني ذلك أيضاً كما عبَّر عنه المفسرون: (الإنصات مع السكوت)، هذا السكوت أين محله؟ إنه السكوت لدى الفواصل، و(الاستماع) خاص بأثناء الكلام.

2. الاستماع الشامل أثناء التلاوة

الاحتمال الآخر: هو الإنصات حتى في أثناء الحديث نفسه إذ الإنسان قد (يستمع)، وهو (يسمع) لآخر أو يتكلم، وأنتم يمكن أن تكونوا جرِّبتم ذلك.. فأنا جالس ومشدود بكلي للقرآن أي إنني استمع للقرآن وبدقة ولكن في الأثناء يكلمني أحدهم أو سألني سؤالاً فأقول له لا، أو أقول له نعم وأنا معرض بقلبي عنه ومنشد للقرآن الكريم.. هذا أيضاً خلاف (الإنصات للقرآن) أحياناً نُبتلى بشخص يُحدثنا ولا يُراعي أدب استماع القرآن الكريم، فذهنك أنت مشغول حقاً بالقرآن، ولكنك تُريد أيضاً أن لا ترد هذا الشخص، فتجيبه بكلمة واحدة لا أو نعم وإن كان بشكل ميكانيكي.

إن هذا العمل ينبغي على الإنسان أيضاً أن لا يرتكبه، أو يقتحمه..) قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا(، في الأثناء، وفي الفواصل أيضاً..

النبي يقرأ ثلث القرآن في مرضه

(لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)

إن علينا أن نتعلم من النبي( صلى الله عليه وآله وسلم) اللجوء إلى القرآن الكريم وقراءته والتدبر فيه والاستماع له والإنصات، في كل الحالات وفي مختلف الأزمنة.. وفي القصة التالية عظة بالغة:

فقد روي في الحديث أن النبي (صلى عليه وآله وسلم) أصيب بوعكة شديدة، فزاره شخص من الأصحاب، وقال للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في مضمون كلامه: إنك قد أصبت بمرض شديد أو وعكة شديدة، إنك لشديدُ المرض.

فقال له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى يعلمنا نحن: ما منعني ذلك من أن أقرأ ثلاثين سورة من سور القرآن بينها السبع الطوال..[2] ويبدو أنه كان ذلك في فترة قصيرة جداً ولعله كان في يوم واحد.

إن الإنسان وهو في حالة الصَّحة فكيف بحال المرض يصعب عليه عادة أن يقرأ (11) جزءً تقريباً من القرآن.. ذلك أن السبع الطوال تبدأ بسورة البقرة وتنتهي بسورة التوبة على رأي إذ أن (الأنفال والتوبة)، عدهما بعض العلماء سورة واحدة لأن فاصل البسملة غير موجود بينهما، إذ سورة التوبة لا تبدأ بالبسملة، والأنفال هي السورة السابعة، في الترتيب، وحيث لا يوجد فاصل بين السورتين عدّهما البعض سورة واحدة فالسبع الطوال هي: سورة البقرة، آل عمران، النساء، المائدة، الأعراف، الأنعام، الأنفال، والتوبة معاً، أي إن (التوبة) هي السورة الثامنة ظاهراً، لكنها بهذا المقياس السابعة.. وهي أحد عشر جزءً من القرآن الكريم تقريباً، والنبي  (صلى الله عليه وآله وسلم)  قال: لكن ما منعني ذلك من ان اقرأ ثلاثين سورة من سور القرآن بينها السبع الطوال[3].. هذه تحتاج لأربع أو خمس ساعات على الأقل، والإنسان موعوك وشديد المرض، لماذا؟ لأنه ينتظر، ويستمطر رحمة الله سبحانه وتعالى بقراءة القرآن الكريم... (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)

ثم إن منطوق الآية (وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ) ،وربما يستظهر منه فيما إذا كان القارئ غير الإنسان نفسه لكن قد يقال: بشمولها لما إذا قرأ الإنسان نفسه الآيات فعليه الاستماع والإنصات لتلاوته كما إذا سمعه من غيره، للإطلاق[4]، أو تنقيح المناط المسلّم، فتكون (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) مترتبة على الاستماع للقرآن والإنصات له سواء قرأه هو أم قرأه غيره..

