المثقف العربي وإشكالية الأنا والآخر

صادق جواد سليمان

عندما استعرضت محاور هذه الندوة استلفت نظري موضوع المثقف العربي وإشكالية "الأنا والآخر.  تساءلت: ما هي هذه الإشكالية؟  وترى من هو هذا "الآخر" الذي تنشأ إزاءه: أهو نظير عربي ذو نظر معارض أم هو غريم أجنبي ذو إغراض مناوئ؟  ما استخلصته أودعته في هذه الورقة بإبجاز:     

المثقف العربي وإشكالية الأنا والآخر

إشكالية المثقف العربي -  وأقصد به الشخصَ العربي الموفورَ في معارف عصره وأعراف أمته – هي إزاء نفسه أكثرُ من كونها إزاء "الآخر" ... وهي، من حيث أرى، تنشأ من شعور محبَط يلازمه: شعورِه كفرد يرى نفسه، بمعيار معطيات العصر، أقلَ مكنة واقتدارا إزاء "الآخر"، وشعورِه كأحد أفراد أمة يراها أيضا، بمعيار معطيات العصر، أقلَ مُكنة واقتدارا إزاء أمم أخرى.

 في وعي المثقف العربي، في الغالب الأعم، الشخص "الآخر" هو الشخص الغربي، المتقدم عنه والمؤثر في شأنه. والأمم الأخرى هي أمم الحضارة الغربية، المتقدمة عن أمته والمؤثرة في شأنها، والتي هو عادة يجمل الإشارة إليها جماعيا ب "الغرب".  هو قلما يشعر بالإشكالية ذاتها إزاء أمم معاصرة أخرى وأفرادها، كما، مثلا، الهند والهنود، أو الصين والصينيين.  مرد ذلك: مع أن أمما أخرى غير أمم الغرب قد أيضا تكون أكثر مكنة واقتدارا من أمته، إلا أنه لا يلمس منها إجحافا، لا يستشعر تهديدا، ولا يتوجس إغراضا غير حميد.

 إزاء الغرب، المثفف العربي معجب بما يشاهد هناك من علوم متقدمة ومهارات مصقولة وقدرات إنتاجية وإبداعية متنامية، وهو راغب في الاستفادة من كل هذا الذي يشاهد ويثمن، ما أمكن.  في المقابل، هو ممتعض مما يلقى من الغرب من سلبية النظر الثقافي تجاهه، من غبن في التعامل السياسي مع قضايا أمته، ومن تجربة استعمارية مريرة عانت منها أمته على يد بعض أمم الغرب في العصرين الوسيط والحديث.  بالنتيجة، هو لا يطمئن إلى الترابط مع الغرب استرايجيا، هو لا يرتاح إلى التقارب معه سياسيا، وهو يحاذر التأثر بالثقافة الغربية التي يرى فيها أعرافا تتعارض مع أعراف ثقافته.  إجمالا، المثقف العربي معجب بالغرب:  معجب بهذا "الآخر" ومستاء منه في آن واحد.

عندما هكذا يضمر أمرؤ  شعورين متعارضين في جوفه إزاء فرد أو جماعة، وهو في الوقت نفسه مضطر للتعامل مع ذلك الفرد أو تلك الجماعة، فإنه يعيش تأزما في مجرى التعامل.  هكذا تقول نظرية تسمى بتضارب المُدرَكcognitive discordance  التي ظهرت في الخمسينات من القرن الماضي في بحوث علم النفس، وبقت، مع توسعة وتنقيح لاحق، مأخوذة في الاعتبار في دراسة عناصر التعقد والتأزم في التدافع البشري.

المثقف العربي يرى وضعه ووضع أمته على ضعف شديد إزاء "الآخر" – الآخر الفرد الغربي، والآخر الغرب ككتلة أممية.  إنه يرى الضعف نابعا من كون معارف أمته الذاتية، المصطحَبة من الماضي، قليلة الجدوى في تلبية متطلبات الحياة المعاصرة والوفاء باستحقاقاتها الإنسانية.  كما وإنه يراها قليلة النجاعة في تعزيز وضعه القومي وإنماء حاله الحضاري.  في المقابل، هو يرى معارف "الآخر"، تلك المطوَرة للحاضر، والمتطورة باجتهاد مستكشِفٍ دأبا لإمكانات المستقبل ... يراها الرائدة في تيسير متطلبات الحياة ودفع وتيرة التقدم الحضاري عبر العالم.

