من مفاخر الفراعنة في الأزمنة الغابرة بناؤهم أهراماتهم العجيبة،
وبتقنيةٍ عاليةٍ لم يُكتَشَف جميع تفاصيلها وأسرارها حتى اليوم؛ وبذلك
سُجّل إنجازهم التاريخي كإحدى عجائب الدنيا السبع في التراث الإنساني.
وتسعى الحكومة المصرية اليوم إلى تسجيل أعظم (إنجازٍ) لها في الألفية
الثالثة من خلال بنائها أعظم جدار فولاذي بعمق 20 متراً تحت الأرض على
طول خطّ الحدود الممتدة لنحو 13 كيلومتراً الفاصل بين مدينة رفح وقطاع
غزّة المحاصر.
الفرق يكمن في أنّ الفراعنة السابقين كانوا يتطلّعون نحو الأعلى،
ويخاطبون الشمس بين طلوعها لحين غروبها؛ ولذا بنوا أهراماتهم فوق الأرض،
وعلى شكلٍ هرميٍ لعلهم يقتربون أكثر من الشمس، بينما الحكومة على عكس
ذلك تنظر إلى الأسفل... في ظلمات الأرض لعلّها تتمكّن من منع شياطين
الإنس والجنّ من التسلّل إلى أراضيها!!
والفرق الآخر يكمن في أنّ السابقين كانوا يعتمدون على عقولهم
وقدراتهم الذاتية من دون مساعدةٍ أجنبيةٍ، بينما يبدو اليوم أنّ
القدرات الذاتية للحكومة في مصر قد ضعفت؛ ولذا تستعين بالقدرات المالية
والتقنية الأجنبية ربما تعينها على تسجيل (إنجازها التاريخي) في سجلات
المشاريع الإنسانية والحضارية؟!
تقول الأميركية كارين أبو زيد المفوّضة العامّة لوكالة غوث وتشغيل
اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) إنّ الجدار الفولاذي “صُنِع في الولايات
المتحدة”، وإنّه أقوى من جدار (خط بارليف) الذي بنته دولة الاحتلال
على امتداد الضفة الشرقية لقناة السويس بعد احتلالها لشبه جزيرة سيناء
المصرية عام 1967. أمّا القيادي في حركة حماس (حماد الرقب) فقال أمام
المشاركين في مسيرة التنديد ببناء الحاجز المعدني: “كنّا ننتظر أن يأتي
الجيش المصري ليقف معنا، لكن بكلّ أسفٍ قدم الفولاذ نحو غزة”.
تعدّ مدينة الجيزة قبلةً للسيّاح من شتّى بقاع العالم، يشاهدون فيها
أعظم إنجازٍ في التاريخ الإنساني، وغداً ستصبح مدينة رفح الحدودية
قبلةً للسيّاح، يشاهدون فيها أسوأ مشروعٍ حكوميٍ عرفته مصر... فأين
الثرى من الثريّا؟ ولو سمح لكلّ سائح الاقتراب من الجدار المزمع إنشاؤه
ليكتب عليه انطباعه، ويعبّر عن شعوره وهو يسمع آهات وأنين شعبٍ محاصرٍ
خلف الحاجز لتحوّل الجدار الفولاذي هذا إلى أكبر وأطول صحيفةٍ حائطيةٍ
على وجه الأرض، ولأصبح قولاً وفعلاً الحائط المبكى؛ فمجرّد ذكر اسمه
تبكي القلوب، وتدمع العيون، وستظلّ الغصّة تعصر صدور الملايين من أحرار
العالم وهم يشاهدون معاناة مليون ونصف المليون من النّاس وهم محاصَرون،
ومحرومون من معظم المتطلّبات والضرورات الحياتية.
لله درّك يا غزّة الشموخ والإباء... لله درّك يا عزّة العرب
والمسلمين... ذنبك أنّك وقفت صامدة ولم ترفعي الراية البيضاء... ذنبك
أنّك لم تلهثي خلف المشاريع الاستسلامية والانهزامية، فقدّمت الغالي
والنفيس في ملحمة الكرامة... اتهموك بالعمالة تارةً، وبالامتداد للخط
الإخواني تارةً أخرى، لكنّك صمدت كالجبل الشامخ... حاصروك براً وبحراً
وجوًا ولا يزالون، وعلى رغم ذلك صمدت وصبرت، كما صبر النّبي أيوب عليه
السّلام. قبل ساعاتٍ من المذبحة وعدوك بعرش بلقيس إذا أعلنتِ الاستسلام
، وبعد العدوان وعدوك بتحويل أرضك إلى جنّة الله في الأرض إذا رضختِ
لشروط العدو والسلطة الفلسطينية. على رغم ذلك لم يغريك متاع الدنيا
وزينتها؛ ذلك ليس فقط لأنّها بالية وفانية، بل لأنّها كاذبة وملغّمة.
يا غزّة... يا فخر الأمة... اصبري وصابري ورابطي واتقي الله، إنّ الله
مع المتقين... وتيقّني بأنّ شعب مصر الغيور ومعه جميع الشعوب العربية
والإسلامية يرفضون جدار الحصار والإذلال الذي يفصل بينهم وبين أهلهم في
غزة... موقنين بأنّ دوام الحال من المحال، ومثلما انهار جدار برلين،
سوف ينهار جدار رفح الفولاذي. |