انهيار العقد الاجتماعي واحتماليات فشل المجتمع الأمريكي

 

شبكة النبأ: في عام 1981 تعرّضَ الحزب الحاكم في سنغافورة لصدمة كبيرة نتيجة هزيمته في الانتخابات لأول مرة منذ سنوات طويلة. وعند سؤاله عن سبب هذا الفشل، أجاب جوه كينج سوي أحد الآباء المؤسسين للحزب ومهندسي سياسته الاقتصادية: "إننا فشلنا لأننا لم ندرك إمكانية حدوث الفشل". بهذه العبارة يفتتح كيشور مهبوباني مقاله الذي يحمل عنوان "هل يمكن أن تفشل أمريكا؟”Can America Fail?، الذي نشر بدورية ويلسون، ليؤكد حقيقة أن الخطر الأكبر الذي يواجه المجتمع الأمريكي في الوقت الحالي هو عدم إدراكه لإمكانية حدوث الفشل.

وينطلق مهبوباني، الذي يشغل منصب عميد كلية "لي كوان يو للسياسات العامة" بالجامعة الوطنية بسنغافورة، من فرضية أساسية تتمثل في أن المجتمع الأمريكي يمكن أن يفشل إذا لم يدرك إمكانية حدوث مثل هذا الفشل. فالأزمات الهائلة التي تواجه المجتمع الأمريكي في الوقت الحالي هي، في جانب منها، نتاج مثل هذا العمى عن إمكانية حدوث كارثة محتملة. بحسب موقع تقرير واشنطن.

أسلوب خاطئ للتفكير الجم يُعدد الكاتب مظاهر فشل المجتمع الأمريكي، ويذكر أن الفشل البنيوي الأول systemic failure الذي يواجه الولايات المتحدة الأمريكية يتمثل في التفكير الجمعي groupthink وأبرز مثال على ذلك الأزمة المالية الحالية، فمن المدهش أن المجتمع الأمريكي قد قبل بالافتراضات الخاطئة من قبل خبراء الاقتصاد مثل آلان غرينسبان وروبرت روبين، والتي تقوم على أن الأسواق المالية غير الخاضعة للتنظيم،التي لا تتدخل الدولة في ضبطها unregulated financial markets من شأنها تحقيق النمو الاقتصادي وخدمة الصالح العام. رغم أن هدف هؤلاء الاقتصاديين الأساسي هو تعزيز ثرواتهم الشخصية وليس خدمة المصلحة العامة. ويتمثل الفشل الثاني الذي أصاب المجتمع الأمريكي، كما يذكر الكاتب، في تآكل مفهوم "المسئولية الفردية".

ولأن الأمريكيين يؤمنون إيمانًا راسخًا بأن مجتمعهم يرتكز على ثقافة المسئولية الفردية- بدلاً من ثقافة الاستحقاق culture of entitlement السائدة في دول الرفاهية في أوروبا- فإنهم لا يستطيعون إدراك كيف أن أفعالهم الفردية قد قوضت، بدلاً من أن تقوي مجتمعهم. ومع أن الأمريكيين يعتقدون أنهم يعطون بلدهم أكثر مما يأخذون منها، مستندين في ذلك على مقولة الرئيس جون كينيدي الشهيرة: "لا تسأل عمَّا يمكن أن تفعله بلدك من أجلك، ولكن اسأل عمَّا يمكنك القيام به لبلدك"، فإن الواقع يشير إلى عكس ذلك. فبقطع النظر عن بضع سنوات لإدارة كلينتون، تعاني الولايات المتحدة من عجز يكاد يكون مزمنًا في الميزانية الاتحادية، ويتحمل الجمهوريون المسئولية الأكبر عن هذا الأمر مقارنة بالديمقراطيين. وخلفت إدارة بوش الابن دينًا وصل إلى أكثر من 10 تريليون دولار، مقارنة بـ 5.7 تريليون دولار خلفتها إدارة الرئيس كلينتون.