إزاء هذا ترى المثقفَ العربي يتأزم ويتردد.  من جانب هو يرى قومه، وهو منهم، يستصعبون الافتراق عن مفاهيمَ اصطبغ بها منظورهم الفكري، وركن إليها حالهم النفسي، عبر زمن غابر مديد، مع أنها ما عادت ذات جدوى تُذكر.  من الجانب الآخر هو يراهم، وهو منهم، لا يستطيعون تدبير أمورهم وتحقيق مآربهم بتفعيل مفاهيم التراث.. بذلك ينشأ لديه حال مربك:  حال يُصطحَب فيه الموروث كواجهة تُوقر فلا تُمس بنقد او تفنيد، جهارا على الأقل، بينما تدار المصالح وتحقق المآرب وتيسر الحاجات بهدي المعرفة المعاصرة ومناهجها وتقنياتها المتطورة باطراد.

 في الخبرة العربية المعاصرة تُستقبل الحداثة على قدم وساق في جل نشاطات الحياة، دونما ممانعة أو تحفظ يذكر: تُستقبل في مجالات السياسة والاقتصاد والصناعة والدفاع والطاقة والتعليم والصحة والبيئة والزراعة والمواصلات ... سم ما شئت.  لكن الحداثة ومخرجاتها هي جلها من إنتاج وإبداع هذا "الآخر" الذي لا يٌرتاح له من حيث سلامة القصد وعدالة المعاملة.  من هنا، في تعارض بيّن، تنشأ ضرورة الاقتباس من "الآخر" متلازمةً مع ضرورة التحفظ عليه والتحوّط منه.

استمرار هذا الحال يستولد، بمرور الزمن، انفصاما في النظر، ووهنا في قدرة الفرد والأمة على الفرز الموضوعي المنطقي الدقيق.  فإذا امتدت فترة التأزم، تطبّع الانفصام بحيث يمسي السمةَ السائدة لا العارضةَ لطريقة التفكير والتصرف.  عندها تضعف الثقة بالنفس، يتعثر السعي، يتخبط الأداء، وتتضاءل الاستطاعة الذاتية على التطور الفكري ومن ثم استصلاح المؤسسات السياسية-الاجتماعية لتواكب العصر وتلبي احتياجات مجتمعات ناهضة طامحة.  عندها يأخذ التطور - إذ لا بد من التطور على أي حال - طابع الانقياد وراء تقدم "الآخر".  من هنا تنشأ إشكالية "الأنا والآخر" لدى المثقف العربي: إنه يكره أن يبقى تابعا "للآخر"، في الوقت الذي لا يستطيع فكاكا من تبعيته بحكم عجز أو تعاجز تراكم لديه وأضحى مُحبِطاً سعيه في استيفاء عناصر التقدم الحضاري بمعايير العصر. 

كيف يُزال العجز ويُبنى الاقتدار؟   كيف تُكسر استدامة هذه الإشكالية مع "الآخر"؟  كيف  يكون تجاوز سلبياتها تجاوزا نفسيا وموضوعيا في آن واحد؟ 

نفسيا – بنظري -  يكون التجاوز بغوص المثقف العربي في ذاته لاستظهار وتفعيل ما في جوفه من مكنة واقتدار.  ما حك جلدَك مثلُ ظفرك، حكمة قيلت عربيا منذ القديم.  التجاوز النفسي يكون بتعزيز الثقة بالنفس.  يكون بالاعتراف بواقع التخلف، لا التحرج منه أو التستر عليه.  يكون بإزالة التخلف بسد العجز، طي الفجوة، واللحاق حثيثا بركب التقدم الأممي.  إزأء "الآخر"، يكون التجاوز بانتهاج منهج  التقارب لا التبعاعد، بإنماء الوئام لا الخصام.  يكون بالدرء بالحسنةِ السيئةَ،، وبالدفع بالتي هي أحسن لتحويل "الآخر" من عنصر معيق إلى عنصر معين.

موضوعيا، يكون التجاوز بريادة المثقف العربي، بعزم وصبر، عملية بناء ذاتي: عملية دائبة، زاخرة، مستنيرة تعتمد، كأمر أساس، الثلاثي المقوم والمنمي للحياة:  أقصد به ثلاثي المعرفة المحققة، المنطق العقلي، الانضباط الخلقي.

