هل تحولت الأحزاب الفلسطينية لعبء على القضية الوطنية؟ ليس سؤالا
تشكيكيا ولكنه دعوة للنظر في دور وأداء الأحزاب والفصائل الفلسطينية في
الفترة الأخيرة. ما هو موقعها في المشهد السياسي الفلسطيني ؟وما مدى
مسؤوليتها عما يجري من خراب معمم للمشروع الوطني وإنغلاق أفق الخيارات
الاستراتيجية التي يقولون بها؟.
سؤال يفرض نفسه ونحن نشاهد هيمنة الأحزاب السياسية على المشهد
السياسي مع غياب شبه كلي للمستقلين أو لجماعات مستقلة، ودون أن نلمس
تقدما في إنجاز المشروع الوطني لا كمشروع تحرر وطني ولا كمشروع بناء
دولة. يؤسفنا القول إن هذا الحضور المكثف للاحزاب أو الفصائل لم يعد
يشكل ظاهرة صحية وضرورة وطنية كما كان عليه الأمر بداية ظهورها،بسبب
غياب استقلالية القرار عن غالبية هذه الاحزاب والتناقض الحاد بين
الشعارات التي ترفعها وواقع ممارستها،الأمر الذي يستدعي دراسة متأنية
لهذه الظاهرة.
لا غرو أن الظاهرة الحزبية قديمة في الحياة السياسية الفلسطينية حيث
تعود لعشرينيات القرن الماضي وهي متواصلة منذ ذاك الوقت مع إختلاف في
الايديولوجيا ووسائل وساحات العمل، وفي جميع المراحل وساحات العمل
تميزت الظاهرة الحزبية بالسمات أو الخصائص التالية:
1: لعبت دورا في استنهاض الشعور الوطني والحالة الوطنية بشكل عام في
الوطن والشتات في بداية ظهورها في الستينيات من القرض الماضي،من خلال
نهجها االمسلح والسياسي وتحريض الشعب ضد المشاريع المتعارضة مع حقوقه
الوطنية.
2: قوة تأثير التدخلات العربية والإقليمية في تشكلها حتى أن بعض هذه
الأحزاب أقرب لأذرع وامتداد لاحزاب وحركات بل احيانا لأجهزة مخابرات
عربية وإسلامية مما هي احزاب وطنية.
3: تداخل العمل العسكري مع العمل السياسي،حتى أن بعضها أقرب
للجماعات المسلحة منها للاحزاب كما يعرفها علم السياسة.
4: الهدف المشترك المعلن لجميع الاحزاب هو محاربة إسرائيل والسعي
للاستقلال والتحرر.
5: بالرغم من تباعد هدف الحرية والاستقلال بل وتراجع الحالة
السياسية بشكل عام،إلا أن الظاهرة الحزبية استمرت بل وتتعاظم والأخطر
من ذلك تماهيها وتعايشها مع كل حالة نكوص وتراجع، حتى باتت وكأنها هدف
بحد ذاته.
6 : غياب التمايز ما بين أحزاب السلطة واحزاب المعارضة،فكلها مشاركة
أحزاب سلطة أو مشاركة فيها بشكل أو آخر.
7: غلبة الدافع الوظيفي للانتماء لحزب عند غالبية الأحزب على حساب
دافع الانتماء الايديولوجي والعقدي،الأمر الذي يضعف قوة التماسك داخلها.
8: التسطيح الفكري والتباس أهداف الأحزاب،بحيث بات المراقب لا يعرف
بالضبط ما هو فكر هذا الحزب أو ذاك وما اهدافة واستراتيجيته؟.
سيكون من الظلم أن نلوم الأحزاب لانها لم تنجز الاستقلال لأننا ندرك
قوة الخصم والتعقيدات الإقليمية والدولية المميزة للصراع في المنطقة،
ومع عدم تجاهل الدور التعبوي للاحزاب،إلا أننا لو سألنا الأحزاب
والحركات السياسية الفلسطينية الراهنة ماذا أنجزت من اجل القضية
الوطنية لتسابق كل منها بالحديث عن عدد الشهداء والأسرى والجرحى الذين
قدمهم الحزب من اجل فلسطين،أو ردد أنشودة أنه لم يتخل عن الثوابت
والمرجعيات، مع اختلافهم حول مفهوم الثوابت والمرجعيات.
