قادة السياسة في العالم العربي... المصالح تطغى على المبادئ والقيم

 

شبكة النبأ: لا توجد عداوات دائمة ولا صداقات دائمة... بل توجد مصالح دائمة، هذا هو مبدأ من أراد الولوج في خضم السياسة وتحمل أوزارها.

مهما كلفت تلك الأوزار من خسائر ومحن وحزن، أو استلاب للكرامة والأرواح، فالسياسة بلا أخلاق كما هو معروف.

وأكثر من يعتمد هذا المبدأ تطبيقا والتزاما، بحسب مجريات الأمور هم القادة السياسيين في العالم العربي تحديدا، حيث تطغى المصالح على أقدس المبادئ الإنسانية، وتعرج فوق القيم والأعراف السماوية.

يقول ديفييد شينكر وهو مدير برنامج السياسة العربية في معهد واشنطن، في مقال له بعنوان نادي الآباء المقتولين، نشر مؤخرا في موقع معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى.

"سافر رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري إلى دمشق للإجتماع مع الرئيس السوري بشار الأسد، الرجل الذي يعتقد على نطاق واسع بأنه هو الذي أمر باغتيال والده رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري.

وكانت حادثة القتل عام 2005 قد أشعلت "ثورة الأرز"، حركة الإحتجاج الضخمة التي أدت إلى نهاية الإحتلال العسكري السوري للبنان الذي دام ثلاثين عاماً، وجلبت تحالف «14 آذار» الموالي للغرب إلى السلطة.

وعلى الرغم من أن تحالف «14 آذار» قد انتصر مرة أخرى على المعارضة التي يقودها «حزب الله» والمدعومة من قبل إيران وسوريا في الانتخابات التي جرت في حزيران/يونيو الماضي، إلا أن حلفاء واشنطن في بيروت يواجهون الآن أزمة. وتمثل زيارة الحريري إلى دمشق عودة النفوذ السوري إلى لبنان، وربما، نهاية "ثورة الأرز".

قبل ستة أشهر، كان يبدو أن تحالف «14 آذار» هو في موقف جيد في السياسة الداخلية اللبنانية.

فقد نجح التحالف المستضعف في هزم «حزب الله» في الإنتخابات، وكان يبدو بأنه في وضع جيد لتشكيل حكومة. بيد، استغرقت هذه العملية شهور صمدت خلالها المعارضة من أجل الحصول على تأثير كبير في مجلس الوزراء.

وفي النهاية، عندما رأى الحريري بأنه يواجه شبح قيام أعمال عنف من قبل «حزب الله»، رضخ رئيس الوزراء المعين للضغوط واستجاب لمطالب المعارضة.

لقد كان تركيب مجلس الوزراء حيث يملك «حزب الله» حق النقض على المبادرات الحكومية بمثابة هزيمة سياسية للحريري.

ويضيف ديفييد شينكر: ان الأسوأ من ذلك، فبمواجهته ضغوطاً مستمرة من قبل «حزب الله» وحلفائه، اضطر الحريري إلى تقديم تنازل مشابه ومقيت في صياغة البيان الوزاري، الذي يوجه سياسة إدارته المقبلة.

فبخلاف نص قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1701 الذي ينص على "نزع سلاح جميع المجموعات المسلحة في لبنان"، اضطر الحريري إلى قبول صيغة توافقية تضفي الشرعية على أسلحة «حزب الله».

لكن هناك خطوة مضرة بصورة أكثر، فخلال عملية تشكيل الحكومة، أُرغم الحريري على قبول الشرط الذي يحتم عليه الذهاب إلى دمشق للقاء الرئيس الأسد.

لقد شكل «الحج إلى دمشق» منذ فترة طويلة شرطاً مسبقاً لكبار المسؤولين اللبنانيين الذين من المفترض أن يتسلموا وظائفهم.

فخلال ثلاثين عاماً من الإحتلال السوري للبنان، كان السياسيون اللبنانيون، الذين عادة ما يعينهم نظام الأسد، يسافرون إلى دمشق لتلقي الأوامر وإثبات ولائهم للنظام السوري.

