شبكة النبأ: من الظواهر الخطيرة التي
رافقت المعطيات السياسية التي استجدت في الساحة العراقية بعد عام 2003
هي ظاهرة البيروقراطية في إدارة المؤسسات والدوائر الحكومية التي تهتم
بشؤون المواطنين إبتداء بالخدمات والتعليم والصحة والامن وليس انتهاء
بصفقات الاستثمار وما شابه.
فقد نما نزوع بيروقراطي بشكل مخيف واتخذ من الروتين مبادئ وبنودا
اجرائية يسير عليها في معالجة كل ما يمت بإدارة شؤون الناس من صلة،
فأثقل كاهل الدولة في نواح عديد وأفرز ظواهر أخرى لا تقل فداحة عنه،
فإذا كان النهج البيروقراطي هو الاصل والمنبع فقد تمخض عن تفرعات عديدة
كلها تصب في ما هو مؤسف ومؤذ واحيانا مدمر للهيكل الاجتماعي لعموم
العراقيين حاضرا (وهذا ما هو ملموس لمس اليد) ومسقبلا حيث التأسيس
الخاطئ يقول الى نتائج خاطئة قطعا.
فلقد انتج النهج البيروقراطي تضخما هائلا ومخيفا في الجهاز الاداري
للدولة العراقية الراهنة، كما نلاحظ ذلك في البطالة المقنعة التي
التهمت أغلب الموارد المتاحة بدلا من أن توظَف في مجالات الاستثمار
وتطوير القطاعات الانتاجية في الزراعة والصناعة او غيرها، كما اننا
بدأنا نلاحظ تناميا متواصلا للنزعة الاستهلاكية للمواطن العراقي حتى
تحوّل المجتمع برمته الى عنصر مستهلك مقابل نسبة انتاج تصل الى الصفر
في معظم المفاصل الانتاجية.
ولعلنا نلمس بوضوح سلسلة التعقيد الاداري والقانوني التي بدلا من ان
تصب في تيسير العمليات الادارية الفردية وتلك التي تتعلق بالانتاج
الكلي، نرى انها أصبحت جهة التعويق الاساسية في جميع حلقات الادارة
والانتاج معا، وبذلك أصبح الجهاز البيروقراطي الاداري عبئا على الدولة
بدلا من أن يكون عنصر مساعدة وتطوير لمفاصلها الانتاجية والادارية
وغيرها.
كما اننا حين نرصد الأنشطة المتعددة التي تمارسها الدوائر الحكومية
ضمن واجباتها سواء كانت ادارية او خدمية او قانونية او غيرها، فإننا
سنلاحظ نوعا من الوصاية الواضحة التي تُفرض على المواطن من قبل الكوادر
والعناصر البيروقراطية التي تقوم على ادارتها، لدرجة انها تقيد حرية
الناس في معظم الاحيان، ولهذا يأخذ دور هذه الاجهزة وأنشطتها المقيِّدة
بالتعاظم حتى يشكل عنصر تقييد للحكومة نفسها فتعجز عن اتخاذ القرارات
الاقتصادية او الادارية او حتى السياسية التي تبغي التغيير نحو الافضل
من أجل الصالح العام.
ولذلك فإن المراقب لا يخطأ حين يؤشر هذه الظاهرة التي أصبحت واضحة
بل وشائعة في أغلب المفاصل الادارية الحكومية كالدوائر والمؤسسات
الرسمية والاجهزة الامنية وغيرها وكذلك شائعة في مديريات الجنسية
والجوازات والبلديات والتعليم والصحة وما شابه، حيث باتت تعشش في
الهياكل الادارية لجميع هذه الدوائر والمؤسسات وتعيق أنشطتها وتجعل
منها عالة على الحكومة بدلا من أن تكون عنصرا مساعدا لها في تطوير
الانتاج والخدمات والتعليم والامن وغير ذلك من العلامات الصحية التي
تشير الى استقرار المجتمعات وسلامة نهجها الاداري والانتاجي والسياسي
وغير ذلك من الانشطة الحكومية المتعددة..
ولعل الاخطر في النهج الاداري البيروقراطي يكمن في صنع المجتمع
المستهلك غير المنتج في آن، فحين نسمع بصنع عدد من الوظائف للمواطن
الامريكي او الياباني او الصيني او غيره من الشعوب الاخرى، فهذا يعني
خلق فرصة انتاجية جديدة ولا يعني هدرا عشوائيا بأموال وايرادات الدولة
كما يحدث في العراق، فالموظف الذي يتقاضى أجرا على وظيفته لابد أن يكون
منتجا لكي يسهم بتعضيد الاقتصاد وتطويره، وليس كما يحدث لدينا في
العراق حيث معظم الوظائف، ما هي إلا اسقاط فرض، او شكل بلا مضمون، او
اجر من دون انتاج، ويمكن وصفها بدقة اكثر بطالة مقنعة تثقل كاهل الدولة
وتؤدي الى ترد متواصل للمجتمع عموما.
وهكذا يكون من الملزم للجهات المعنية الحكومية وغيرها أن تتنبّه
لهذه الظاهرة الخطرة، لا سيما الخبراء الاقتصاديون والمسؤولون عن
التخطيط الاداري للبلد، فالسكوت او التذرع بالحجج والتبريرات الواهية
لا يقود الى الحلول الناجعة، كما ان الصمت وغض النظر من قبل المعنيين
يعني مشاركة فعلية في مواصلة التردي الاداري والاقتصادي بل وفي جميع
المجالات والانشطة الحياتية الرسمية والفردية وغيرها.
ولعلنا لا نخطئ اذا قلنا ان من اهم اسباب الفساد الشائع راهنا في
مفاصل الادارة العراقية عموما يعود الى الشبكة الاخطبوطية البيروقراطية
التي تحكمها وتشل قدرتها على مسايرة العصر ومتطلباته المتجددة. |