في خطابه الذي القاه من قلب البرلمان التركي يوم 12 اغسطس الماضي
امام مجموعة من اعضاء حزبه العدالة والتنمية "الاسلامي", أظهر رئيس
الوزراء التركي السيد رجب طيب اردوغان شجاعة فائقة وهو يعترف بوجود
مشكلة كردية, كما أظهر اردوغان في خطابه انه رجل عاقل وحكيم يعيش
الواقع ويسعى إلى مستقبل افضل لبلاده, فالحرب الدائرة في كردستان تركيا
منذ نحو ثلاثة عقود, كانت مرهقة للطرفين التركي والكردي على حد سواء,
واثبتت تلك الحرب لكلا الطرفين عدم جدواها وفشلها الذريع, فالعمال
الكردستاني لم يحقق ولو جزءاً بسيطاً من اهدافه المعلنة, كما ان تركيا
لم تفلح في القضاء على المقاومة المسلحة للحزب المذكور, والخاسر الاكبر
جراء هذا الصراع الدامي, كان الانسان الكردي والمناطق الكردية التي
هجرها سكانها الى ضواحي المدن التركية الكبيرة يعانون فيها من شح
المعيشة والفقر الشديد المدقع, بالاضافة الى اكثر من 40 الف ضحية
معظمهم من الكرد.
اعتراف اردوغان بوجود مشكلة كردية يجب التعاطي معها وايجاد حلول
ناجعة لها, يعتبر حدثاً كبيراً بحد ذاته وبداية جيدة, فقد دشن الرجل
حقبة جديدة في تاريخ تركيا, ضارباً عرض الحائط سياسة التجاهل والانكار
الشوفينية التركية حيال كردها على مدى اكثر من ثمانية عقود, الا ان هذا
التغيير الايجابي الحاسم في الموقف التركي ومواقف رئيس وزرائها السيد
اردوغان, يواجه ان تحديات كثيرة وصعوبات جمة, فالحد من الصراع التركي ¯
الكردي يتوقف على توافر إرادة وجهود مشتركة لطرفي النزاع, والطرف
الكردي اليوم هو حزب "العمال الكردستاني" من دون منازع, بالتالي ليس
امام السيد اردوغان إلا الجلوس مع السيد عبد الله اوجلان زعيم
الكردستاني وقائده المطلق القابع خلف قضبان السجون التركية منذ اكثر من
11 عاماً.
اعتبار عبد الله اوجلان شريكاً في عملية السلام المتوقعة بين تركيا
وكردها, يعتبر الاشكال الاول الذي يواجهه رئيس الوزراء التركي, فحزب "العمال"
الكردستاني من المستبعد بل من المستحيل ان يتجاوب مع دعوات اردوغان, من
دون ان يكون لخطوات هذا الاخير, مهما علا سقفها, علاقة مباشرة بقضية
اعتقال اوجلان, فالامر يتوقف كلياً على مدى استجابة الحكومة التركية
للتعامل مع قضية "الزعيم" ووضع حد لمعاناته, اذاً شخص اوجلان يعتبر
اشكالاً حقيقياً في عقدة الحرب والسلام في تركيا, فالرجل هو محل خلاف
كبير, والطرفان التركي والكردي يقفان على طرفي النقيض من قضيته, الطرف
التركي وكما هو معلن, يعتبر قضية اوجلان قضية جنائية بحته لايجوز
التساهل فيها, ولا تعتبره لا هو ولا حزبه شريكاً في اي عملية حوار
مقبلة, اما "العمال الكردستاني" وعلى العكس تماماً, نجده يعتبر قضية
الافراج عن زعيمه اوجلان من الثوابت التي لا يمكن التفريط فيها, وربما
اكثر من ذلك, فعبد الله اوجلان بعد ان كان قبل اعتقاله القائد الرمز
الذي يسيطر على كل صغيرة وكبيرة, أصبح بعد اعتقاله هو القضية بعينها
لدى اتباعه ومريديه, والغريب في الامر انه يدير الصراع من داخل سجنه
بموافقة ضمنية تركية.
في ظل هذا التناقض الصارخ بين الموقفين التركي والكردي من عبدالله
اوجلان, ليس امام اردوغان خيارات كثيرة, فاما ان يتحمل شرور خصومه
ويعرض مستقبله السياسي ومستقبل حزبه إلى مخاطر غير متوقعة ويتحاور مع
عبد الله اوجلان, في خطوة تضمن لمشروعه نهاية سعيدة, يتم بموجبها
الافراج عن اوجلان او التخفيف من مدة محكوميته والعفو عن مقاتليه في
مقابل تعهد من اوجلان بالقاء السلاح ووقف دائم لاطلاق نار, والسيناريو
هذا غير مستبعد كما يعتقد البعض, فالواقعية السياسية التي يتميز بها
اردوغان قد تدفعه الى هذا الخيار, كما انها صفقة سياسية رابحة تثير
اللعاب التركي ولن تكلف رئيس وزرائها الا القليل من التنازلات المصيرية
مقابل تنازلات كبيرة من الجانب الكردي.