لماذا ترحمون وليس (سترحمون)؟

وهنا قد يثار تساؤل: وهو لماذا قال الله سبحانه وتعالى لعلكم ترحمون؟ ولعل (للاحتمال والترديد) ولم يقل: وإذا قرأ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا فأنكم سترحمون؟ وهذه للحتمية والتأكيد إذ يمكن أن يقال: كان ينبغي أن يكون هكذا لأن الله هو العالم، وأنا الجاهل ولا أدري في المستقبل ما يكون، فأنا أقول (لعل).. ولكن الله عالم بكل شيء، فلماذا قال:(لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)؟

والإجابة على ذلك هي: لأن الاستماع إلى القرآن، والإنصات له، مقتضٍ للرحمة، وليس علة تامة لها.. فكل إنسان إذا استمع للقرآن وأنصت له يرحمه ولكن بشرطها وشروطها.. فإذا توفرت كل تلك الشروط، سترحمون حتماً.. لكن إذا لم تتوفر تلك الشروط، لعله يرحم هذا الشخص، أي بلحاظ حال هذا الطرف، وليس بلحاظ الله، وبتعبير آخر: (لَعَلَّكُمْ )َ هذه تعود للعبد وليس للمولى.

وبعبارة أخرى: لا تحتم على الله الرحمة لو قُرء القرآن فاستمعت له بدقة وإمعان، إذ ما أدرك ما الذي فعلت أو ستفعل بعدها؟ مما سيحبط الأجر ويبعد الرحمة. ومما يوضح ذلك أن (العمل) والالتزام بتعاليم القرآن، من الشروط، فلو استمع الإنسان للقرآن وأوامره ونواهيه وأنصت ثم خالف وعصى فهل سيُرحم؟

يبادل القرآن بديوان يزيد؟

السيد الوالد (قدس سره)[5] كان ينقل هذه القصة: كان هنالك رجل يبدو من الصالحين، وكان ملتزماً بقراءة القرآن الكريم، تلاوته، تجويده، والتدبر فيه، هذا الإنسان بعد فترة وجدوه قد انقلب تماماً، يكره -أعاذنا الله من ذلك - قراءة القرآن حتى في شهر رمضان، لا يتحمل حتى أن يرى آية من القرآن الكريم.. رغم إنه كان يعيش في جو ديني وكان في إحدى البلاد المقدسة، سئل لماذا؟

تهرب من الإجابة وقال: على أي تقدير ما عندي رغبة في الجواب.. ومضى يوم، يومان، وثلاثة.. وأصدقائه يلحون عليه بالسؤال.. ويطالبونه بالجواب.

وأخيراً قال: كنتُ حسب ما تعلمون محباً للقرآن الكريم، أطالعه، أرتله، أجوده، ولكن ذات يوم وكنت في (الحج) وأنا أحمل معي نسخة من القرآن الكريم، في الطريق وجدتُ شخصاً يبيع بعض الكتب في بسطة متواضعة وكان في تلك الكتب ديوان يزيد - وقد سمعت أن يزيد له ديوان وبه بعض الأشعار وهي من الناحية الظاهرية لها نوع من الجمال، وان كانت كلها ظلاماً في ظلام- قال: كنت راغباً جداً في أن أرى ديوان يزيد وما فيه، وما هي أشعاره؟.. فقلت للبائع (صاحب البسطة): بكم تبيعني ديوان يزيد؟

فقال: بهذا القرآن.. حيث رأى القرآن بيدي فرغب فيه قلت له: لا أبداً.. فأصرَّ عليَّ، وقال إذا لم تعطني القرآن، فأنا لا أعطيك الديوان.. فاستسلمت وعاوضت القرآن، بديوان يزيد ويا للأسى ويا للأسف إذ قد غضب الله علي فوراً، ومن تلك اللحظة سُلِبَ مني التوفيق تماماً. وشعرت بانعدام الرغبة لدي في قراءة القرآن الكريم بالمرة، بل أشعر بأن هناك حاجزاً بيني وبين القرآن أعاذنا الله وإياكم من ذلك وأشباهه.

