
الكتاب: الهروب الى اليابسة
المؤلف: محمد الحمراني
الناشر: دار الشؤون الثقافية- بغداد/2002
عرض: علي حسين عبيد
شبكة النبأ: تنطوي تسمية الرواية
العراقية الشابة أو الجديدة (كما يرغب بعض الكتاب الشباب تسميتها) على
بعض المآخذ التي تثير حساسية الآخرين – نقاداً كانوا أم روائيين-
ولعلنا لا نجافي الحقائق إذا قلنا أن هذه الحساسية قد تأتي في موقعها
الصحيح لا سيما أننا نتحدث عن أخطر وأصعب الأجناس الأدبية وأكثرها
استهواءً للقارئ وهيمنة على ذائقته، لكننا لن نتجاوز على الحقائق أيضاً
إذا قلنا أن عدداً من الكتاب الشباب قد انجزوا ما يمكن أن نطلق عليه
الرواية العراقية الشابة وقد تبلور هذا المنجز الروائي في السنوات
القليلة الماضية ضمن توجهات فنية وفكرية يمكن أن تستخلص منها مرتكزات
سرد تشي بالكثير من الجهد وتقودنا الى رصد ما ظهر من روايات على أيدي
هؤلاء الكتاب الشباب لندرس مرتكزاتها ونفهم أننا أمام أدب يفرض نفسه في
الساحة ومن باب أولى أن نعطيه حجمه الذي يستحقه من دون لبس أو ترفع.
فالأمر في نهاية المطاف لن ينصب إلاّ في صالح الأدب ولن تكون هذه
السطور أول من يتصدى للرواية الشابة ولا آخرها ولكن ثمة أهمية تكمن في
تحديد بصماتها وتأشير ملامحها التي تنم عن جهد لا يستهان به.
وعندما تتحدد هذه السطور في قراءة رواية (الهروب الى اليابسة،
للكاتب الراحل محمد الحمراني/ بغداد/ دار الشؤون الثقافية /2002 ) فإن
ذلك يقع في باب –النمذجة- التي لا تمثل المنجز بصورته الواضحة ويكفي أن
أشير هنا الى روايات (الطائر والجمجمة لناظم محمد العبيدي، وبابا سارتر
لعلي بدر، والتل لسهيل نادر، والبلد الجميل لأحمد سعداوي) وروايات أخرى
لسلام نوري وكليزار أنور وذكرى محمد نادر وغيرهم ممن يسعى للإنضمام الى
التيار الروائي الشاب وهو يحاول استخلاص خفايا الواقع واستكناه ألغاز
الوجود بوسائل سردية ترتكز أولاً وأخيراً على الموروث الفني في التعاطي
مع القص ولكنها تنطوي على نكهة التفرد في الوقت نفسه سواء في الموضوعات
أو في طرائق السرد والأبنية الفنية كلٌّ حسب ما تتيح له قدراته
الأسلوبية وغيرها. وعلى الرغم من أن ( الواقع المندرس) هو النبع الذي
تنهل منه (الهروب الى اليابسة) أحداثها وأفكارها إلاّ أن عملية –الإحتيال-
على هذا الواقع هو الهدف الأسمى لها.وخير فن كما يقول غوتيه هو الذي (يهبنا
وهماً عن حقيقة أرفع) وفي ضوء هذا نعيش مع (الهروب الى اليابسة) وهماً
سحرياً عن حقائق اندرست في تربة الزمن حيث يسخّر محمد الحمراني إرثاً
ميثولوجياً لعالم الهور بإسلوب عفوي صادق يتغلب على الماضي والراهن في
عملية سرد تتسم بالطابع الإسطوري يدعمها مسح طوبوغرافي ورصد إيهامي
ناجح لدقائق المكان. وقد تلفعت بنية السرد بالصدق الفني في حده الأقصى
فولجت أسرار الهور ورسمت حيوات الناس والحيوان برهافة لا تضاهى ابتداءاً
من قرية (الكفاخ قديماً/ الطويّل فيما بعد) الى شوارعها وبيوتها
وأسواقها وليس انتهاءاً بقصب الهور ومسطحاته المائية ومشاحيفه.
وسيظل الطابع الإيهامي المحلّى بالخيال مرتكزاً فنياً قائماً في
بناء الرواية وشخصياتها وأولها شخصية (عويّد) الحقيقية/ الإسطورية
ومثيلتها شخصية (خليّل بن عويّد) فهاتان الشخصيتان متقاربتان من حيث
البناء الروائي الذي يعطي للشخصية بعدها الكامل في ظل مناخ عجائبي
متخيل يطبعها بطابع التفوق ويحاذي هذا الرسم أو التصوير الروائي سرد
حكواتي ميثولوجي يضج بطقوس الختان والأعراس وحيوات يكللها الكفاخ
الإنساني ويطبعها شظف العيش والصراع من أجل البقاء وقد بثّ الحمراني
سنن (واضحة) في طيات النسيج السردي …لكن تبقى هناك ألفة الحيوان
والإنسان والطبيعة معاً عندما يكون صوت الإنسان مدعاة للطمأنينة وهو
ينادي الجواميس ( ألحاد …حاد …حاد …حو..) عند ذاك يتحد الثلاثي
اللصيق،الطبيعة،الحيوان، الإنسان كأروع ما يكون عليه التلاحم والتعاضد
الأبدي.
