ليس سهلا ان يؤلف او يصنف المرء كتابا ما...اما ان يتوسع في عمله
الى تأليف موسوعة ما خاصة على شكل دائرة معارف عامة،فذلك ليس بالامر
الهين كما يتصوره البعض فمن الصعب جدا على الانسان خاصة في ظل عدم توفر
الامكانيات والظروف المناسبة ناهيك عن عمره القصير،في ان يقوم بترك
عملا معرفيا ضخما يمكن الاشارة اليه...
لقد كسر تلك القاعدة الكثير من العباقرة وخاصة ذوي الصبر الطويل على
تحمل المشاق النفسية والبدنية،وقد يكون من اصعبها تحمل الاذى في سبيل
اتمام العمل وانهائه بل وحتى بعد اتمامه فأنه لن يكون بمأمن من الاذى
والتي من اصعبها السخرية والاستهجان! خاصة دون مراعاة الدوافع والاهداف...
تلك هي الطبيعة البشرية والتي تحمل من الصفات السيئة ما تجعل الشياطين
تهرب من بشاعتها!...
ولكن التاريخ يحمل لنا صورا مشرقا في اعطاء اصحاب تلك الاعمال
الجليلة حقهم الطبيعي من القيمة المادية والمعنوية العالية،ولكن ذلك
ليس دائما! فأحيانا كثيرة يكون ذلك بعد رحيل صاحب العمل من هذه الدنيا
بفترة طويلة!ويكون على شكل اعادة الاعتبار اليه...والامثلة عديدة
منثورة في تاريخ الانسانية المليء بصفحات سوداء !...
بدأ تدوين المعارف منذ بداية التاريخ ونظرا لتوسع العلوم والمعارف
المختلفة، توسعت الاعمال التدوينية لتصبح على شكل موسوعات ضخمة في
مختلف العلوم والفنون والاداب،وبمرور الزمن تزايدت اعداد تلك الاعمال
الضخمة واصبحت من الكثرة الى درجة يصعب حفظها في مكان واحد!...
حرق المعارف المدونة:
لم تنجو تلك الموسوعات المعرفية كغيرها من الكتب المدونة من الاتلاف
والحرق! ومازالت تلك الصفة المشينة موجودة لحد الان في هذا العصر
الموصوف بعصر التقدم!...فكل نظام اذا اتى قام بأتلاف كل ما يتعلق
بالمرحلة التي سبقته التي تعارض مرتكزاته وخاصة التي تتعلق بمكونات
الشخصية السابقة!... وتلك الصفة القبيحة بقيت متوارثة وقد اشتهرت بعض
الوقائع الوحشية بها من قبيل اتلاف المغول للتراث المعرفي الانساني في
بغداد عند غزوها،وقبلها اتلاف صلاح الدين الايوبي لتراث الفاطميين في
مصر،واتلاف النازيين لتراث اليهود في اوروبا الى اخره من الامثلة
المشينة!...
وبالتالي فأن فقدان البشرية لتراثها بقي سائدا وعلى يد صانعها
الانسان!...من هذا المنطلق بقيت الحاجة الدائمة لتدوين المعارف
المختلفة بغية الحفاظ عليها من فقدانها،وقد برزت في العقود الاخيرة
ظاهرة تواجد الكثير من المراكز البحثية التي تقوم بعمل جماعي مشترك في
تأليف وتصنيف الكثير من الموسوعات ودوائر المعارف لخدمة الحضارة
الانسانية وكلا حسب عمله الذي يختلف بأختلاف الاشخاص والدول والظروف
بالطبع...
ولكن تبقى للعمل الفردي نكهته الخاصة في كونه عملا جبارا يستحق اعلى
المراتب من الرعاية والتقدير،ولكونه عملا خارج المألوف من القدرة
الطبيعية للانسان الذي تكون قدرته محدودة...ومهما كانت الاخطاء او
النواقص التي تواكب ذلك العمل وهو شيء طبيعي لكون الانسان غير معصوم
ويعمل في ظل ظروف قاهرة غالبا بغية انجاز تلك الاعمال الجبارة فانه
يستحق كل تقدير ودعم من قبل الاخرين...
لم يضعف العمل الموسوعي في عصرنا الحاضر بعد التقدم الكبير في
الوسائل التكنولوجية التي تساعد على انجاز تلك الاعمال خاصة تلك
المتعلقة بالتصنيف الذي يختلف عن التأليف الذي يكون اكثر صعوبة لكون
الاخير اكثر نتاجا لابداعات الانسان وابتكاراته،ولكن العمل التصنيفي لا
يخلو ايضا من صعوبات جمة! خاصة في العهود السابقة وفي ظل البحث المستمر
بين رفوف لاتنتهي من المخطوطات التي لم تطبع لحد الان رغم مرور الاف
السنين على وجود بعضها!...
اما اذا كان العمل جامعا بين التصنيف والتأليف فتلك المهمة تكون
صعبة جدا خاصة في ظل مراجعة وتحقيق وتبويب وتصنيف الكتب والمقالات
المطبوعة والمخطوطة والمسموعة مع تحليلها وشرحها وفق نظرة المؤلف التي
قد تكون مختلفة عنها،وعلى هذا الاساس يبقى نجاح تلك الاعمال مشروطا
بشرط الصبر على تحمل الصعاب البدنية والنفسية والتي تؤخر انجاز واتمام
تلك الاعمال التي تفوق احيانا قيمة الموسوعات الالكترونية الجماعية
والتي رغم قيمتها فأن العمل الجماعي يساعد مع توفر الوسائل التكنولوجية
المتقدمة على انجازه بأسرع وقت ممكن وطرحه في الشبكة الالكترونية
ومطابعها التابعة لها...