 المعرفة، كمقوم ومنم للحياة، نتاج إنساني مشترك، تداورت على بلورتها الحضارات من خلال تسابق وتقابس جيلا إثر جيل، حتى أوصلتها حيث محتواها ومداها اليوم.  مضمار المعرفة مفتوح أبدا أمام التوسع والتعمق: في عصرنا المعرفة تتضاعف في الرصيد الإنساني كل عام من خلال أبحاث معمقة دائبة.  في عصر سلف كان للأمة العربية  شأن معرفي مشهود حين قادت الحركةَ المعرفية بأبحاث رائدة على مدى عدة قرون.  في عصرنا، خليق بالمثقف العربي أن يحي صلته التاريخية الأصيلة بالمعرفة، ويسعى لابتعاث دور أمته في المضمار المعرفي من جديد.

  المنطق العقلي، كمقوم ومنم للحياة، يضمن صواب النظر ورصانة الأداء.  إنه يربط الأمور بعللها، فلا يدع مجالا لنزق وشطط، ويعري الواقع على علاته، فلا يدع مجالا لتورية وتحريف.  والمنطق العقلي، من بعد ذلك، يمكن موضوعيا من التصحيح والتقويم والتحسين، كل ذلك في وضح النهار، بدأب ودون حرج.

 الانضباط الخلقي، كمقوم ومنم للحياة، يصون النفس والغير، ويحصّن الوسيلة والقصد في السعي الإنساني المعرض أبدا لمزالق الهوى والحمق. الانضباط الخلقي عمليا يكون بالالتزام بثنائي الصدق واللاعنف، ذلك المنهج الشجاع الذي برهن مهاتما غاندي نضاليا في الهند نجاعة تأثيره في إحقاق الحق وإزهاق الباطل مهما تتطاول الباطل بادئ الأمر.

 بذلك، نفسيا وموضوعيا، يُكسر الإحباط، ويُستولد فهم عربي للذات أوضح استبصارا  للأمور، أكثرُ اقتدارا على التعامل الناجع مع "الآخر"، وأنشط إقداما على اقتباس واستثمار معطيات العصر.  بذلك، نفسيا وموضوعيا، يستطيع المثقف العربي تمكين أمته من البناء واللحاق: يستطيع ذلك بإنماء القدرات والمهارات، بإستصلاح المؤسسات، بترشيد الحكم، بتعزيز الاستقرار، بتفعيل التنمية الإنسانية ... كل ذلك عامة عبر الوطن العربي الكبير..  في جميع ذلك جدير بالمثقف العربي أن يتواصى بالحق ويتواصى بالصبر، أن يجاهد ويثابر، وفي كل الأحوال أن يتحلى بتواضع المقتبس المجتهد المستنير.

بهكذا تصويب لنظره، بهكذا توجيه لجهده، بهكذا  ترشيد لدوره في تسديد خطى أمته، يستطيع المثقف العربي إبطال إشكالية "الأنا والآخر" وأزالة ما تستولد لديه من تأزم وتلبك.  عندها، الأصالة والحداثة لديه تخرجان من دائرة تعارض متوهَم، وترتدفان ضمن مرجعية موحدة: مرجعية ما هو حقيق في الطبيعة، صحيح في المدرَك،  نافع للوطن والمواطنين، وصالح للإنسانية جمعاء ... كل ذلك ليس ادعاء بزخرف القول،  بل مُبرهناً بنفع يدر عربيا للنفس والغير.

إشكالية "الأنا" و"الآخر" - الناشئة من تضارب المُدرَك على ما زعمت - عندها تغدوا محوا في الذاكرة والأثر. عندها "الأنا والآخر" يُجمعان في منظور رحب: منظورٍ إنساني حضاري يحضن، ضمن الوطن، المواطنين كافة في تواؤم وتضامن، على تكافؤ ودون تمييز ... وفي أعم من ذلك، منظورٍ يصون حرمة الإنسان وكرامته، ويسهم في إنماء الشأن الإنساني ككل. هوية المثقف العربي عندئذ ستغدو عالميا هويةَ إنسان موفور في معارف عصره وأعراف أمته، وفوق ذلك، تغدو هويةَ إنسانٍ فاعل، ثامر، نافع، حصيف، كريم.

..................................

* صادق جواد سليمان، عضو جمعية الكتاب والأدباء العُمانية، عرض هذا الموضوع في ندوة "مركز الحوار العربي" بواشنطن ثم قدّمه بشكل ورقة مكتوبة في ندوة "المثقف والهوية" بالمؤتمر العام الرابع والعشرين للاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب، والذي انعقد في مدينة سرت، الجماهيرية الليبية، بتاريخ 18 – 22  أكتوبر 2009). 

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 31/تشرين الثاني/2009 - 11/ذو القعدة/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م