ويشير ديفييد شينكر الى انه في الآونة الأخيرة، ومنذ عام 2005 ونهاية الإحتلال السوري، يعمل وميض الزيارة بصورة رمزية على التأكيد مجدداً على القوة الديناميكية القائمة بين دمشق وبيروت.

قبل سنوات قليلة، كان من غير المتصور أن يجتمع سعد الحريري مع بشار الأسد. ففي عام 2005، اغتيل رفيق الحريري، والد سعد الحريري، في بيروت، ولا تزال سوريا، وحليفها «حزب الله» وفقاً لمجلة دير شبيجل، المتهمة الرئيسية في القضية.

وعلاوة على ذلك، فخلال مقابلة أجراها سعد الحريري بعد عامين من اغتيال والده، ادعى الحريري بأن دمشق، كانت مسؤولة عن اغتيال ستة من أعضاء البرلمان المنضوين تحت تحالفه «14 آذار».

وقال: "إننا نعلم جميعاً بأن النظام السوري هو الذي يقوم بذلك"، وأضاف، "يجب اتخاذ إجراء ضد سوريا، كعزلها، لجعل السوريون يفهمون أن قتل أعضاء من البرلمان [اللبناني] ستكون له عواقب بالنسبة لهم".

في عام 2005، قضت الأمم المتحدة بإنشاء محكمة دولية خاصة بلبنان لمحاكمة قتلة رفيق الحريري، وهي تعكف حالياً على إعداد لوائح اتهام.

وبالنظر إلى الحساسيات التي تنطوي عليها، فإنه من الواضح أنه لو كان الأمر يتعلق بالحريري، لكان يفضل الإنتظار حتى إصدار لوائح الاتهام قبل أن يقوم بزيارته إلى دمشق.

فليس لدى الحريري ميل كبير للإجتماع مع الأسد، الرجل الذي ُيفترض أنه كان قد أمر بقتل والده.

ويقوم رئيس الوزراء اللبناني بواجباته تحت الإكراه. ففي تشرين الأول/أكتوبر المنصرم، سافر الداعم العربي الرئيسي لسعد الحريري، عاهل السعودية الملك عبد الله، إلى سوريا، وهو أول اجتماع من نوعه في دمشق منذ عام 2005 .

وذكرت الأنباء بأنه قد توصل إلى اتفاق مع الرئيس الأسد للسماح بتشكيل حكومة لبنانية. وعلى الرغم من أنه قد تم قبول جميع مطالب سوريا وحلفاؤها في لبنان تقريباً والمتعلقة بتشكيل الوزارة اللبنانية، كما قال السفير السوري في واشنطن عماد مصطفى في الآونة الأخيرة مازحاً: "إنها بالضبط نوع الحكومة التي نعتقد أنها ينبغي أن تحكم لبنان"، إلا أن نظام الأسد أراد أن يقدَّم له تنازل إضافي آخر، قيام الحريري بزيارة دمشق. وقد وافقت السعودية على ذلك كهبة من أجل السلام.

ويؤكد ديفييد شينكر على ان الحريري ليس السياسي الوحيد فقط من تحالف «14 آذار» الذي تقرر أن يؤدي «الحج إلى دمشق».

فسوف يتبعه الزعيم الدرزي الغامض وليد جنبلاط. وقد كانت وجهات نظر جنبلاط المضادة لسوريا تتصدر عناوين الصحف بشكل روتيني في الفترة من 2005-2008.

فعلى سبيل المثال، خلال كلمة ألقاها أمام معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى في عام 2007، حذر جنبلاط صناع السياسة الأمريكية من طبيعة نظام الأسد، حيث قال "يجب أن لا يُخدع أحد بأن آلة القتل [السورية] ستتوقف".

