أثر التقليد والإيحاء في السلوك الاجتماعي

الباحث: عبد الكريم العامري

 

شبكة النبأ: كتب تارد tarde  سنة 1890 مبينا أهمية التقليد والاختراع على أنهما العمليتان الاجتماعيتان الأساسيتان. حذا حذوه كثير من علماء النفس والاجتماع مبينين أن السلوك الاجتماعي بضروبه المختلفة إنما يقوم على التقليد. غير أن الكتاب في هذا الموضوع قد اختلفوا حول طبيعة عملية التقليد هذه. البعض من العلماء اعتبروها عملية غريزية. البعض الآخر يذهب الى ان هذا الاعتبار خاطىء منهم ماكدوكل mcdouqall  واغلب علماء النفس في الوقت الحاضر.

امكانية حدوث التقليد

يعتبر التقليد الحقيقة الاجتماعية الجوهرية، ولهذه الحقيقة قوانين تصف طبيعتها وآثارها. عليه فأن التغير الاجتماعي ممكن الحدوث لأن الناس يقلدون ما هو جديد وكل ما هو بارز. النتيجة فإن المجتمع لا يمكن أن يوجد من دون تقليد.

ويصعب جدا ايجاد دافع خاص معين يدفع الناس على التقليد ذلك أن هذه الدوافع تتعدد بتعدد المواقف. انه من السهل أن نلاحظ بأن اغلب الأعمال التي يدعي أصحاب مبدأ التقليد بأنها أنما أديت بتأثير التقليد يمكن تفسيرها تفاسير أخرى. ذلك أن الناس اذا ضحكوا عند سماعهم نكتة او مشهدا ما أنما يضحكون لأنهم تعرضوا لوضعية خارجية واحدة، وعندما يقلد لباس لاعب من اللاعبين او تصفيف شعره فان هذا التقليد لا يثيره التقليدي ذاته وإنما تحفز مثل هذا العمل قيمة يسبغها الفرد او المجتمع على ما كان قلد.

يعتبر التقليد الحقيقة الاجتماعية الجوهرية، ولهذه الحقيقة قوانين تصف طبيعتها وآثارها. عليه فان التغير الاجتماعي إنما كان ممكن الحدوث لان الناس يقلدون ما هو بارز. والنتيجة فإن المجتمع لا يمكن ان يوجد من غير تقليد.

الإيحاء والتقليد

حاولت فئة من العلماء والمفكرين التمييز بين الإيحاء والتقليد، البعض الآخر ادعى أن الظاهرتين متداخلتان بحيث لا يمكن فصل الواحدة عن الأخرى.

بعض الكتاب اعتبروا أن الإيحاء ضرب من السلوك اكثر تعقيدا من التقليد حيث انه يتضمن شيئا من التفسير. فإذا صفق  رجل وأعاد عمله طفل فهذا تقليد من قبل الطفل، اما اذا كان الرجل يبكي وفهم الطفل ان هذا الرجل إنما يبكي لشقائه وبؤسه فبكى الطفل نفسه فان هذا البكاء قد حدث بتأثير الإيحاء.

التقليد في تفسير ظواهر السلوك الجمعي تقريبا إنما هو سرعة هياج الإنسان وسهولة تقليده الآخرين.

الإيحاء

يؤكد الباحثون ان مفهوم الإيحاء قد استعمل في تسمية ثلاثة ميول مختلفة من قبل علماء النفس والاجتماع، ان هذه الميول هي:

1- الميل لأن يرجع الإنسان لوضعية ما نفس الرجع الذي قام به من قبل في وضعية مشابهة سواء كان هذا الرجع مناسبا لهذه الوضعية الجديدة او غير مناسب.

2- ميل الإنسان للاستمرار في عمل كان يعمله حتى ولو كان خطأ.ان مثل هذا الاستمرار مدفوع بدافع الإيحاء.

3- الميل للاعتقاد بكل ما يقال او القيام بعمل كل ما يوعز الى الفرد القيام به بدافع بعض الدوافع الاجتماعية من القبيل الخوف من شخص او احترامه او حبه. ان هذا النوع يسمى أحيانا الإيحاء بواسطة النفوذ او الإيحاء النفوذي.