مع كامل الاحترام والتقدير لقوافل الشهداء الذين سقطوا على درب
الحرية ومن أجل قضية آمنوا بعدالتها،فالواقع يقول إن الحصيلة وطنيا بعد
عقود من العمل الحزبي والفصائلي بكل تشكلاته الأيديولوجية: أرض أقل وحق
أقل وكرامة أقل وأمل يتبدد وحالة من اليأس والإحباط تجعل أغلبية الشباب
يفكرون بالهجرة من ما يفترض أنه وطنهم،الحصيلة هي الانتقال من المطالبة
بحق العودة والتوق للعودة حتى في ظل الاحتلال إلى المطالبة بحق الهجرة
من الوطن وخصوصا من قطاع غزة الذي خرج منه جيش الاحتلال !.
أما تشكيل حكومات وتقاسم مغانم سلطة فهذه ليست مكتسبات وطنية. كان
من الممكن ألا تكون الصورة بهذه السلبية أو لا تكون الحصيلة مبعثا
للإحباط واليأس، لو كان الخلل ناتجا فقط عن اختلال موازين القوى مع
العدو وتخلي من يُفترض أنهم أخوة وأصدقاء وشركاء لنا في المصير القومي
والانتماء الإسلامي عن واجبهم، وهو أمر حاصل،لو كانت صيرورة الحال لسوء
الحال الذي نحن فيه يعود فقط للعدو وممارساته وتحالفاته وللمحيط
الإقليمي لهان الأمر، بل وكان مبعث فخر للشعب وباعثا على مزيد من السير
في نفس الطريق ولكان الشعب على استعداد لتقديم المزيد من التضحيات، فلا
يمكن أن ننتظر من العدو إلا كل إرهاب وقمع،ولكن الواقع يقول بأن أخطاء
داخلية لعبت دورا كبيرا في الخلل الحاصل وفي تمكين العدو من تحقيق
أهدافه سواء على مستوى إفشال مشروع السلام الفلسطيني أو محاصرة خيار
المقاومة أو إحداث الانقسام والفتنة الداخلية أو تكثيف الاستيطان
واستكمال تهويد القدس.
لا تقتصر خطورة الأمر عند هذا الحد بل تتجاوزه لما هو اخطر،فبدلا من
أن تعترف الأحزاب الفلسطينية المأزومة بأخطائها وتفسح المجال لآخرين أو
على الأقل تقوم بمراجعة نقدية شمولية تراجع فيها مسيرتها فتصحح ما أعوج
من سلوك وتقَوِّمَ ما ثبت فشله من نهج وتحاسب حيث تجب المحاسبة، بدلا
من ذلك، تمارس اليوم سياسة الهروب للأمام بطرح خيارات لا واقعية أو
بتحميل كل طرف الطرف الآخر مسؤولية ما يجري،هذه النخب والأحزاب و
بسياسة الهروب للأمام التي تنتهجها تريد أن تبرئ نفسها وتهيئ الشعب
ليقبل بتسيدها عليه مجددا في ظل الخراب القائم ولتسوقه نحو عبثية
جديدة،عبثية قد تأخذ اسم (كل الخيارات مفتوحة) من طرف نفس النخبة بل
نفس الشخصيات التي قادت عملية المفاوضات ثماني عشر سنة تحت شعار (الحياة
مفاوضات) بما مكن العدو من تكثيف مشروعه الاستيطاني والتغطية على
جرائمه، أو عبثية التلويح بشعار المقاومة والانتفاضة من خلال تطوير
حماس للصواريخ وتلويحها بالاستعداد لتحقيق نصر جديد إن حاولت إسرائيل
دخول قطاع غزة،وكأن حماس حققت بالفعل نصرا في العدوان الأخير وفي كل
نهجها المسلح السابق،وكأن غزة أكثر قدسية من القدس بحيث لا تجوز
المقاومة ولا تُستعمل الصواريخ إلا دفاعا عن الحكومة في غزة،
لا يندرج نقدنا للاحزاب في إطار التبشير بقوى ونخب جديدة قادمة
قريبا، فلا يبدو في الأفق إمكانية ظهور قوى جديدة، ويبدو انه غير مسموح
بظهور هذه القوى إلا إن كانت بسقف سياسي أقل. هدفنا رد الاعتبار لمشروع
وطني تحرري أطاحت به المفاوضات العبثية والمقاومة العبثية والصراعات
الداخلية والمؤامرات الإقليمية بالإضافة للعدوان الصهيوني المستمر،
مشروع لا يستمد مبررات ومشروعية وجوده من النخب السياسية لأنه ليس
تجسيدا إرادويا لهذه النخب،ولا يستمد مشروعيته من محصلة موازين قوى
إقليمية أو دولية، فهذه فاعلة ولا شك في التأثير على استراتيجياته
وتحديد تخوم تحالفاته، ولكنها لم تمنحه شرعية الوجود ولا تستطيع أن
تلغي وجوده.