ونظراً لعدم وجود عقوبات فعالة ضد النظام السوري، عرض جنبلاط توصيته الخاصة لمسار العمل الفعال، وعبر عن رأيه قائلاً، "إذا كان بإمكانك أن ترسل بعض السيارات المفخخة إلى دمشق، لماذا لا؟"

وخلال نفس الحديث في عام 2007، ناقش جنبلاط علاقته المأساوية والشخصية جداً مع نظام الأسد. حيث قال، "إني أعرف النظام السوري بشكل جيد ولديّ تجربة من التاريخ.

فبعد كل شيء، كان والدي قد عارض التدخل السوري في لبنان، ولهذا السبب قُتل". وبعد اغتيال كمال جنبلاط في عام 1977، اضطر وليد إلى إرضاء دمشق.

كما قال في وقت لاحق: "عندما قتل والدي من قبل السوريين، كنت مضطراً للوصول إلى حل وسط يدعو إلى السخرية من أجل إصلاح [العلاقات] لأنني كنت بحاجة إلى حلفاء ولذلك، بطبيعة الحال، صافحت يد الأسد. أعرف أنه قتل والدي، لكنني حاولت أن أنسى ذلك لبعض الوقت".

في أعقاب اغتيال الحريري عام 2005 واندلاع "ثورة الأرز"، اختلف جنبلاط مع دمشق. إلا أن جنبلاط، الذي أثبت على مدى عقود قدرة خارقة على توقع حدوث تحول في اتجاه الرياح السياسية، بدأ في الآونة الأخيرة ينأى بنفسه عن حلفائه في تحالف «14 آذار»، ويشير إلى رغبته في التقارب مع نظام الأسد.

وتتزامن استدارة جنبلاط نحو التقارب مع دمشق، مع عودة سوريا إلى لبنان والإنخفاض الملحوظ لإلتزام واشنطن تجاه تحالف «14 آذار».

ويعكس تحول جنبلاط أيضاً اعترافه بموقف الدروز الذي يزداد هشاشة. هذا، ولا يزيد عدد أفراد الطائفة الدرزية عن 200.000 شخص في جميع أنحاء العالم. وعندما قامت الميليشيا الشيعية باجتياح بيروت في أيار/مايو 2008، كان الدروز الفصيل الوحيد الذي قاوم العدوان العسكري الذي قام به «حزب الله»، حيث حاربوا وقتلوا حوالي إثنا عشر شخصاً من أعضاء ميليشيا «حزب الله» عندما كانوا يحاولون الدخول إلى جبال الشوف.

لكن اليوم إن جبال الشوف محاطة بالقرى التي يسيطر عليها «حزب الله» الشيعي، ومن المرجح بأن جنبلاط يضع في حساباته بأنه من الضروري التقليل من حدة التوترات مع كل من الميليشيات الشيعية وسوريا لحماية طائفته.

وتحقيقاً لهذه الغاية، وفي أعقاب الانتخابات التي جرت في حزيران/يونيو الماضي، اجتمع جنبلاط مع زعيم «حزب الله» حسن نصر الله. وبدأ أيضاً يناقش علناً موضوع قيامه بزيارة محتملة إلى دمشق.

وبالنسبة لجنبلاط، فالمسألة ليست ما إذا كان سيقوم بزيارة كهذه، ولكن متى سيقوم بها. إن حذره الوحيد هو أنه لن يكون الأول في اتخاذ هذه الخطوة.

ولكي لا يعادي الطائفة السنية في لبنان (التي يتزعمها الحريري) على نحو غير ملائم، يقول جنبلاط أنه "سيزور سوريا فقط بعد قيام رئيس الوزراء المكلف سعد الحريري بزيارته".

وهكذا، فإن سعد الحريري ووليد جنبلاط زعيما "ثورة الأرز"، اللذان من المؤكد أن والديهما قد قتلا على يد سوريا، يقومان بوفاء دمشق وتكريمها. وبالنسبة لجنبلاط، كان القرار عملياً.