وبدلاً من التحرك لفعل شيء، اقتصر دور الأمريكيين على ترك قادتهم يصلون من أجل استمرار القادة الصينيين واليابانيين في شراء سندات الخزانة الأمريكية. وإضافة لما سبق فقد قوضت سياسات تخفيض الضرائب من المسئولية الفردية، فلا يوجد مرشح لأي منصب سياسي في الولايات المتحدة يؤيد فرض مزيدٍ من الضرائب، كما لا يجرؤ أي سياسي أمريكي، بما في ذلك الرئيس أوباما، على قول الحقيقة: وهي أن المجتمع الحديث لا يمكن أن يعمل دون ضرائب كبيرة. وتدل الطريقة التي يتعامل بها الأمريكيون مع قضية الضرائب، حسبما يذكر الكاتب، إلى وجود تناقض بين اعتقاد الأمريكيين أن مجتمعهم يرتكز على مبدأ المسئولية الفردية وبين الواقع الذي تطغى عليه ثقافة اللامبالاة الفردية وغياب المسئولية.

سوء استخدام القوة الأمريكية

يشير الكاتب إلى أن عدم إدراك الأمريكيين كيف أن سوء استخدام القوة الأمريكية قد خلق كثيرًا من المشكلات التي تواجهها واشنطن حاليًا في الخارج يعتبر مظهرًا ثالثًا من مظاهر فشل المجتمع الأمريكي. ويدلل على ذلك بأحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، فالأمريكيون يعتقدون أنهم "ضحايا أبرياء لهجوم شرير من جانب أسامة بن لادن والقاعدة"، لكنهم تناسوا حقيقية أن أسامة بن لادن وتنظيم القاعدة هما أساسًا صنيعة أمريكية. وما حدث باختصار هو أن القوة التي صنعتها الولايات المتحدة قد ارتدت عليها.

إضافة إلى ذلك لم يتنبه الأمريكيون،- إلا في حالات نادرة- إلى الألم والمعاناة التي يكابدها الشعب الفلسطيني، والتعاطف الذي تثيره محنتهم لدى 1.2 مليار نسمة من المسلمين والذين يحملون واشنطن مسئولية الوضع الفلسطيني. والشرق الأوسط، كما يقول الكاتب، ليس سوى أحد المناطق العديدة التي تضررت من السياسات الأمريكية في العالم. فمن الإعانات التي تقدمها واشنطن لمزارعي القطن الأمريكيين، والتي أضرت بالمزارعين الأفارقة الفقراء، إلى غزو العراق، ومن معايير واشنطن المزدوجة بشأن قضية منع الانتشار النووي، إلى قرارها الانسحاب من بروتوكول كيوتو من دون توفير نهج بديل لظاهرة الاحتباس الحراري، تسبب السياسات الأمريكية ضررًا بالغًا لنحو 6.5 مليار نسمة من البشر. ويرجع الكاتب سبب عدم وعي صناع القرار الأمريكيين بهذه الحقيقة إلى الافتراض السائد لديهم أن المشكلات دائما ما تأتي من خارج الولايات المتحدة، وأن دور الأمريكيين يقتصر على وضع الحلول لهذه المشكلات. كما أنهم قد فقدوا القدرة على الاستماع للأصوات الأخرى على الكوكب، بل إنهم لا يدركون حقيقة أنهم لا يستمعون لهذه الأصوات. وإلى أن يبدءوا في الإصغاء لهذه الأصوات ستظل مشكلات الولايات المتحدة مع العالم قائمة، بحسب كلمات الكاتب.

فساد أسلوب الحكم

المظهر الرابع من مظاهر "فشل" المجتمع الأمريكي يتعلق بأسلوب الحكم، فمع أن الأمريكيين يفخرون دائمًا بديمقراطية بلادهم ورغم أن الولايات المتحدة تعتبر أنجح الديمقراطيات في العالم، فإن لديها أكبر نظام حكم فاسد في العالم، والسبب وراء عدم إدراك معظم الأمريكيين لهذه الحقيقة هو أن الفساد يكتسب الصفة القانونية. فرغم أن الأمريكيين يؤمنون أن حكومتهم "حكومة الشعب ومن الشعب ولأجل الشعب"، فإن الواقع أكثر تعقيدًا من ذلك، فهي تبدو "حكومة الشعب من جماعات المصالح ولأجل مصالح هذه الجماعات". وقد أشار الرئيس أوباما نفسه إلى هذا الفساد الذي يجتاح النظام السياسي الأمريكي في كتابه "جرأة الأمل" في عام 2006.

