القدرة على التكيف

محمد محفوظ

نتداول في حياتنا الثقافية والاجتماعية، الكثير من المصطلحات والمفاهيم، التي لم يعمل أحد على تحديد معناها وجوهرها الحقيقي والمحدد..لذلك يتم تداولها في سياق معان ومداليل مختلفة ومتنوعة، مما يؤدي إلى العديد من الالتباسات الاجتماعية والثقافية.. ويبدو لي أننا بأمس الحاجة إلى تحديد مصطلحاتنا، وتعريف مفاهيمنا بشكل دقيق وواضح..وذلك لأن وضوح المفاهيم شكلا ومعنى، يساهم في تطوير الواقع الاجتماعي والثقافي..ومن المفاهيم التي يتم تداولها بكثرة وتحتاج إلى تحديد دقيق مفهوم ( القدرة على التكيف ).

فالقدرة على التكيف ليست محصورة في جانب طبيعة العلاقة التي ينبغي أن تكون مع الجديد والتطورات الحديثة، بل تتعدى ذلك وتشمل جميع المجالات والآفاق... بحيث نجد أن الضغوطات الخارجية والتحديات الداخلية لا تحول المجتمع إلى جثة هامدة راكدة، لا تستطيع عمل أي شيء أمام ضغوطات الخارج أو تحديات الداخل، وتعتبرها وكأنها القدر الذي لا مفر منه , بل تتعامل مع الضغوطات والتحديات وفق المنظور الحضاري , والذي يحاول أن يمنع عمل وتأثير تلك الضغوطات الخارجية , ويسعى نحو تحويل مسار تلك التحديات وجعلها عتبات يرتقي بها المجتمع سلم التطور والمجد..

فالقدرة على التكيف , هي التي لا تجعل المجتمع ينهزم أمام مشاكله , ويرضخ للتحديات , بل تغرس في نفوس أبناء المجتمع العزة بالذات , والإيمان المطلق بقدراتهم , وتجعلهم يتحملون شظف العيش وضنك الحياة , من أجل تجاوز تلك المشاكل والتحديات باقتدار.

فالمجتمع الألماني خرج من الحرب الكونية الثانية , منهك القوى , مشتت الأوصال , محطم الاقتصاد ومدمر البنى التحتية. إلا إنه لم يستسلم أمام هذا الواقع الصعب بدأ رويدا رويدا , يبني ذاته ويعيد قواه , واستخدم في سبيل ذلك كل الامكانات المتاحة له.

بينما المجتمعات التي لا تمتلك السرعة الكافية للتكيف مع التطورات والمستجدات والتحديات تصاب بالأفول والضعف والاضمحلال أمام الضغوطات الخارجية أو التحديات الداخلية.

والتكيف على نوعين: السلبي , وهو عبارة عن الخضوع للواقع , واعتباره الجدار الصلد , الذي لا يمكن تجاوزه مما يضطر الإنسان إلى التعايش والتكيف معه على أساس أنه من الثوابت التي لا تتغير.

والايجابي:وهو عبارة عن وجود القدرة النفسية والعملية على تجاوز الواقع. بتأكيد حسناته والابتعاد عن سيئاته، والعمل على إبطال دورها في الواقع الخارجي.

وما نقصده بالقدرة على التكيف كسمة من سمات المجتمعات المتقدمة هو القدرة على التكيف الايجابي الذي يعني العناصر التالية:

القوة النفسية والإرادة الفاعلة:

إذ إن المجتمعات المهزومة نفسيا، لا تستطيع توظيف إمكاناتها وقدراتها في مشروع النهوض والتطوير؛ لأن النفسية المهزومة لا تعكس إلا إرادة خائرة لا تستطيع القيام بأي عمل.

لهذا فإن التكيف الإيجابي مع المستجدات والتطورات يعني فيما يعني القوة النفسية والصلابة المعنوية التي تبث إرادة فاعلة، وعزيمة راسخة، وتصميما فولاذيا على تطوير الواقع، وتذليل الصعاب، ومقاومة العوامل المضادة التي تحول دون التقدم والتطور.

واستطرادا نقول: إن الخطر الحقيقي الذي يواجه الشعوب والأمم ليس في الهزيمة المادية الخارجية بل في الهزيمة النفسية التي تسقط كل خطوط الدفاع الداخلية، وتمنع من وجود القدرة الطبيعية لإدارة الذات فضلا عن تطويرها، وتذليل العقبات التي تمنع ذلك. لهذا فإن نواة التكيف الإيجابي وجود القوة المعنوية والنفسية التي تعيد للإنسان عافيته، وتجعله يقاوم تحدياته بإمكاناته القليلة وإرادته التي لا تلين.

