كان الرئيس العراقي السابق صدام حسين مولعا بالتاريخ وقراءته، ولا
أظنه ولع مترف، إذ ترجمه في موارد عدة على المستوى الداخلي والخارجي،
ولذلك طال أمد حكمه (1968-2003م)، ولكن لما كان الظلم مرتعه وخيم، فقد
حاق به وصرعه.
وقراءة التاريخ، بغض النظر عن القارئ، ظالما كان أو مظلوما، هي سنّة
كونية وسجيّة فطرية لا مندوحة عنها لكل ذي بصر وبصيرة، لأن التاريخ في
كثير من صفحاته مرآة تعكس واقع الحال وإن اختلف شخوص مسرح الحياة، وكما
تعكس المرآة صورة المرء فيضبط وضعه وملبسه وهندامه، فإن التاريخ له أن
يضبط وضع كل ذي روح فرداً كان أو أمة إذا ما كانت القراءة واعية، وهي
خاضعة من حيث التأثر والتأثير لحجم الفهم وإدراك الواقع ومساحته.
أعتقد ومن خلال قراءتي للواقع العراقي أن تشكيل الهيئة الوطنية
العليا لاجتثاث البعث في 16/4/2003م، ومن ثم تعديله إلى الهيئة الوطنية
العليا للمساءلة والعدالة في 16/1/2008م، لم يكن موفقا، صحيح أن الهيئة
الأولى أقصت عددا من القيادات الحزبية والأمنية وأحالتهم على التقاعد
ولم تلجأ إلى تصفيتهم جسديا كما في أية حكومة جديدة تأتي على أنقاض
حكومة ظالمة، لكن قانون الاجتثاث كان عبئا كبيرا على الحكومات
المتعاقبة كما كان همّا كبيرا على الأسرة العراقية، لأن هيئة الاجتثاث
وإن كانت قد ميزت بين الحزبي الموالي طوعا والموالي كرها والموالي قهراً،
لكن أداءها يعتبر سلاحاً ذا حدين، فهو للحكومة من جانب وعليها من جانب
آخر، وضره أكثر من نفعه وإن بدت جرعاته مفيدة، فالمجتمع العراقي خلال
حكم صدام حسين انتزعت منه إرادته طوعا وكرها وقسرا، فأبسط عامل في
دائرة حكومية كان يشترط في توظيفه الانتماء الحزبي، ولم يسلم تلميذ
مدرسة أو طالب كلية من الانتماء للحزب وواجهته (الاتحاد الوطني لطلبة
العراق) إلا ما ندر وهم أندر من الكبريت الأحمر.
كان الإنتماء الحزبي في نظر النظام هي الوطنية بعينها، وهذا
الانتماء له واجباته، وأولاها التقارير الأسبوعية التي يفترض على
الحزبي توفيرها لمنظمة الحزب، وكما يعلم العراقيون أن التقارير ومعظمها
أمني تصطاد من يشم منه رائحة المعارضة، وبتعبير آخر أن النظام وباعتراف
الداني والقاصي جعل من الأسرة العراقية خلية أمنية يراقب بعضها بعضا،
ونتائج التقارير الوخيمة لا تميز بين تقرير طوعي وآخر كرهي وثالث قسري،
فمآلاتها واحدة تقود بمن ورد اسمه فيها إلى ما لا يحمد عقباه، وهذه
حقيقة لا ينبغي تغافلها أو التغاضي عنها، لأن التكابر على الحقيقة
ينتهي إلى نتائج غير سليمة وخطوات حل متعثرة، ويكفي أن جيش القدس لوحده
والذي أعده النظام البائد لمواجهة حرب محتملة مع الغرب كان تعداده نحو
سبعة ملايين عراقي، ناهيك عن الجيش النظامي والحرس الجمهوري والقوات
الخاصة وجيش النخوة وفدائيي صدام وأضرابهم. أي إن شعار صدام الذي أطلقه
في بداية حكمه عام 1979م والقائل: (إن كل مواطن عراقي شريف بعثي وإن لم
ينتم) أصبح بسلاح الإكراه والقسر حقيقة قائمة إذ كانت المواطنة والشرف
تعادل الإنتماء الفعلي لا الافتراضي، أي بحساب الأرقام أن في كل أسرة
بعثيا، كما إن في كل أسرة ضحية، سياسة أموية ما أحلكه، شهدنا مثلها في
مكة قبل فتحها عام 8 هـ واستحضرها نظام صدام حسين بكل تفاصيلها حتى صار
دم المظلوم موزعا على السواد الأعظم.