أما الحريري، فقد اتخذ القرار تحت ضغوط شديدة، ومحفوفة بانعكاسات سياسية. وسوف ينظر أنصار الحريري من السنة اللبنانيين إلى هذه الزيارة ليس فقط بأنها مذلة بهم، إلا أنها ستُفهم على الأرجح كتعبير عن قيام الحريري بإعفاء دمشق عن مسؤوليتها عن اغتيال والده، وهو تصور من الممكن أن يقوض الدعم [القائم] للمحكمة الدولية.

وحاول الحريري التخفيف من الآثار السلبية [التي قد تنجم عن] زيارته لسوريا، لذلك قام بزيارة القاهرة والرياض قبل زيارته إلى دمشق، ولكن تلك الزيارات لن تخفف من حدة الأثر.

ونظراً للمرونة السورية، ربما كان من المتوقع حدوث هذا التطور. فبعد كل شيء، وعلى الرغم من عدم حدوث أي تغيير ملموس في السلوك السوري، واستمرار تلك البلاد في انتهاك قرارات مجلس الأمن الدولي حول لبنان، تبذل أوروبا جهوداً كبيرة لتحسين علاقاتها مع دمشق.

وفي تشرين الثاني/نوفمبر 2009، عرض الإتحاد الاوروبي على سوريا اتفاقية "الشراكة الاقتصادية"، بإزالة جميع بنود حقوق الإنسان بصورة أساسية من الإتفاق من أجل تلطيف شروط الصفقة لهذه الدولة السلطوية.

ويبدو أنه كان هناك تأثير أيضاً لزيادة الإنخراط الدبلوماسي والعسكري التي تقوم به واشنطن في دمشق، مما قلل من ثقة تحالف «14 آذار» بداعمه الأكثر تحمساً.

ويرى ديفييد شينكر أن المواربة السعودية كانت العامل الرئيسي في قرار قيادة تحالف «14 آذار» بالعودة إلى دمشق. لقد كانت الرياض قوة رائدة في محاولة ثني دمشق من لعب دورها التقليدي الخبيث في لبنان. ومع ذلك، يبدو في الآونة الأخيرة بأن السعودية قدمت تنازلات حول لبنان من أجل تحسين علاقاتها مع سوريا.

وليس من الواضح تماماً لماذا قامت الرياض بعقد صفقة مع دمشق، ولكن يبدو أن القرار جاء نتيجة المخاوف بشأن إيران.

وللتخفيف من حدة التهديد الذي تشكله إيران تحاول المملكة العربية السعودية إبعاد سوريا عن حليفتها الاستراتيجية خلال الـ 30 عاماً الأخيرة، وكانت "الدفعة" التي أعطتها السعودية "مقدماً" في هذه المناورة الطائشة هي حلفاؤها اللبنانييون.

ويتعلق هذا التغيير الجذري في سياستها تجاه سوريا، على الأقل جزئياً، بسبب إدراكها بقيام ضعف في موقف الولايات المتحدة تجاه إيران. وبغياب الثقة السعودية بأن واشنطن ستمنع إيران من أن تصبح نووية، تتحوط الرياض [تجاه المستقبل].

وبالنسبة إلى واشنطن ولتحالف «14 آذار»، بطبيعة الحال، لا يشكل التحول السعودي والبعثات الوشيكة التي تقوم بها القيادة العليا للتحالف إلى دمشق خبراً جيداً. وببساطة، يدل ذلك على واقع الأمر بأن لدى سوريا فرصة جديدة لتنشيط حياتها في لبنان.

وللأسف، فإن هذا التحالف المؤيد للغرب، والذي جاء إلى السلطة على صرخة الحفاظ على "استقلال" لبنان، يبدو أنه قد دار دائرة كاملة.

وبالفعل يتدفق السياسيون من تحالف «14 آذار» إلى دمشق لكي يقربوا أنفسهم من الرئيس الأسد، كما أن الرئيس اللبناني بدأ يصبح زائر روتيني في العاصمة السورية.

إن المأساة المستمرة في لبنان يمكن أن تنتهي في الأيام المقبلة، عندما يعقد نادي الآباء المقتولين اجتماعه المقبل في دمشق".

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 9/كانون الثاني/2010 - 23/محرم/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م