في السياسة لا توجد عداوات دائمة، بل توجد مصالح دائمة... وأخيراً
رضخ الغرب لإصرار الإيرانيين على حقهم في تخصيب اليورانيوم، وحقهم في
امتلاك برنامج نووي سلمي بعد ما كانوا يعارضون أساساً وجود أي نوع من
الأنشطة العلمية في حقل الذرة في هذا البلد المتمرد على سياسات الغرب.
ماراثون المحادثات بين إيران والوكالة الدولية للطاقة الذرية، ومن
ثم بينها وبين الدول (5 + 1) يعتبر نجاحاً للدبلوماسية الإيرانية، فقد
تعامل الإيرانيون مع الغرب بنفس طويل، وبفطنة سياسية، وعملوا على إيجاد
اختراقات في صفوف خصومهم، حتى عجز الغربيون عن فهم دوافع وطبيعة تلك
الاختراقات الدبلوماسية، لكنهم في النهاية استسلموا لإرادتهم ببعض
الشروط.
لقد أطلت الدبلوماسية الناعمة برأسها بقوة في الحوارات والمفاوضات
بشأن الملف النووي، في الوقت الذي استمرت فيه خلف الكواليس التحركات
والحوارات الهادئة... ما أريد قوله هو ان الإيرانيين أجادوا بحرفية فن
التفاوض مع الغرب، وفن المناورة والمماطلة والمباغتة والالتفاف حول عنق
الخصم، في الوقت الذي لم تتوقف فيه معاملهم البحثية ومختبراتهم الذرية
منذ أكثر من عقدين من الزمان عن تحقيق طموحاتهم، فقد استمروا في
برنامجهم النووي بهدوء تام وبعيداً عن أي ضجيج إعلامي، واستطاعوا كسر
الحصار الاقتصادي والعلمي، فحققوا مكتسبات علمية كبيرة حتى صُدم الغرب
من التقدم الذي أحرزته هذه الدولة في مجال العلوم، وخاصة علوم الذرة.
النقاش عن وجود برنامج نووي في دولة كإيران قد تجاوزه الزمن؛ لأن
سياسة الأمر الواقع قد نجحت وأعطت ثمارها، في الوقت الذي ظل فيه الكيان
الصهيوني يخدع الغرب عن النوايا العسكرية للبرنامج النووي الإيراني.
فما زال هذا الكيان يهدد، وينبح، ويبكي على اللبن المسكوب، حتى سئم
الغرب من عويله وضجيجه.
هذا الكيان يمتلك اليوم ترسانة نووية، ومازال يرفض التوقيع على
برتوكول منع الانتشار النووي، ويعارض فتح منشآته النووية للتفتيش،
بينما إيران على عكس ذلك؛ قد وقعت على البروتوكول، وتسمح لمفتشي
الوكالة الدولية بزيارة منشآتها، ووضع كاميرات المراقبة، ولديها تعاون
مع الوكالة. وحتى الساعة لم يثبت للوكالة أي خروق من قبل هذه الدولة
على القانون الدولي، أو أي استخدام عسكري في برنامجها النووي. المدير
العام للوكالة محمد البرادعي أكد مراراً أن المخاوف الغربية بشأن
عسكرية البرنامج النووي الإيراني هي “سياسية” وليست “تقنية”...
اليوم وبعد مفاوضات (فيينا) الأخيرة لم يعد لتلك المخاوف وجود، فقد
بات الشغل الشاغل للغرب، وخاصة فرنسا وروسيا تجارة التخصيب، والتنافس
من أجل كسب ثقة الإيرانيين للقبول بنقل شحنات من اليورانيوم قليلة
التخصيب (قليلة الدسم) إلى إحدى الدولتين بهدف تخصيبها تخصيباً (عالي
الدسم)، ومن ثَمّ إرجاعها مجدداً إلى إيران؛ حتى تتمكن من استخدامها
سلمياً في الأغراض الطبية.
التنافس بات واضحاً بشأن أي من الدولتين سوف تربح الصفقة الكبيرة.
الإسرائيليون باتوا قلقين إزاء احتمال التوصل إلى اتفاق بشأن تخصيب قسم
من اليورانيوم الإيراني المخصص للاستخدام المدني في الخارج، ومن جانب
آخر أبدت بعض القيادات الإيرانية قلقها من العرض الغربي، فقد اتهم رئيس
البرلمان علي لاريجاني الغرب بمحاولة خداع إيران باقتراحه تزويدها
بالوقود النووي من أجل مفاعل الأبحاث في طهران مقابل نقل اليورانيوم
الإيراني المخصب إلى روسيا. جاء هذا الجدل بعد أن قدم البرادعي في 21
من أكتوبر الماضي مسودة اتفاق بشأن إمداد إيران باليورانيوم المخصب،
وقد تضمنت المسودة دعوة القوى الكبرى إيران إلى إرسال نحو 75 % من
مخزونها من اليورانيوم المنخفض التخصيب للخارج قبل نهاية العام الجاري؛
لتحويله إلى وقود لمفاعل طهران ينتج نظائر مشعة تستخدم في أغراض طبية.
من الواضح أن الدول الغربية تسعى للتخلّص من مخزون اليورانيوم
المخصب لدى إيران؛ من أجل طمأنة إسرائيل بعدم قدرة إيران على استخدام
المخزون لصنع سلاح نووي، وأما الهدف الآخر فهو منافع مالية ضخمة سوف
تجنيها البلدان البائعة لهذا النوع من الوقود.
قبل يوم من تسليم إيران ردها الأولي على المسودة، قال الرئيس أحمدي
نجاد: “في السابق كانوا يطالبون بوقف (البرنامج النووي)، اليوم وافقوا
على تبادل الوقود والمشاركة في بناء مفاعلات ومحطات نووية. لقد انتقلوا
من سياسة المواجهة إلى التعاون”. كلام نجاد يؤكد ما أشرنا إليه آنفاً
بأن موضوع الملف النووي الإيراني “اقتصادي” بالدرجة الأولى، وباعتقادي،
مثلما رضخ الغرب في بداية المشوار، وتنازل رويداً رويدا، فسوف يرضخ في
النهاية لإرادة الإيرانيين مع بعض الضمانات. |