لا جدال في ضرورة وجود الاختلاف في الحياة البشرية فبفضل هذا الموئل
الثر من الأخذ والرد استطاع هذا الكائن البشري أن يحوز على مراتب
التفوق والشرف على أقربائه من أنواع المخلوقات الأخرى إلا أن هذا
العنصر الفعال في حياة بني الإنسان يغدو في الكثير من الأحوال مصدرا من
مصادر القلق البشري لاسيما إذا انتهى الأمر بالمتجادلين إلى العنف وسفك
الدماء وعلى أية حال فان ثمة مستويات رئيسية ثلاث تتراءى أمام الباحث
في دهاليز فلسفة الاختلاف الإنساني وما ترتكز عليه من دوافع ومبررات
وما تنتهي إليه من أهداف وغايات وهي بهذا الوصف تنقسم إلى الأتي:
أولا: الاختلاف العلمي
ثانيا: الاختلاف الفكري
ثالثا: الاختلاف السياسي
الاختلاف العلمي
الملاحظ على هذا النوع من الاختلاف انه يمثل المصداق الأكبر لدلالات
الاختلاف الايجابية، فمع كل احتدام نقاش في مسالة علمية ما يمكن التوقع
بداهة ببروز عطاء جديد من شانه أن يخدم حركة الإنسان إذا ما أُحسن
استخدامه بطبيعة الحال، أما إذا تحول هذا العطاء العلمي الجديد إلى
وسائل تلحق الأذى بالجنس البشري كله أو بعضه فهذا ليس من ديدن العلم
البحت عادة بل إن الشبهات ينبغي أن تحوم حول المعطيات السياسية التي
تدفع العلوم المجردة في بعض الظروف باتجاهات مغرضة من شانها إلحاق ضرر
هنا ودمار هناك وكما سوف يرد في ما يلي من حديث.
الاختلاف السياسي
تلعب العوامل المصلحية والأنانية الدور الأكبر في استشراء ظاهرة
الاختلاف السياسي وهذا الاختلاف ليس حكرا على جماعة إنسانية دون أخرى
بطبيعة الحال ولكن في المجتمعات التي يغلب عليها طابع الفقر والجهل يمر
هذا الاختلاف تحديدا بتغييرات دراماتيكية ما أسرع أن تنتهي إلى نتائج
مؤسفة يذهب ضحيتها في غالب الأحوال من هو أكثر عرضة من سواه إلى
تداعيات عاملي الفقر والجهل أما في المجتمعات الأكثر تحضرا فقد توصل
العقلاء لديها وبدرجات متفاوتة إلى الاتفاق بصورة مدونة أو شفوية على
تنظيم وإدارة الاختلاف بحيث لا يخرج المتخاصمون إلى طور الاحتراب
والدموية فيما بينهم.
وهكذا فقد رشح عن اجتماع الكلمة في هذا الإطار ولادة جملة من
المفاهيم خرجت بدورها من رحم ما تعرف بالدساتير التي نصت على وجوب
الالتزام قولا وعملا بحقوق وحريات أساسية في مقدمتها:
* حرية الصحافة
* حق المواطنة
* المجتمع المدني
* التعددية الحزبية
* التداول السلمي للسلطات
وقد كان للمفهوم الأخير الكلمة الفصل في الحيلولة دون تطور الاختلاف
السياسي بين الفرقاء إلى الانجراف في محاذير تصفية الخصوم وإنتاج
حمامات الدم بقدر ما شكل غيابه في الدول المتأخرة عن الركب الحضاري
المتقدم إلى إحلال الموت محل الحياة.
الاختلاف الفكري
لعل ابرز ما يتقاسمه هذا الاختلاف مع نظيره العلمي من أوجه شبه
وتباين يتجلى في أن كلا من الاختلاف الفكري والعلمي من شانهما الارتقاء
أو الانحدار بمستوى حاضر ومستقبل الإنسان، ولكن موضع الاختلاف الدقيق
بينهما يكمن في أن الاختلاف الفكري بخلاف نظيره العلمي لا يُدفع دفعا
نحو الهاوية بعوامل سياسية لأنه ببساطة هو من يشكل الأرضية الخصبة
والقاعدة الحاضنة لجميع الأجندات السياسية المعروفة وتلك التي لم تُعرف
بعد حتى الآن، وأمام هذه المشكلة المستعصية طالما عاش الناس مغلوبين
على أمرهم حتى اؤلئك الذين يتخيلون توهما أنهم هم الغالبون...
واحتاج البشر مع هذه الورطة المزرية إلى رسائل تأتيهم من عالم فوق
عالمهم المتفوق، وهكذا فقد بعثت الإرادة الإلهية مع كل حقبة من تاريخ
الإنسانية بهداة تضيء مشاعلهم طرق الظلام إلا أن الفكر المضاد للنور
كان وما يزال يتوصل إلى ابتكارات ظلامية تعيد الإنسان إلى مربع
البدائية الأول ألا وهو مربع الحرب والاقتتال ودائما على أسس فكرية.
إن المطلوب من المجتمعات الإنسانية جميعا أن تنتبه إلى عظم الخطر
الذي يشكله الاختلاف الفكري بينهم لاسيما المرتكز على الأيدلوجيتين
الدينية والقومية وما ينبعث منهما من فروع مذهبية وعرقية وان يتحمل
العقلاء في هذه المجتمعات مسؤولية الإبقاء على مفاهيم التعايش السلمي
بين الناس حاضرة في الأذهان والتصرفات وبيان خطأ الفكرة التي تدعو إلى
تنميط المجتمع بلون ثقافي واحد يقمع الهويات والثقافات التي شاء خالق
الإنسان أن تكون متمايزة أو متميزة كما في قوله تعالى " ولو شاء ربك
لجعل الناس امة واحدة ولا يزالون مختلفين " وان يسعى العقلاء جاهدين
إلى نزع فتيل التطرف من الفلسفات الفكرية بكل أنواعها إلى جانب التوعية
الحثيثة بمضار الاختلاف الفكري على شعوب العالم جميعا وعدم السماح
للنهج الفكري أن يستخدم اذرعا سياسية قامعة تضر بأمن وسلامة الإنسان
وعليه فلابد من إقرار وحماية مبادئ حقوق الإنسان ذات العلاقة بحرية
الكلمة وحق المواطنة والتعددية الحزبية وضرورة الإذعان إلى مفهوم تداول
السلطات كما تمت الإشارة إلى ذلك سابقا عند الحديث حول الاختلاف
السياسي.
* مركز المستقبل للدراسات والبحوث
http://mcsr.net |