الحركة الذاتية: بمعنى أن حركة المجتمع تجاه التقدم والتطور حركة دينامية ذاتية لا تنتظر المحفزات من الخارج، بل هي مجتمعات مولدة للإصلاح والتغيير وصانعة له.

إذ إن المراحل الحضارية المتطورة لا يمكن الوصول إليها عبر استعارة مظاهر الحضارة من الآخرين. وحدها الحركة الذاتية والدينامية الاجتماعية هي القادرة على بلوغ المراحل الحضارية، واجتياز المعوقات التي تمنع التقدم والتطور.

كما أن الحركة الذاتية هي التي تفتح أبوابا جديدة لرؤية المستقبل وبلورة آفاقه، وأن الامكانات والقدرات التي يتضمنها أي مجتمع لا يمكن توظيفها في عملية التقدم وحسن استخدامها في مشروع التطور إذا لم تكن هناك حركة ذاتية في المجتمع يتحرك بحوافزها، ويسعى نحو الاستفادة القصوى من كل الامكانات المتوفرة في الإنسان والطبيعة. وهذا ما يفسر لنا كيف أن البلدان العربية مع ما تمتلك من إمكانات مادية وطبيعية هائلة لم تتمكن من توظيفها التوظيف الأمثل في مشروع التنمية والبناء الحضاري، لأنها لم تعتمد في مشاريعها التنموية والتطويرية على المجتمع العربي وحركته الذاتية، والظروف الموضوعية التي تحيط به بل حاولت هذه البلدان استعارة الحوافز ومظاهر النمو دون أن تؤسس في البناء الاجتماعي الأسباب الذاتية لصناعة الكفاءة القادرة على توظيف الامكانات، واستثمارها بما يخدم مشروع البناء والتطوير.

إن المجتمع ( أي مجتمع) لا يمكن أن يتقدم ويصل إلى مراتب مدنية وحضارية عليا إذا لم يؤسس في كيانه العوامل الذاتية التي تجعله يباشر عملية التطور بذاته.

التعاطي الإيجابي مع الواقع:

إن التكيف مع الواقع لا يعني القناعة به، واعتباره اقنوما مقدسا لا يمكن تبديله أو تغييره. بل هو قدرة نفسية تتجسد في إرادة وتصميم وتخطيط يتجه إلى تحقيق الانسجام المطلوب بين الواقع والمفروض، وهذه صفة حضارية إذ يتمكن صاحبها من تجاوز عثرات الطريق وسيئات الواقع، ويستطيع من خلالها أن يهضم إيجابيات الجديد.

فالولايات المتحدة الأمريكية واجهت الكثير من الأزمات والمشاكل المستعصية القادرة على إيقاف الزحف الحضاري، أو تغيير قمته من أمريكا إلى دول أخرى لكن قدرة الولايات المتحدة الأمريكية على التكيف مع التطورات، والاستفادة من عناصر القوة الجديدة، وإدخالها في الدورة الحضارية الأمريكية هي التي أبقت الولايات المتحدة زعيمة العالم وقطب الرحى في مسيرة الحضارة الحديثة.

وأفول هذه القدرة هو بداية النهاية لأية حضارة حيث إن الحضارات الإنسانية التي سادت ثم بادت تكشف لنا عن أن العنصر الأساسي الذي أنهى تلك الحضارات وجعلها تعيش القهقرى هو عدم أو ضعف قدرتها على التكيف مع التطورات والتحديات الجديدة، ولا فرق في ذلك سواء كانت تلك التطورات والتحديات طبيعية أو إنسانية. لأن القدرة على التحكم بالطبيعة كمقوّم أساسي من مقومات النهوض والحضارة لا تتأتى بدون قدرة الإنسان على التكيف مع متطلبات الطبيعة، وتوفير أسباب الاستفادة منها وهكذا فيما يرتبط بمنجزات الإنسان الحديثة؛ فالقدرة على التكيف، تعني النفاذ إلى القوانين التي تتحكم بسيرورات تطور المجتمعات الإنسانية تمهيدا للوصول إلى معرفة الواقع الاجتماعي وسياقه التاريخي، وإمكانات الفعل والتطور التي يزخر بها وجوده.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاربعاء 9/كانون الاول/2009 - 21/ذو الحجة/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م