اما "العمال الكردستاني" فلن يتوانى عن اي خطوات تدفع الجانب
التركي إلى اللجوء الى هذا الخيار, واستسلام 34 مقاتلاً من "الكردستاني"
للسلطات التركية اخيراً بناء على توصيات او بالاحرى اوامر من السيد عبد
الله اوجلان تحت مسمى "وفود السلام الى انقرة", قد تكون جزءاً لا يتجزأ
من بدايات تنفيذ هذا السيناريو, اما الخيار الاخر لدى اردوغان, فهو
الاستمرار بتجاهل اوجلان وحزبه, والاكتفاء بمنح كرد تركيا بعض الحقوق
الثقافية ودعم مناطقهم اقتصادياً, الامر الذي قد يرضي قسماً من الاكراد
ويرضي الاوروبيين واردوغان نفسه, لكن الصراع التركي الكردي بحد ذاته,
لن يتوقف وسيبقى قائما وقد يشتد اكثر بتوجيهات غير معلنة من طرف اوجلان.
الاشكال الاخر الذي يواجهه اردوغان في مسعاه إلى حل القضية الكردية
في بلاده, هو التزمت التركي والاتاتوركية ونزعتها الطورانية المتفشية
في المجتمع سواء على الصعيد الشعبي او النخبة السياسية حيال كل ماهو
كردي, فرغم تخلي حزب "العمال الكردستاني" عن معظم اهدافه ومبادئه, حتى
اصبح اليوم اقرب إلى حركة سلام او جماعة من جماعات الخضر منه إلى حركة
تحررية ثورية مقاومة, وكذلك الحال بالنسبة إلى زغيم "العمال
الكردستاني", الذي تحول وبقدرة قادر الى مسيح عصره حتى انه اصبح يلقب
اخيراً بمهاتما غاندي لمواقفه المسالمة بعد ان كان ثورياً شرساً صلباً
لا تلين له قناة, رغم كل هذا التغيير الدراماتيكي في مواقف اوجلان
وحزبه, نجد الموقف التركي لايزال على حاله ولا يعرف الا لغة الحديد
والنار في التعامل مع "الكردستاني" وقائده, هذا التعنت التركي يشكل
ارثاً ثقيلاً يواجهه السيد اردوغان وهو اشكال حقيقي امام اي مسعى لوضع
نهاية للصراع الكردي ¯ التركي.
السيد رجب طيب اردوغان ورفيقه الرئيس عبد الله غول لا شك انهما من
خيرة الناس في تركيا, فقد وقف اردوغان بعزم وشجاعة ضد المؤسسة العسكرية
التركية وجنرالاتها في سابقة لم يفعلها احد غيره, كما الحق الهزيمة
بالاحزاب التركية الانتهازية الشوفينية التقليدية اكثر من مرة في
الانتخابات التركية, وعمل بهدوء على ترسيخ الديمقراطية خلال فترة حكمه,
اما الاقتصاد التركي فهو اليوم في افضل حالاته بفضل اردوغان ونزاهة
طاقمه الحكومي والحنكة البالغة التي يتمتع بها هذا الطاقم, ومن اهم
مزايا اردوغان على الاطلاق, انه ورفاقه في حزب "العدالة والتنمية"
التركي سيذكرهم التاريخ بأنهم اول من اسس لتيار اسلامي ديمقراطي ليس
فقط في تركيا بل في طول العالم الاسلامي وعرضه, لكن جهود اردوغان في حل
القضية الكردية أخيراً, كفتح قناة تلفزيونية تبث باللغة الكردية او فتح
معهد للغة الكردية او اعادة تسمية القرى والمدن الكردية بأسمائها
الحقيقية, هي جهود طيبة ومجرد مساع حميدة يشكر عليها السيد اردوغان,
لكنها غير كافية وستذهب ادراج الرياح, ان لم تقترن بخطوات جذرية حاسمة
ودستورية تعترف بالكرد كقومية ثانية تضمن لهم شراكة حقيقية في بلد
ليبرالي ينبذ الايديولوجية القومية, وعلى كل حال, يبقى الاعتراف
بالازمة الكردية شيئاً ومعالجة تلك الازمة شيء اخر.
d.mehma@hotmail.com |