إنه مشروع تحرر وطني يستمد مبررات وشرعية وجوده من عدالة القضية
الوطنية الفلسطينية وهي عدالة مستمدة من التاريخ ومن اعتراف الشرعية
الدولية بالقضية الفلسطينية كقضية تقرير مصير سياسي لشعب خاضع للاحتلال،
مشروع تحرر وطني يستمد مبررات وشرعية وجوده من واقع وجود شعب فلسطيني
قوامه أكثر من عشرة ملايين نسمة بما يميز هذا الشعب من ثقافة وهوية
وانتماء للأرض لم تستطع كل سياسات العدو من تغييبها. هذا معناه أن
المأزق والخلل هو مأزق نخبة وأحزاب وليس مأزق شعب عمره أكثر من أربع
آلاف سنة لم تستطع كل جحافل الإمبراطوريات وتداول أشكال الهيمنة من شطب
اسم فلسطين أو تذويبه،وهذا هو مصدر فخر الشعب الفلسطيني ومصدر قلق
الكيان الصهيوني.
شعب، بهذا العمق التاريخي، وقضية بهذه العدالة التي يتزايد اعتراف
العالم بها،يجب أن لا يُعلق مصيره ومصيرها بمصير أحزاب ونخب وبتعثراتها
ومآزقها،القضية الوطنية والمشروع الوطني لا يستمدا شرعيتهما، وجودا
وعدالة، من النخب والأحزاب، بل إن هذه الأخيرة هي التي تستمد شرعية
وجودها ومبررات استمرارها من قدرتها على تحمل مسؤولية القضية الوطنية
والسير بها نحو تحقيق الهدف وهو الحرية والاستقلال.
الأحزاب والنخب مجرد أدوات أو تشكيلات مؤقتة محدودة في تمثيلها
للشعب ومحدودة في قدرتها على التصرف بالثوابت الوطنية،فيما القضية
الوطنية كينونة وهوية تتسم بالاستمرارية والدوام. يجب أن تهجر القوى
السياسية الأنوية الحزبية والإيديولوجية التي تجعلها تعتقد وتريد من
الشعب أن يعتقد بأن التأييد الشعبي والرسمي الذي حظيت وتحظى به الآن
القضية عالميا يعود الفضل فيه للأحزاب،هذه الأنوية مرفوضة أخلاقيا
وواقعيا،العالم الخارجي لا يدعم القضية الفلسطينية بسبب تأييده لنهج
وإيديولوجية الأحزاب سواء حماس وقولها بالمقاومة وإطلاقها الصواريخ على
إسرائيل،أو فتح والمنظمة وقولهما بالسلام والتسوية. العالم يتعاطف مع
قضيتنا،وخصوصا بعد العدوان الأخير على غزة، لأنه يدرك بأنها قضية
عادلة،يتعاطف مع الشعب الفلسطيني لأنه شعب ضعيف يتعرض لعدوان همجي
بربري من دولة أكبر وأقوى منه عسكريا متحالفة مع دولة عظمى سيئة
السمعة-الولايات المتحدة الأمريكية-،ما حرك الرأي العام العالمي ليخرج
بمظاهرات ومسيرات ضد إسرائيل وحرك المنظمات الحقوقية والمنظمات الدولية
لتطالب بتقديم قادة إسرائيل للمحاكم الدولية... ليست صواريخ حماس ولا
مهارة المفاوض الفلسطيني، بل عدالة القضية ومعاناة الشعب.
بناء على ما سبق فلا الزعم بالشرعية التاريخية أو الشرعية الجهادية
أو الشرعية الدينية يمنح الأحزاب والنخب الحق بمصادرة القضية الوطنية
والاستحواذ عليها بعيدا عن ثوابت الأمة التي يتم صياغتها بالتوافق
الوطني،والطامة الكبرى في هذا السياق عندما تدعي القوى السياسية التي
يُفترض أنها حركات مقاومة، إنها تستمد شرعيتها من صناديق الانتخابات !
طامة كبرى لأنه لم يحدث في التاريخ أن استمدت حركة تحرر وطني شرعية
وجودها من انتخابات تجري في ظل الاحتلال،فالاحتلال بما هو نفي لحرية
وسيادة الشعب يتناقض مع الانتخابات الديمقراطية بما هي تجسيد لإرادة
الأمة،فأي سيادة وحرية تحوزها القوى التي تزعم بأنها تملك شرعية مستمدة
من صناديق الانتخابات في ظل الاحتلال؟أين الحرية والسيادة عند حركة
حماس: تنظيما وحكومة في قطاع غزة؟وأين الحرية والسيادة لحركة فتح
والسلطة في الضفة الغربية؟.
