ان ما بين السنة والشيعة ليس خلافا فحسب ولا مجرد صراع بل انه دوامة
لا تجرف الجهد والوقت والمال فقط بل تزهق الأرواح وتسفك الدماء لأسباب
خارجية لا دخل للتسنن والتشيع فيها، ونحن نعلم بان الله سبحانه وتعالى
أراد الخلاف دون أن يأمر به ليمتحن الصابرين أو انه أراد الاختلاف دون
الخلاف من قبيل قوله تعالى (ولو شاء ربك لجعل الناس امة واحدة ولا
يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك/هود:11).
ولكنه تعالى قد علمنا أيضا أدب الخلاف وتحمل الاختلاف ودعا الى
التحاور البناء الذي يوصل الى نتيجة حضارية تخدم البشرية، ولكن ما
نعاني منه هو انعدام الرؤية وانعدام الوضوح، ولا ندري إن كان هناك حوار
أم لا، وهل هو حوار بين العقلاء والعقلاء أم انه جدال بين الجهلاء
والجهلاء أم انه صراع بين الجهلاء والعقلاء، ولا يشك عاقل بان معرفة
الآخر تسهل الحوار لاسيما وان التعايش ليس معضلة فكرية يصعب التصدي لها،
ولا يجدر بالبشر أن يكونوا كحيوانات الغابة يأكل القوي فيها الضعيف،
بعد أن أرسل الله تعالى أكثر من مئة ألف نبي بغية الارتقاء بالإنسان
الى مقامات سامية متقدمة تؤهله لعمارة الأرض وبناء الحضارات.
عندما نتأمل بعض المبادئ الميكافيلية في الصراع البشري البشري من
قبيل (فرق تسد ) و(الغاية تبرر الوسيلة) نجد لها معنى في الكثير من
الأحيان، وان افتعال الصراع على ارض الواقع لا يختلف عن افتعاله على
خشبة المسرح وفي التمثيليات والأفلام والروايات، لاشتراكهما في الإثارة
والتشويق، وان ابتكارات المؤلفين في هذا المجال هي نقل دقيق عن الواقع
المعاش، والشيء الذي صار يحكم العلاقة بين السنة والشيعة هو المنافسة
كتنافس شركات السيارات مثلا للسيطرة على السوق التي تحوي جميع أشكال
الصراع وصوره، وان أعطيت لها مسميات عقلائية لتخفيف الوطأة، والمنافسة
لها أجواء إذا احتدمت تجعل معرفة الفرق بين الجيد والردئ أمرا صعبا،
فالمنافسة صراع، والصراع مهنة إنسانية تحوي الكثير من الإسقاط
والاحتكار والجشع تحت أقنعة مهذبة كي لا يطالها القانون .
الطرف الثالث
إن الخلاف بين السنة والشيعة ليس خلافا بين طرفين، بل انه خلاف بين
أطراف ثلاثة والطرف الثالث هو الأقوى بكل الاعتبارات وكلما حاول
الطرفان المعنيان تهوين الأمور تدخل الطرف الثالث بأسلوب خفي وطريقة
ذكية ليصّعب الأمور مضيفا حالة من المهابة والقداسة على أمور قد لا
تستحق الوقوف عندها .
فالخلافات إما أن تكون حقيقية أو وهمية نحن نفتعلها لنقــــص في
قــــدراتنا الفكرية، أو هناك من يدفعنا إليها دفعا ونحن نُساق كما
تساق الإبل على إن حل الخلافات الوهمية أصعب بكثير من حل الخلافات
الحقيقية.