هذه قصتنا...

كنت أفكر مع نفسي في هذه القصة، وأنها ليست قصة ذاك الإنسان المخذول فقط.. بل هي قصة الكثير منّا، فعندما يقرأ قارئ ما القرآن الكريم وأنا أشرّقُ وأغرّبُ، وأسرح بذهني هنا وهناك، فما هو الفرق بيننا وبين ذلك (المخذول) إذن؟ ذاك باع القرآن بديوان يزيد، وأنا أبيع كلام الله سبحانه وتعالى بحديثي العادي مع هذا الصديق حول السوق، أو حول المرض، أو حتى حول مسألة فقهية!

(وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ(.

والحاصل: إن الإنسان إذا استمع للقرآن الكريم وأنصت له حقيقة فانه سيكون محطة لرحمة الله سبحانه وتعالى، والعكس بالعكس تماماً.

(الولاية) من شروط (الرحمة)

ومن الشروط في هطول أمطار الرحمة الإلهية: ولاية أهل البيت (عليهم الصلاة وأزكى السلام)، إذ يقول رسول الله  (صلى الله عليه وآله وسلم)

 في حديث أم سلمة، والحديث متواتر من طرق الفريقين: (علي مع القرآن والقرآن مع علي لا يفترقان حتى يردا علي الحوض).[6]

والرواية بهذا المضمون مذكورة وبصور عديدة في كتب الحديث.. فـ(علي مع القرآن) ماذا يعني؟ وما مفاد هذا الحديث؟ (علي مع القرآن والقرآن مع علي) يعني إذا أبعدتَ علياً (عليه السلام) عن القرآن فقد ابتعدتَ أنتَ عن القرآن.. وإذا لم تتعرف على القرآن عن طريق علي وأهل بيته الأطهار (عليهم السلام) فأنت غريب عن القرآن وفهمه.

أوَليس الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)

 قد قال: (أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد المدينة والحكمة فليأتها من بابها)؟ وأي علوم النبي أعظم من علمه بالقرآن الكريم، فلو أردت (علم القرآن) فعليك بالإتيان من باب مدينة علم الرسول، قال تعالى[7] وكلام النبي  (صلى الله عليه وآله وسلم)

 دقيق جداً، (علي مع القرآن والقرآن مع علي لا يفترقان حتى يردا عليَّ الحوض).. فمن ابتعد عن علي وسائر الأئمة الأطهار (عليهم السلام)

 فقد ابتعد عن القرآن قطعاً لأنهما متلازمان بنص كلام الرسول  (صلى الله عليه وآله وسلم) فلا رحمة إلهية تشمله على الإطلاق، ومن ابتعد عن تفسيرهم للقرآن الكريم وبيانهم لشأن النزول والعام والخاص والمطلق والمقيد والناسخ والمنسوخ، فقد ابتعد عن القرآن الكريم وابتعد بالتالي عن رحمة الله تعالى.

(الطريقية) للإنصات للقرآن الكريم

إن التأمل في الآية الشريفة، بعد ضمها لسائر الآيات الكريمة كقوله تعالى {ﯟ ﯠ}.

والروايات كـ(رب تال للقرآن والقرآن يلعنه)[8]، وبشهادة العقل والارتكاز، يكشف لنا أن (الاستماع للقرآن الكريم والإنصات له) قد أخذ على نحو (الطريقية) للاعتقاد به فيما من شأنه الاعتقاد والعمل به فيما من شأنه العمل لا (الموضوعية).

