ينبغي على الدولة ألا تظل راعية لاحتياجات المواطنين المادية، منذ
ولادتهم وحتى مماتهم.
ولا يُنتظر من الدولة أن تتدخل لحل جميع المشكلات العالقة بين
الأفراد والطوائف الدينية والجماعات السياسية. وليس مطلوبا من الدولة
أن تتحول إلى صندوق لدعم المشاريع الخيرية. إن جُل المطالبات السابقة
تنبثق من تراث طويل من ثقافة عدم الشعور بالمسؤولية، وإلقاء أعباء
التطوير على الدولة، وهي أحد نتاجات الدولة الريعية الحديثة التي
استفادت من موارد البترول في عملية البناء والرعاية، لكنها أدت إلى
تهميش دور المجتمع ومؤسساته ومنظماته المدنية، وتضخيم دور الدولة
ومسؤوليات الحكومة.
لكن الدولة مطالبة بتأسيس «هوية وطنية» يستظل تحتها جميع المواطنين
على مختلف انتماءاتهم وتوجهاتهم الفكرية والدينية والسياسية
والاقتصادية، وينتظر منها العمل على تحقيق العدالة والإنصاف الوطنيين،
بغض النظر عن القوة التي يستند إليها بعض المواطنين على حساب بعضهم
الآخر، فالانتماء السياسي للدولة هو الضمانة الوحيدة التي يفترض أن
تُمكن الأفراد في الدولة الحديثة من الحصول على حقوقهم كاملة، وبغض
النظر عن التصنيفات الفرعية كافة التي يتفنن البعض في تضخيمها وعملقتها
لحجب حقوق المغايرين دينيا أو سياسيا.
تحقيق العدالة يعتبر الشرط الأساس للنجاح في مشروع بلورة هوية جامعة،
ومن دون العدالة لا يمكن للأفراد أن يشعروا بقوة انتمائهم للدولة، أو
بكونهم معنيين بالدفاع عن مكتسبات الوطن، بل تميل الغالبية العظمى من
المواطنين في دولة المتنفذين إلى الإهمال واللامبالاة، وتنتشر بينهم
الرغبة في عدم التعاون في تطبيق القوانين أو الإلتزام بها، ولعل ذلك
الشعور يُمثل الفارق النوعي بين حجم اهتمام المواطنين بالقانون في
الدول الغربية وبعض الدول الآسيوية، والتزامهم بحذافير القانون، مهما
بدا بسيطا وثانويا، وإعراضنا التام عن ذلك.
الذين أتيحت لهم الفرصة للسفر إلى بلدان مثل سنغافورة وماليزيا،
يمكنهم المقارنة بين سلوك المواطن السنغافوري أو الماليزي والتزامه
الطوعي بأبسط القوانين المرورية والبيئية دونما تذمر، وتشنيعه للمخالف
بوصفه فردا شاذا عن طبيعة المجتمع وثقافته.. من جهة، وسلوك المواطن
العربي في معظم العواصم العربية، والعزوف العربي عن الالتزام، حتى
بالقوانين التي فرضت لحماية الأفراد وصيانة حياتهم، هذا العداء بين
الفرد العربي والقانون، ورغبته الدائمة في كسر القوانين والأنظمة
العامة في الدولة متى ما أتيحت له الفرصة لذلك، إنما نابع من الشعور
بانعدام العدالة، وأن القانون لا يطبق إلا على عوام المواطنين والضعفاء.
وينعكس ذلك الشعور أيضا في نزوع المواطنين إلى خلق تعارض وتضاد بين
هوياتهم الفرعية وهويتهم الوطنية، ويطرح بعض المتشنجين منهم فكرة
استحالة الجمع بين الهويتين، لكون الوطنية حالة طارئة ومتغيرة، بينما
الهوية الفئوية أصيلة وثابتة، وبالتالي فإن كل جماعة تعتني عادة بالفزع
لأبناء قبيلتها أو مذهبها ولا تُعير باقي المواطنين، أو القانون العام،
الكثير من الاهتمام، ويبحث الأفراد داخل كل هوية فرعية عن مصادر قوة
خاصة بهم يتعدون من خلالها على حقوق الآخرين ومكتسباتهم.
ويتأكد الفصل بين الهويتين مع تنامي الإحساس بالأقلية، وهو إحساس
نابع من ثقافة انعزالية تتصاعد من داخل كل جماعة لتُعمق الإحساس بالخطر،
وتطلق صافرة الإنذار الداخلي لأخذ الحيطة والحذر. فالسنية السياسية،
تشعر بأنها مهددة بمستقبل مواقعها، وينبغي بالتالي أن تعزز أكثر فأكثر
نفسها بالمراكز والمناصب العليا في الدولة، والشيعية السياسية تؤكد على
كونها أقلية مغيبة، وتدعو لتكثيف حضورها الإعلامي والفضائي وتعويض
سنوات الحرمان، والقبلية السياسية تُصر على أنها مطاردة ومحاربة من قبل
النُّخبة الحضرية والتجارية، وتبرر خرق القانون لاستعادة الحقوق
المسلوبة.
ويبدو لي أن هذه الثقافة تعد من أبرز المخاطر التي تواجه دولنا خلال
الفترة المقبلة، فتنامي الشعور بالغبن الاجتماعي والسياسي، لن يبقى
أسير الشعور الداخلي أو الشكوى الشخصية، وإنما يُخشى أن يتمظهر الآن،
أو في المستقبل على هيئة انعزال وانزواء عن المحيط الوطني العام، وبدلا
من أن يكون القانون هو الحكم والفاصل بين الأفراد، تتحول القبلية أو
المذهبية إلى قانون حاكم وقائم، وتكون فيه الغلبة للأقدر على إدارة
المعركة وإزاحة الخصم.
إن تحقيق العدالة من شأنه توفير حماية قانونية للأفراد للتعبير عن
هوياتهم الخاصة في إطار الهوية الجماعية، بحيث لا يستطيع أي متنفذ،
مهما بلغت إمكاناته، أن يعتدي على الآخرين، أو أن ينتقص من حرياتهم أو
كراماتهم، في الوقت عينه الذي يتمكن فيه جميع الأفراد من التعبير عن
ذواتهم من دون أن يتعرضوا لمضايقات أو تجاوزات قانونية.
ومن الجلي أن العديد من الدول العربية تعيش حالة من التصادم بين
المصالح العامة والمصالح الخاصة، وعلة ذلك أنها قصرت في الاشتغال على
تمكين الهويات الفرعية من النمو في بيئة تعددية تسمح للفرد بأن يرث
هويته الخاصة من دون أن يشعر بتعارضها مع هويته الوطنية.
آن الأوان للاعتراف بأن معظم الدول العربية تباطأت في تصحيح هذه
الوضعيات، وتهاون بعضها في منع التمييز الذي يمارسه بعض الفئات القوية
ضد الفئات الضعيفة، في الوقت الذي يمكن التأكيد على أن إحدى وظائف
الدولة الأساسية هي إخراج المجتمع من سيادة حالة العداء والتنافر بين
الجماعات والأفراد، وتسيير حالة التصالح والتعاون في إطار وطن واحد
جامع.
* كاتب من الكويت
ahmed.shehab@awan.com |