وكان من السهل علينا أن نلقي بالكثير من المسؤولية في خلافاتنا على
عاتق شخصيات وهمية أو حقيقية مثل ( عبد الله بن سبأ) وندين أعماله
وأفعاله ونتبرأ منه لكي يحدث حالة من التقارب بين الطرفين، ولكن هناك
في الأمة رجال لهم أثر وخطر ومكانة ومقام يقعون في الفخ من حيث لا
يشعرون، وقد جمعتني الصدف بأحدهم وهو المحقق الراحل السيد مرتضى
العسكري، وحاولت إقناعه بوجود عبد الله بن سبأ كـ (تيار) من باب
الاستدلال بالأثر على وجود المؤثر، إذ ليس من المعقول وجود الخلافات
الكبرى وعدم وجود من أوجدها وأثارها، ولكنه رحمه الله كان يتحمس لفكرته
وبشدة مع الإقرار بأن ما توصل اليه من نتائج مثيرة جدا، وليس لأحد الحق
أن يتهمني على اني ممن يقولون بان مذهب الشيعة هو من تأسيس بن سبأ فانا
لم اقل ذلك ولا أقوله ولكني اؤمن بان بن سبأ موجود على شكل شخص متخف أو
منظمة أو جماعة متخصصة في تأجيج الخلافات وافتعالها، وقد استطاع هذا
الخط الخفي إيصال الخلافات الى طريق اللاعودة بكل مكر ودهاء، ومع مرور
الوقت تعلم الطرفان افتعال الخلاف وهو جهل مطبق تمخضت عنه كوارث مدمرة
.
وكان الخوارج يستطيعون أن لا يخرجوا على إمامهم تفاديا لسفك الدماء
وكان مير حسين موسوي مثلا يستطيع أن لا يفتعل الخلاف ضد انتخاب الرئيس
احمدي نجاد وكان بوسع الشيخ القرضاوي أن لا يطلق تصريحات من شأنها
تأجيج الخلافات بين شقي الأمة في زمن أحوج ما تكون فيه الى التقارب
والتوحد، وليت الشيخ الكلباني لم يتحدث عن الشيعة في الزمن الخطأ
بالأسلوب الذي اوجد شرخا جديدا في جسد الأمة ولا يستطيع احد أن يدعي
بأنه كان مجبرا عليها، ومن اجبر شاعرا موغلا في الحداثة والرمزية مثل (أدونيس)
أن يتدخل في مسألة الشيعة والسنة وهو غير مضطر للخوض في هذا الموضوع،
ومثله فأن أكثرنا لسنا مضطرين للحديث عن الخلافات بين المذهبين .
ان الحياة محكومة بالتغيير وقوانين التطور، والتغيير سنة والتطوير
مطلوب حتى في النظرة نحو الماضي والتاريخ، فلماذا لم تتغير نظرتنا الى
الأحداث التاريخية ؟ وذلك لتخفيف وطأة بعض الأحداث لا لشيء إلا لكي
نعيش ونكمل المسيرة دون الجمود عند نقطة واحدة، فتلك امة قد خلت والله
وحده يحكم فيما كانوا فيه يختلفون، وعلينا الاستفادة من تلك الخلافات
لتجاوز شبيهاتها في المستقبل لأن المسيرة مسؤولية يتحملها جميع
الأطراف.
لقد اشتهر الخلاف السني الشيعي أكثر من الخلاف الروسي الأمريكي
وأكثر من الحروب المخابراتية بين الدول، وبين الألمانيتين وباكستان
الشرقية والغربية وكوريا الشمالية والجنوبية وغيرها والسبب في ذلك ليس
لأنه خلاف مخيف استهلك المال والجهد والأرواح بل لطول الفترة التي
استغرقها هذا الخلاف الذي وُصم بالقداسة وامتلاكه لمقومات الاستمرار،
مع ان تعريف الحروب المقدسة يحتاج الى تفصيل اقله أن يشنها الصالحون ضد
قوى الشر وحروب الصالحين يُراد منها دائما إنهاء الحروب وليس استمرارها
.
نحن لا ننكر بان الحوار المستمر واستمرار الحوار قد ينفع وقد يضـــر
ولكن إعادة بناء العلاقات بين السنة والشـــيعة ضمن مشروع كبير تتبناه
الحكومـــات ( السعودية والإيرانية والمصرية ) مـــثلا واستبعاد الطرف
الخفي الثالث قد تؤدي الى إعادة بناء العلاقات بين الإسلام والمسيحية
وبين الدول الإسلامية وأمريكا، فنحن مخيرون في السير نحو الائتلاف
ولسنا مجبرين على التمرغ في أوحال الاختلاف، وعلينا جميعا أن نحرص على
أن لا نكون ضحايا صناعة الغباء. |