فإن الأمر بـ(الاستماع) لنصائح المولى وإرشاداته وأوامره ونواهيه، يعني عرفاً وعقلاً الأمر بالعمل بما استمع له، لا صرف الاستماع بدعوى التبرك به دون عقد قلب واعتقاد ولا عمل وذلك وجهٌ هام لـ(رب تال للقرآن والقرآن يلعنه).

نعم، للاستماع للقرآن (مصلحة سلوكية) وفوائد و(أثر وضعي)، فإنه يبعث السكينة والاطمئنان في القلب، كما أنه يعد الإنسان للعمل، كما أنه يطيل العمر، ويزيد التوفيق، ويزيد في الرزق، وغير ذلك وكل ذلك بنحو الاقتضاء لا العلية كما هو واضح.

وإن الإنسان بالاستماع للقرآن يحرز بعض تلك الفوائد وإن لم يعمل بالمضمون إلا أنه سيخسر أكبر فائدة في ما إذا ترك العمل بمضامين القرآن نهائياً ولم يتب وهي: رضى الله ورضوانه والجنة، وسيكسب أكبر إثم وهو المخالفة عن علم وعمد.

كما أن الإنسان بالاستماع للقرآن الكريم والإنصات له، يكتشف الكثير الكثير جداً من الحقائق التكوينية والتشريعية، ومن الدروس والعبرة ومن سُبُل السعادة والفلاح والانتصار سواء على صعيد الحياة الشخصية أم العائلية، أم الحياة الاجتماعية العامة، سواء في البعد السياسي أم الاقتصادي أم الحقوقي أم غيره.

فإذا جعل الإنسان ديدنه (الاستماع للقرآن الكريم والإنصات له) والتدبر فيه بشروط التدبر فإنه سيستلهم ما لا يحصى من (الدروس) و(العبر) و(المواعظ) وستنكشف له الكثير من (الآفاق) و(الأبعاد) و(العلوم) الدنيوية والأخروية وهذا ما حاولنا بجهد متواضع أن نتمسك به في هذه السلسة من البحوث والتي أسميناها (دروس في التفسير والتدبر) والله الهادي العاصم وهو المستعان.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لكي نكون من المستمعين والمنصتين للقرآن الكريم ومن الذين يرحمهم الله برحمته في الدنيا والآخرة إنه سميع الدعاء، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

 ........................................................

* من مقدمة كتاب بحوث في العقيدة والسلوك

الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر و التوزيع

وهو مجموعة من البحوث والدروس الهادفة التي تتوخى الاسترشاد بالقرآن الكريم للتعرف على الحقائق (التكوينية والتشريعية) ولا صلاح المجتمع وصولا والى السعادة الدنيوية والأخروية، وللنهوض بالفرد والأسرة والأمة. وقد ألقاها آية الله السيد مرتضى الشيرازي على جمع من علماء وفضلاء الحوزة العلمية الزينبية ليالي الخميس طوال العام الدراسي.

.....................................

[1] الأعراف: 204.

 [2] وسائل الشيعة للحر العاملي: ج6، ص192.

 [3] وهذه الرواية تدل على أن جمع القرآن تم في زمن الرسول الأعظم  (صلى الله عليه وآله وسلم)  إضافة إلى روايات أخرى وأدلة أخرى ذكرها الإمام الشيرازي في كتاب: متى جمع القرآن؟

 [4] فإن جملة الجزاء: «فاستمعوا له» مترتبة على «قراءة القرآن» و«قرئ القرآن» وهي مطلقة تشمل كلتا الحالتين والانصراف لو كان فبدوي.

 [5] سماحة آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي ( قدس سره)..

 [6] بحار الأنوار للعلامة المجلسي : ج22، ص223..عن آمالي الشيخ الطوسي:ص294..

 [7] البقرة: 189.

 [8] بحار الأنوار للمجلسي: ج89، ص184، ح19.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 30/كانون الثاني/2010 - 14/صفر/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م