ويتخلص الحمراني من وتيرة السرد التراتبي عندما يهيكل روايته في
لقطات وفواصل مبعثرة لا يسلسلها سوى الترقيم المتتالي أما من حيث
المعمار الفني فللقارئ حرية جمع اللقطات وتأخيرها في لوحة تشكيلية
متناغمة وإن تباينت الألوان –خفوتاً وسطوعاً – وهذا ( ما يحسب لصالح
الجهد الشاب في كتابة الرواية).
ومما يثير الإنتباه حقاً هو توجيه محمد الحمراني ( كاميرته السردية)
الى أماكن متعددة في وقت واحد ثم قيامه ببعثرة هذه اللقطات في لوحة
النسيج السردي بصورة عشوائية (كما ذكرنا سابقاً) أي أننا كقراء سنلاحظ
في معظم الحالات انفصالاً حدثياً وزمنياً بين المشاهد الروائية
المسرودة على نحو فيه الكثير من العفوية والصدق.
فعندما ننتهي من مشهد موت التاجر الذي يتطاول على عذرية عالم الهور
وأسراره وفي الوقت الذي نتوقع فيه ديمومة صراعات وإرهاصات هذا العالم
بتفاعل وتطور هذه الواقعة.في هذا الوقت نجد أنفسنا في عالم آخر ليس له
علاقة بالتاجر وتحديه للهور وجبروته حيث تنتقل (الكامرة) الى التصوير
الدقيق لشوارع مدينة (الطويّل) بأسواقها وشوارعها ومدارسها ونهرها
الطويل أو الى طقوس الختان أو الى رحلة الراوي البكر في الماء وعلاقته
الإسطورية مع الطين لتنتقل بعد ذلك الى شخصية عويد وطقوسها وتفاعلاتها
مع دقائق الأمور في عالم الأهوار بأناسه وقصبه وحيواناته ثم ما نلبث أن
نفاجأ بـ (خليّل) وصراعه الدائم مع الأغراب الذين يحاولون اختراق سرية
المكان وطلاسمه.
ومع هذا كله سوف تحس أن الشعور المهيمن في عموم مساحة السرد هو ذلك
التآلف الفائق مع هذه البيئة وأسرارها وغوامضها إذ أن الحمراني شحن
روايته بمشاهد متلاحقة من خصائص لا يمكن أن تجد لها مكاناً في أجواء أو
بيئة أخرى في الوقت الذي أسبغ عليها روحاً مميزة ذات نزعة إنسانية
فاعلة وهذا ما جعل من هذه (البيئة وخصائصها) ذات ميزة متفردة منطوية
ولكنها ملفقة بروح إنسانية خالصة.
وهناك تلك العلاقة الملحاح الغريبة بين شخصيات الرواية من جهة وبين
الماء والطين من جهة أخرى.فالراوي تربطه علاقة مصير أبدي غريب مع الماء
تتأرجح في صراعات غريبة أيضاً وتبدأ منذ أن وضعوه وليداً في (طشت)
الماء عندما صرخ صرخته الأولى في عالمه الجديد الذي يلخصه بأنه (عالم
مائي صرف) وفي ذلك إيحاء واضح عن طبيعة علاقة إنسان الأهوار مع بيئته
وتندرج هذه العلاقة ضمن المسار الأسطوري الذي شمل أغلب شخصيات الرواية
غير الثانوية ودائماً ثمة دهشة الإكتشاف الأول لعالم الماء نعيشه في
رحلة متواصلة مع أحداث الهروب الى اليابسة.
إن الحمراني بروايته هذه يقدم محاولة أرى أنها ناجحة ويمكن أن تدرج
تحت يافطة الروايات الجيدة التي عالجت عالم الأهوار وإذا أدركنا أن
كثيراً من السرد قد أخفق في التعاطي مع هذا العالم الغامض والشاسع في
آن فإننا سنرى سببين لنجاح هذه الرواية.. الأول عفوية السرد لأفكار
ووقائع ليست جديدة لكنها مؤطرة بإطار أسطوري مدهش، والثاني استبطان
الرواية لطقوس وتقاليد سائدة آنذاك (بكامرة سرد) تتدخل في الوقت
المناسب في (ترتيش) المشهد الروائي فنياً. ولعل ما ذكرته آنفاً عن
الهروب الى اليابسة يشكل من حيث الجانب الفني مرتكزات سرد يمكن بدورها
أن تعطي صورة متقاربة للنشاط الروائي الشاب في العراق. |