التجربة

قام عالم النفس بينيه binet بتجربة عرض فيها مجموعة من الخطوط كل منها أطول من سابقه أمام شخص أجريت عليه التجربة. بعد عرض هذه الخطوط مرات متعددة بدأ بينيه يعرض له خطوط متساوية في الطول الواحد بعد الآخر. لكن الشخص الخاضع للتجربة استمر يرى ما يعرض عليه من الخطوط الواحد أطول من سابقه. وقد استُخدم هذا النوع لاستغلال الجماهير في حقل السلوك الجمعي في تفسير الدعاية  والرأي العام والمودة.

ان التجارب التي قام بها العلماء في الإيحاء برهنت على أن الناس الذين يخضعون للتجربة حول هذا الموضوع ينقسمون الى قسمين:

1- أولئك الذين يؤثر فيهم الإيحاء تأثيرا ايجابيا.

2- يؤثر فيهم تأثيرا سلبيا حيث وجد ان بعض الناس يعتقدون مثلا أشياء هي عكس ما دعي إليه.

الدرس

هنا يثار سؤال: ترى اذا كان الإيحاء مهماً الى هذا الحد في بلورة بعض ضروب السلوك الجمعي وفي نشر وذيوع السلوكيات فما هي اذن السبل والعوامل التي تساعد على جعل الإيحاء والتقليد ناجحا موفقا نافذ المفعول؟

للإجابة على هذا السؤال نشير الى العوامل والأساليب التالية التي ترى جمهرة من الكتاب في هذا الباب نفوذ مفعولها في إنجاح الإيحاء، ان هذه العوامل والأساليب هي كما يلي:

أ- إثارة حاجات الناس ودوافعهم العاطفية ومعتقداتهم الراهنة وأمالهم ومخاوفهم.

ب- الاشتراك بواسطة المقاربة وهو أسلوب يقوم على مبدأ الوحدة الجزئية من قبيل مثلا: أن بنزين السيارات المبرد هو أفضل من غير المبرد لأن المسكن المبرد هو أفضل من غير المبرد عادة.

جـ-الامتداح والإطراء من قبل ذوي النفوذ او من قبل من هم حجة في الميدان او ذوي سلطان. ان هذا الإطراء والامتداح او التفضيل قد لا يكون مصيبا او معقولا في الواقع، ولكن الناس يتقبلونه لان الناس لا يسلكون على أساس من العقل دائما وخاصة في هذا الباب من السلوك الذي يقوم عادة على اعتبارات غير منطقية في الأعم الأغلب.

د- وسط الإيحاء، هل هو وسط سمعي؟ أم وسط بصري؟. ان الدراسات التي أجريت حول تأثير الراديو وتأثير الصحف والفضائيات بينت لنا ان بعض الناس يتأثرون بالسماع أكثر من تأثرهم بالقراءة في حين ان بعضا آخر هم على العكس من ذلك.عليه فان معرفة هذه الحقيقة تعين كثيرا في استخدام الإيحاء عن طريق السماع في الراديو او المحاضرات او الإشاعات وما شاكل او عن طريق رؤية القدوة او الصورة التلفزيونية.

هـ ـ هناك عوامل تفعل مفعولها في تيسيرعملية الإيحاء والتقليد في بعض الحالات الشخصية او الجماعية الخاصة. منها عوامل الجهل،العمر، الجنس، الهياج العاطفي، تهيؤ الفرد للاعتقاد. فالطفل مثلا قد يصدق حتى بمنطويات الخرافات والأوهام، والبنات والبنون الصغار اكثر تأثرا بالإيحاء ممن هم اكبر سنا، والنساء بصورة عامة اكثر تأثرا بالإيحاء من الرجال، والمرء المنفعل المهتاج اكثر تأثرا بالإيحاء مما لو كان هادئا، ومن يعتقد بأنه يشكو من داء يصبح اعتقاده أعمق من ذي قبل وأقوى عندما يخبره الطبيب بأنه مريض وان لم يكن مريضا حقا.

على كل حال فإن محاولة التأثير في الناس لحفزهم على شراء بضاعة ما، او تبنّي مودة ما، او قبول فكرة ما, او تدعيم ومساندة أمر من الأمور او حركة من الحركات تستلزم غالبا اللجوء الى الفنون الدقيقة في استخدام الإيحاء، واستعمال الأساليب التي بواسطتها ان نعد (المنبه) المناسب للحصول على الرجع المرغوب فيه.

من هنا يتبين ان ضبط سلوك الآخرين والسيطرة عليه يتوقفان الى حد كبير على الاستعمال الماهر الموفق للإيحاء.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 26/تشرين الثاني/2009 - 6/ذو القعدة/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م