وفي حقول العلوم الدينية المختلفة،ترك لنا الفقهاء والباحثين الكثير
من الدوائر المعرفية التي انجزت خلال عقود طويلة من الزمن وبطريقة يجعل
الاخرون يعجبون من قدرة وتحمل مؤلفيها على انجاز تلك الاعمال
المختلفة،وتبرز هنا تفاسير القرآن الكريم وعلومه المختلفة في الصدارة
نظرا لتوسع تلك العلوم والتي تراكمت المعرفة بها خلال العصور المختلفة
وقد وصلت بعض التفاسير الى مايزيد عن ستين مجلدا !...
كذلك فأن علوم الفقه قد توسعت هي الاخرى في دوائر معرفية الى درجة
اصبح من الصعب جدا على الباحثين المختصين متابعتها فكيف بالناس
العاديين!وقد وصلت بعض الموسوعات الفقهية وخاصة التي تتناول معظم
الاراء وفق مختلف المدارس الفقهية ،الى مئات المجلدات كما هو معروف من
الامثلة المتداولة...
الموسوعة التدوينية الكبرى:
لا يقف النمو في حجم تلك الموسوعات على حد معين بل هو مستمر بتقدم
المعرفة وتراكمها الكمي والنوعي،ولذلك فأن الانسان في تقدم مستمر في
هذا المجال الا اذا قام الاشرار بإتلاف عمله لاسباب مختلفة!...
لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا!...من هي اكبر موسوعة معرفية مدونة
من خلال شخص واحد في التاريخ؟!...
الجواب على ذلك بسيط! هو: دائرة المعارف الحسينية....
لمؤلفها العلامة المجتهد الدكتور الشيخ محمد صادق محمد الكرباسي
(1947-) المقيم في لندن منذ عام 1986 والذي بدأ بعمله الضخم هذا في
محرم 1407ه الموافق 1987 اثناء تأثره بالشعائر الحسينية مما ولد لديه
الدافع الذاتي القديم على انجاز هذا العمل المعرفي الضخم الذي لم يسبقه
احد في ذلك كونه رائدا شاملا في جمع وشرح وتعليق وتحليل وتبويب كل ما
يتعلق بالامام الحسين(ع) ونهضته العملاقة وكذلك مايتعلق بأصحابه ومن
والاه ومنذ انطلاق الثورة ولحد عصرنا الحاضر ومن خلال جمع كل المعارف
وبمختلف انواعها المطبوعة والمخطوطة حتى وصل بعد حوالي عقدين من الزمن
الى نتيجة مذهلة في وصول عدد اجزاء تلك الموسوعة الكبرى الى مايفوق
ال650 مجلدا ضخما والعمل مستمر بدون توقف برغم ضآلة حجم الامكانيات
المتوفرة له!...
لقد كسرت تلك الموسوعة جميع الارقام القياسية بحجم ونوعية دوائر
المعارف المؤلفة وبرغم عجز المطابع عن طبعها جملة واحدة فقد تم لحد
الان(2009) طباعة عشر من اجزائها فقط!...ولكن لحسن الحظ وضع المؤلف
ومركزه البحثي موقعا الكترونيا في شبكة الانترنت يعرف بالمؤلف الذي
يعود نسبه الى مالك الاشتر احد اشهر اصحاب الامام علي (ع) واسرته
العلمية وبالموسوعة ومحتوياتها وما قيل عنها في متناول يد الجميع على
العنوان:
http://hcht.org/Ar_default.asp
لقد ترك ذلك العمل الجبار اثرا بالغا في نفوس العلماء ومحبي العلم
والمعرفة بالاضافة وبالاضافة الى مشاهير السياسة والادب وقد كانت تلك
الاشارات هي ابسط تقييم لذلك العمل المعرفي الكبير الذي لم يميز بين
بين الاجناس والعصور المختلفة وانما غرضه العام هو نشر كل ما يتعلق
بالتراث الحسيني الضخم...
ومن ابرز ماتناولته تلك الموسوعة الكبرى هو الادب الحسيني سواء نظما
ام شرحا ام ادراج سيرة الشعراء الذين تركوا ثروة ادبية هائلة في التراث
الحسيني وقد تجاوزت الاجزاء المتعلقة بذلك اكثر من 140 مجلدا !...
ان حفظ التراث الحسيني ومن مختلف جوانبه هو حفظ لتراث الانسانية
الخالد وهو يمثل بحق ثروة معرفية لاتقدر بثمن مادي او معنوي...وانجازها
بتلك الصورة الرائعة هو يمثل درسا بليغا لكل محبي العلم من خلال العمل
به والتي من ابرز مصاديقها هي الصدق والاخلاص والاصرار برغم المصاعب
والاخطار...وكذلك هي مثال محزن على عدم الاهتمام بالعباقرة والمبدعين
بل ومحاولة تصفيتهم الجسدية بعد تصفيتهم المعنوية،بينما نجد الامم
المتحضرة تتسابق فيما بينها ليس فقط في العناية بمبدعيها بل وفي دعوة
العقول الاجنبية للاستيطان في ارضها ومنحهم كل الامتيازات بغية
الاستفادة منهم في بناء حضارة انسانية شاملة لاتفرق بين البشر،بينما
تبقى الامم المتخلفة هي امم طاردة وقامعة لكل عقولها البارزة ومصادرة
ومحاصرة من يتجاوز الخطوط الحمراء!... |