ويكمن التأثير الرئيسُ لهذا الفساد في أن المؤسسات الحكومية الأمريكية تعمل من أجل حماية المصالح الخاصة بدلاً من مصالح الجمهور. وكما كشفت الأزمة المالية بصورة لا لبس فيها، فإن الوكالات التنظيمية، مثل "لجنة الأوراق المالية والبورصات وهيئة تداول السلع الآجلة"، تم السيطرة عليها من قبل الصناعات التي من المفترض أن تخضع لتنظيم هذه الوكالات. وقلة من الأميركيين من يدركون مدى تأثير المصالح الخاصة على تقويض مصالحهم الوطنية سواء في الداخل والخارج.

انهيار العقد الاجتماعي

يعتبر خطر انهيار العقد الاجتماعي المظهر الخامس من مظاهر فشل المجتمع الأمريكي. فالافتراض العام السائد في الولايات المتحدة أن المجتمع يبقى قويًا ومتماسكًا طالما أن كل مواطن لديه فرصة متساوية للنجاح. ورغم أن الكاتب يعتبر فكرة الفرص المتساوية "أسطورة وطنية مفيدة"، فإنه يؤكد على أن اتساع الفجوة بين الأسطورة والحقيقة، يهدد بموت الأسطورة. ويدلل على اتساع الفجوة ببعض المؤشرات، منها الانخفاض الحاد في الحراك الاجتماعي داخل الولايات المتحدة، فقد أشار مشروع التنمية البشرية الأمريكية، في تقرير يحمل عنوان The Measure of America نشر عام 2008، إلى أن متوسط دخل أعلى 5% من الأسر الأمريكية في عام 2006 يصل إلى أقل من 5% بنحو 15 مرة (ما يعادل 168.170 دولار مقابل 11.352 دولار). كما لاحظ الباحثون أيضًا أن الحراك الاجتماعي أقل في الولايات المتحدة مقارنة بالدول الغنية الأخرى.

بل إن طفلاً فقيرًا يولد في ألمانيا أو فرنسا أو كندا أو أحد بلدان شمال أوروبا لديه فرصة أفضل في الانضمام للطبقة المتوسطة في مرحلة البلوغ من طفل أمريكي يولد في الظروف ذاتها. وتشير مؤشرات وزارة الزراعة الأمريكية إلى أن واحدًا من كل خمسة أطفال أمريكيين يعاني من الفقر، وأكثر من واحد من كل 13 طفلاً يعيش في فقر مدقع. كم أن احتمالية موت الأطفال الأمريكيين قبل مرور عام واحد على ولادتهم تزيد عن احتمالية موت نظرائهم اللاتينيين بمرتين. وإضافة لما سبق لا يحقق نظام التعليم المساواة كما أنه غير فعال، ورغم أن الولايات المتحدة تحتل المرتبة الثانية من حيث متوسط دخل الفرد من بين 177 دولة، فإنها تقع في المرتبة الـ 12 فيما يتعلق بالتنمية البشرية.

والأكثر خطورة، كما يقول الكاتب، أن نسبة كبيرة من الأمريكيين الذين نمت ثرواتهم في العقود الأخيرة لم يقدموا أي قيمة اقتصادية مضافة إلى مجتمعهم. بل إن سلوكهم يشير إلى تدهور واضح في القيم الأمريكية، والأهم من ذلك، تدهور العقد الاجتماعي الضمني بين الأغنياء وباقي المجتمع. وسيكون أمرًا قاتلاً لأمريكا إذا فقدت الطبقات الغنية ثقة المجتمع الأمريكي.

الخوف من العولمة

المظهر الأخير من مظاهر فشل المجتمع الأمريكي التي يرصدها الكاتب، يتمثل في الاستجابات الأمريكية للعولمة والتي تكشف عن "فشل هيكلي" للمجتمع الأمريكي. لفترة طويلة اعتقد الأمريكيون أنهم "أبطال العولمة"، لإيمانهم بأن اقتصادهم، الأكثر تنافسية في العالم، سوف ينتصر كلما قامت الدول بتخفيض الحواجز التجارية والجمركية. وكان هذا الاعتقاد بمثابة قوة دافعة لنظام التجارة العالمية نحو مزيد من الانفتاح.