ولأن التاريخ مرآة، فهل من الحكمة غمض العين عن سياسة الرسول (ص) في
أهل مكة عند فتحها، وفتح الأخرى وتناسي قيمة "العفو عند المقدرة"!
ولأن التاريخ مرآة، أعتقد أن على حكومة المالكي أن تركل قانون
المساءلة والعدالة بدلا من تعديله عن قانون اجتثاث البعث، فركله ينسجم
كليا مع مشروع المصالحة الذي أطلقه بداية حكمه، فالاجتثاث يتعارض مع
المصالحة والمساءلة يخدش من صدقيتها.
وربما قائل يقول إن هذه المماثلة بين الحاضر والماضي فيها استغراق
كبير في عمق التاريخ ونحن أبناء اليوم؟
ولكن لماذا نقرأ التاريخ، ولماذا يدرس من المراحل الأولى حتى
الدراسات العليا؟
فلو لم يكن ناجحا لقضايانا لأهمله التربويون، فالتاريخ في عدد غير
قليل من صفحاته يقدم حلولا ناجحة لمشاكل مستحدثة، فهو أقرب إلى القياس
في أصول الفقه وإن اختلفت المدارس الفقهية بشأنه.
في اعتقادي إن حكومة المالكي وبالتحديد إئتلاف دولة قانون، إذا
أرادت أن تحصد أصوات الناخبين في الانتخابات البرلمانية التي ستجري في
7/3/2010م عليها أن تذهب بقارب المصالحة الوطنية إلى مديات أوسع بما
يحفظ لها كسب الأصوات، بدلا من أن تذهب الأصوات إلى كتل تعلن في الخفاء
والعلن أنها وريث حزب البعث المنحل وراحت الأموال تنزل عليها من كل حدب
وصوب أملا في تغيير الخارطة السياسية بعد أن عجزت سياسة الاقتتال
الطائفي والاحتراب الداخلي من إسقاط التجربة الجديدة.
وحتى تؤتي المصالحة الوطنية أكلها بما يخدم العراق والأسرة
العراقية، أرى أن تتجه الحكومة إلى:
أولا: استقطاب كل الطاقات العسكرية والأمنية والادارية من النظام
السابق، وعدم إبعاد الطاقات تحت طائلة قانون المساءلة والعدالة، ومن
قبل قانون اجتثاث البعث.
لقد كانت لدى أركان الحكومات المتعاقبة بعد انتهاء حكم الحاكم
المدني بول بريمر شجاعة الاعتراف بأن حل الجيش العراقي خطيئة، وحل
الأجهزة الأمنية خطيئة، وحل وزارة الإعلام خطيئة، من الصواب أن تتوفر
شجاعة الإقرار بأن قانون اجتثاث البعث خطيئة وقانون المساءلة والعدالة
خطيئة، وأن مشروع المصالحة الوطنية هو الحل السديد في العراق الجديد.
ثانيا: العمل على غلق الملفات القانونية والمحاكمات لأقطاب النظام
السابق، فسقوط النظام وإعدام صدام حسين في 30/12/2006م، طوى صفحة سوداء
من تاريخ العراق، والعراق الجديد بحاجة لأن يفتح صفحة جديدة مدادها
العفو والتسامح.
وفي تقديري أن إبقاء ملفات العهد البائد القضائية مفتوحة ونشر
مجريات محكمة الجنايات العليا عبر القنوات الفضائية قد يريح الأسر
المتضررة وهي ليست قليلة، ولكنه في الوقت نفسه ينعش الدماء في شرايين
المتربصين بالتجربة السياسية الجديدة شراً، ويقوي من ورقة الكتل
الانتخابية التي تحاول تسويق نفسها كبديل عن نظام صدام.