حركات التحرر الوطني تستمد شرعيتها من الشعب الذي يلتف حولها لأنه
يشعر بأنها تمثل أمانيه وأهدافه الوطنية وتقوده في معركة التحرر
الوطني،تستمد شرعيتها من مقاومتها للاحتلال بكل أشكال المقاومة،الشعب
الخاضع للاحتلال لا يضفي شرعية على حركة التحرر لأنها تمنحه راتبا
وتسهل عليه متطلبات الحياة اليومية في ظل الاحتلال. تحويل وظيفة حركات
التحرر من المقاومة الشعبية الواحدة والموحدة في ظل قيادة وحدة وطنية
إلى سلطة وحكومة تؤَّمِن رواتب ووظائف لمنتسبيها يشكل حرفا لطبيعة
مرحلة التحرر الوطني وأولوياتها بل خرقا للقانون الدولي الذي يحدد
ويضبط مسؤولية دولة الاحتلال وحقوق الشعب الخاضع للاحتلال،إن الوظيفة
التي تقوم بها السلطتان والحكومتان في غزة والقطاع وظيفة (غير وطنية)
لأنها تخفف عن دولة الاحتلال أعباء ومسؤوليات الاحتلال دون أن تمنح
الشعب الحرية والاستقلال ! وإن كان مقياس الحكم على شعبية وشرعية
التنظيمات والهيئات القائمة في مجتمع خاضع للاحتلال هو قدرتها على
تقديم خدمات للمواطنين،فإن أكبر حزب وأكثرها حضورا وتأثيرا هو (حزب جون
كنغ) حيث تقدم وكالة الغوث خدمات وأجور لحوالي 72% من سكان غزة
مثلا،وهناك تخوفات من دور سياسي لوكالة الغوث (أونروا) ومديرها جون كنغ
؟.
إن أرادت الأحزاب، أن تُقيِّم نفسها كحركات تحرر وطني وتختبر
شعبيتها ومدى تأييد الشعب لأيديولوجيتها ومبادئها وممارساتها،فلتوقِف
الرواتب والامتيازات والرشاوى التي تقدمها،آنذاك ستكتشف أن نسبة
المؤيدين الحقيقيين لها لن تزيد عن20%. لقد حولت الأحزاب والقوى والنخب
المسيطرة في فلسطين المناضلين والمجاهدين إلى موظفين ومرتزقة وسلطت
عليهم لعنة الراتب وبات الراتب بالنسبة لكثيرين منهم أهم من الوطن.
الحالة الطبيعية أن المناضلين الحقيقيين والشعب بمجمله ينتزع من قوت
غذاء أبنائه ليقدمه لحركات التحرر الحقيقية،الانتماء لحركات التحرر
وللثورة يقوم على العطاء والبذل وليس الأخذ والاسترزاق. أن تقوم من
يفترض أنها قوى تحرر وطني بتشكيل حكومات في ظل الاحتلال وتقدم رواتب
وامتيازات للشعب من مصادر تمويل خارجية لكل منها أجندة خاصة بها حتى
وإن كانت متعارضة،فهذا يطرح سؤالا حول ماذا تعني الوطنية والمشروع
الوطني واستقلالية القرار؟وماذا تعني حركة التحرر الوطني؟ لقد وقعت كل
الفصائل والحركات في مصيدة السلطة وأصابتها لعنة الراتب وهي لعنة ما
كانت تصيبها لو لم تكن نخبها مستعدة لهذا الإغراء.
ليس الهدف من هذا النقد،التشهير بالقوى السياسية القائمة،فمشكلة
الشعب مع قياداته واحزابه ضاربة في التاريخ ودوما كانت القيادات محل
نقد الشعب لأنها لم تكن في مستوى طموحاته،وليس أدل على النظرة الشعبية
للقيادات من قول الشاعر إبراهيم طوقان فيهم قبل النكبة:
انتم (المخلصون) للوطنية أنتم الحاملون عبء القضية!!
أنتم العاملون من غير قولٍ بارك الله في الزنود
القويّة!!
و (بيان) منكم يعادلُ جيشا بمعدّات زحفه الحربية
و (اجتماع) منكم يردّ علينا غابَر المجد من فتوح
أميّة
وخلاص البلاد صار على الباب وجاءت أعياده الوردية
ما جحدنا (أفضالكم)، غير أنّا لم تزل في نفوسنا أمنيّة:
في يدينا بقية من بلاد... فاستريحوا كيلا تطير البقية
* غزة
Ibrahem_ibrach@hotmail. com |