أما اليوم، فإن المواطنين الأمريكيين يفقدون ثقتهم في قدرتهم على منافسة العمال الهنود والصينيين. كما يتبنى عديدٌ من السياسيين الأمريكيين السياسات الحمائية رغم أنهم يدعون أنهم ليسوا حمائيين. ومع ذلك القليل من الأمريكيين هم من يجرؤن على التحدث عن الحقيقة المتمثلة في أن الولايات المتحدة ليس بإمكانها التراجع عن العولمة، مع أنها ستضطر إلى إعادة هيكلة اقتصادها ومجتمعها لتكون قادرة على المنافسة، وسيكون عليها أن تعالج سياسات الرعاية الصحية غير الكفئة والمؤشرات المتدهورة لنظام التعليم العام، وكذلك الشركات الفاشلة اقتصاديا، فإذا لم يكن بوسع جنرال موتورز وفورد وكريسلر المنافسة، سيكون من الغباء حمايتهم، كما يقول الكاتب.

التضحية هي الحل

لكل مشكلة حل، كما يؤمن الأمريكيون، لكن المشكلات المؤلمة ليس لها حلول غير مؤلمة. لذا يشير الكاتب إلى أن القادة الأمريكيين عليهم، إذا أرادوا حل مشكلاتهم، أن يشددوا على كلمة هامة عند حديثهم إلى المواطنين الأمريكيين، وهي "التضحية"، فلا يوجد حلول لمشكلات أمريكا من غير التضحية. واعتمادًا على ذلك يطرح الكاتب مجموعة من الخطوات التي يمكن للولايات المتحدة القيام بها، وهي: أولاً: استعادة ثقة العالم عبر عدة آليات منها إتمام جولة الدوحة الخاصة بالتجارة العالمية، فأحد معوقات التوصل لاتفاق هو معارضة 25 ألف مزارع أمريكي من الأغنياء لإنهاء الدعم الذي تقدمه الحكومة الأمريكية.

ويحث الكاتب واشنطن على عدم الوقوف مع هؤلاء المزارعين، فمصالح 6.8 مليار نسمة سينتفعون من نجاح جولة الدوحة أهم من مصالح 25 ألف أمريكي. كما أن مزارعي القطن الأغنياء في الولايات المتحدة مستعدون للقيام بهذه التضحية، فقد تلقوا ما يقرب من 3 مليار دولار سنويًا خلال الثماني سنوات الماضية، وإذا لم يكن بوسعهم القيام بتضحية فمن يستطيع؟

ثانيًا: فرض ضريبة مقدارها دولار واحد على الجازولين، مع ضرورة أن تذهب أموال الضريبة (التي قد تصل إلى 100 مليار سنويًا) لتعزيز كفاءة الطاقة ومواجهة تحدي التغير المناخي. ورغم أن القادة الأمريكيين يعتبرون فرض هذه الضريبة بمثابة تضحية مؤلمة لن يقبل الأمريكيون القيام بها، يشير الكاتب إلى أنه من المدهش أن الأمريكيين لم يبدوا أي شكوى عندما كانوا يدفعون ضريبة تزيد عن 1 دولار للمملكة العربية السعودية والدول الأخرى المنتجة للنفط، عندما ارتفعت أسعار النفط في عام 2008.

ثالثًا: يجب أن يعلن كل سياسي أمريكي أن المصالح طويلة الأجل لبلاده أهم من مصالح وظيفته الشخصية. وكقادة يجب عليهم أن يكونوا مستعدين لتقديم التضحية السياسية عندما يخبرون المواطنين الأمريكيين بحقيقة أن الوقت قد حان لكي ينفقوا أقل ويعملوا أكثر. وينهي الكاتب مقاله بالإشارة إلى أن النظام السياسي الأمريكي أصبح رهينة للمصالح الخاصة، ويشبهه في حالته تلك بالقلب المريض الذي ليس أمامه إلا أحد خيارين: إما إجراء عملية جراحية كبرى أو الموت بالنوبة القلبية. ويؤكد على أن عدم إدراك المجتمع الأمريكي للحقيقة السابقة تعد مؤشرًا على أن المجتمع الأمريكي لا يدرك إمكانية تعرضه للفشل. ومكن الخطورة في ذلك أن الفشل يأتي إذا لم يدرك المرء إمكانية حدوثه.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 17/كانون الثاني/2010 - 1/صفر/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م