ثالثا: العمل على استبدال هيئة المساءلة والعدالة بهيئة علمية
ثقافية جديدة توثق لجرائم النظام البائد من جهة وتعمل على نشر ثقافة
الحياة والتعايش السلمي من جهة ثانية، فالأموال التي تصرف على إبعاد
هذا أو ذاك، يفترض أن تصرف في مجال التوثيق والتثقيف، حتى لا يضيع الحق
المغيب بسعر الباطل الحاضر، فكل طاقة بشرية وإن شملها قانون الإجتثاث
أو المساءلة هي طاقة يمكن الاستفادة منها لخدمة الوطن بدلا من تشتيتها
لتذهب طواعية إلى الآخر الذي يعمل كالحية الرقطاء على هدم التجربة
الجديدة من داخل العملية السياسية.
ثم نتساءل كيف نطلب من القائد العسكري أو الأمني أن يبدع في أدائه،
وفي كل مرة يُهدد بقانون الإجتثاث أو المساءلة؟ فمثل هذا القائد الذي
يرى نفسه غير مرغوب فيه، يعيش حالة من الإضطراب النفسي والهلع الداخلي
ويختل عنده ميزان الوطنية فيسهل على الآخر المعادي أو المداهن إسقاطه
في شباكه، فنحن نعلم أن عدداً غير قليل من القادة العسكريين والأمنيين
استثناهم المالكي من الإجتثاث والمساءلة لحاجة العراق إليهم، ولكن
الإستثناء يبقى استثناءاً فلابد من أن يتحول إلى قاعدة وأصل حتى يخف
اضطراب النفسية العراقية المضطربة أصلا بفعل سياسات النظام البائد.
ومن المفارقات الباعثة على الغثيان أن بعضا من الذين يشهرون سيف
المساءلة بوجه قادة عسكريين وأمنيين وإداريين ورسميين، هم أو آباؤهم
أوكلاهما كانوا جزءاً من ماكنة النظام البائد ولكن بدرجات حزبية أقل،
فلماذا يحل لهم ما لا يحل لغيرهم!
والانتخابات المحلية التي جرت في 30/1/2009م، ليست ببعيدة، فإن
كتلاً يشار لها بالبنان استخدمت الشعائر الحسينية كسلاح في اصطياد
أصوات الناخبين ودفعها عن كتل أخرى، قد جاء أداؤها التشهيري مخيبا لمن
أشار عليها وفقدت مقاعد كثيرة، وحصد إئتلاف دولة القانون ما فقدته تلك
الكتل، وما ذلك إلا بسبب الاستخدام غير السليم لمفردة أريد لها أن تكون
ورقة انتخابية تطيح بالآخرين فحلت على لاعبها كالقضاء المستعجل.
فلا يكرر المالكي خطأ الآخر في استخدام مفردة في غير محلها وإن كان
لها حقيقة في ذاتها، وحيث أن العراق على أبواب انتخابات مصيرية، فأن
المفردة الخطأ هي ورقة "حزب البعث" وذيوله، فحيث أن البعثيين انتماءاً
بغض النظر عن الولاء الطوعي أو الكرهي أو القسري هم بالملايين، فإن
الحديث عن مفردة حزب البعث نغمة بان نشازها يتحسس منها العراقيون بشكل
عام، مما يجعلهم ينفرون من الضارب على وترها فيميلون نكاية إلى الآخر
وإن كان الأول على صواب، وبالتالي تضيع الأصوات وتذهب الأوراق مهداة
بتوقيع القصور وختم التقصير، في الوقت الذي شمّر فيه أكثر من طرف قطري
وعربي وإسلامي عن ساعد المكر لأن يجر العراق إلى المربع الأول بحبل
الإنتخابات ويذبح التجربة الفتية بسيف الديمقراطية، ويعود العراقي من
جديد يلتفت يمنة ويسرة خائفا يترقب وهو يسير إلى مقر عمله أو يعود إلى
منزله!
* الرأي الآخر للدراسات- لندن
alrayalakhar@hotmail.co.uk |