الأزمة السياسية التي تعصف بالعراق اليوم تعتبر داخلية بالدرجة
الأولى. هذه الأزمة لا تكمن في قانون الانتخاب، ولا في آلية التصويت
للقائمة المغلقة أو المفتوحة، ولا حتى في الخلاف القائم بين المكونات
الثلاث - الأكراد والعرب والتركمان - حول مدينة الكركوك، إنما الأزمة
الحقيقية تكمن في عقليات رجالات الدولة، الذين يرون ضرورة تضخيم دور
الدولة، وبالأحرى دور الحكومة في مقابل تقليص دور المحافظات ومؤسسات
المجتمع المدني.
ففي الوقت الذي يعمل فيه تيار رئيس الوزراء (نوري المالكي) حسب
الشعار الذي يرفعه على تعزيز دولة القانون في العراق، نجد هذا التيار
بموازاة ذلك يتحرك بقوة على تعزيز دور العشائر والفكر العشائري في
العراق! وهذا الأمر في حدّ ذاته تناقض فاضح ومريب، فلا يمكن أن تجتمع
دولة القانون مع الفكر العشائري؛ ذلك لأن الدولة تحكمها المؤسسات،
بينما العشيرة يحكمها زعيم العشيرة الأوحد.
لا يستطيع أحد إنكار الدور الوطني والديني لعشائر العراق طوال
التاريخ السياسي لهذا البلد، كما لا يمكن في نفس الوقت نسيان الولاءات
الصادقة أو الكاذبة التي أظهرها بعض رؤساء العشائر لحكم صدام إمّا حبًا
أو كرهًا. إن حب العشيرة أو القبيلة شيء محمود، بينما العصبية القبلية
والعشائرية آفة تنخر في جسم بعض المجتمعات العربية، وخاصة المجتمع
العراقي. طوال التاريخ عكف الساسة العراقيون على اللعب بورقة العشائر،
وبعد سقوط صدام برز دور العشائر بقوة على الساحة السياسية، وبعد تصعيد
العمليات الإرهابية عمدت حكومة المالكي، وبدعم من القوات الأمريكية على
إبراز الدور العسكري لبعض العشائر، وقد تجلّى ذلك في مجاميع الصحوة
التي تصدت للجماعات التكفيرية.
(ائتلاف دولة القانون) الذي أعلن عنه المالكي في الأول من هذا
الشهر يعتبر خطوة ذكية، لكنها محفوفة بالمخاطر، واحتمالات نجاحه تعدّ
ضئيلة؛ فتجميع المكونات السياسية والمذهبية والعرقية والعشائرية
المختلفة ضمن كيان سياسي واحد ليس بالأمر الهين، خاصة في ظل الوضع
العراقي الحالي، ونجاح أي كيان سياسي بعيداً عن المحاصصة الطائفية في
ظل المرحلة الانتقالية يعتبر عملاً خارقًا. والسؤال الذي يطرح نفسه: هل
يصمد الائتلاف الجديد أمام العاصفة القادمة في شهر يناير القادم حيث
موعد الانتخابات البرلمانية؟
يجب أن لا ننسى بأن الكيانات السياسية قد عودتنا على النقل
والانتقال من ائتلاف إلى آخر. هذا الفك والربط، والانشقاق والاختراق،
والقطع واللصق قد أربك العملية السياسية برمّتها، وأضعف الحياة
البرلمانية.
السؤال الذي يراود كل متتبع للشأن العراقي هو: لماذا يسعى رئيس
الوزراء (نوري المالكي) لإرجاع العراق إلى النظام المركزي في إدارة
الدولة؟ الجواب قد نجده على لسان نائب الرئيس العراقي (عادل عبد
المهدي) الذي صرح للصحافة قائلاً: “إن المشكلة الكبيرة التي تعاني منها
البلاد اليوم هي تضخم دور أجهزة الدولة على حساب النشاطات العامة،
ومنها الثقافية، والعلمية، والاقتصادية ما يعطل دور المجتمع بكافة
فئاته من دون أن يفصل دور الدولة الفعال والإيجابي، بل ينتهي في
النهاية إلى مصلحة أشخاص وشبكات دون الناس والمواطنين”.
المالكي يرغب في تجميع السلطات الموزعة على الأقاليم وحصرها بيد
السلطة المركزية وهذا ما تخشاه الكيانات السياسية المشاركة في العملية
السياسية؛ ذلك لأن الشعب العراقي قد عانى كثيراً من دور السلطة
المركزية، ولا يرغب العودة مجدداً إلى عهد الظلمات.
وأما بخصوص نبذ المحاصصة الطائفية، فإني أشاطر المالكي في موقفه،
ودعوته إلى تشكيل حكومة الكفاءات، لكنني كما أشرت في مقالي السابق أرى
ضرورة التدرج في العملية السياسية بعيداً عن المجازفات السياسية، وأرى
في (الديمقراطية التوافقية) أفضل خيار للعراق الذي يمر اليوم بمرحلة
مصيرية. |