الحزب السياسي هذه المفردة التي طالما تكررت في الكتابات السياسية
والبحوث الأكاديمية حتى عدها كثيرون أساس الديمقراطية وضمانة الحرية
وجعلوا وجودها من عدمه فيصل الحكم على نظام ما كونه ديمقراطيا أم
استبداديا، بل وقالوا: كلما زاد عدد الأحزاب زادت مساحة الحرية
الممنوحة للناس. ولكن ما هي الصورة النمطية المرسومة للأحزاب في العقل
السياسي للإنسان العراقي ؟ ولماذا؟.
بصرف النظر عن المجاملات السياسية والاعتبارات العاطفية التي نحترم
أصحابها ونحترم تصوراتهم حول الموضوع، نستطيع القول أن العقل السياسي
العراقي الفردي والجمعي يحمل صورة سيئة وسلبية جدا عن الحزب السياسي،
وعندما تسأل العراقي البسيط، عن سبب الخراب وعدم الاستقرار وضياع
الحقوق في البلد، ستجد لديه إجابة جاهزة ولا يتردد طويلا في ذكرها أنها
الأحزاب السياسية، او حسب تعبير كثير من العراقيين (لوما الحزبية جان
احنه بخير).
إن هذه الإجابة السريعة والقاطعة تصعق كثير من المراقبين والمنصفين
الذين يريدون التطور والارتقاء للعراق لا لأنها صحيحة، بل لأنها توجه
الاتهام في مشاكل البلد إلى مؤسسة هي من أهم مؤسسات المجتمع المتمدن
المعاصر، المؤسسة التي بدونا ينعدم النضج السياسي، والحراك السياسي،
والرقابة المجتمعية، والتداول السلمي للسلطة، فلماذا أصبحت هذه المؤسسة
متهمة من قبل مادتها البشرية التي تشكل عماد وجودها في العراق ؟.
إن الإجابة عن هذا التساؤل ليست سهلة، ولا يستوعبها مقال واحد،
لأنها تحتاج ممن يتصدى إليها أن يحفر عميقا في الذاكرة السياسية
للعراقيين، لمعرفة الأدوار التي لعبتها الأحزاب في تعاملها معهم، سواء
عندما كانت في صفوف المعارضة او بعد استحواذها على السلطة، وعند مرورنا
السريع على ما ذكرناه آنفا تتضح لنا جملة من الأسباب التي جعلت العراقي
سلبيا في رؤيته للأحزاب منها:
أولا: الولادة الخاطئة للأحزاب في تاريخ
العراق
لا شك أن ظهور الأحزاب في البلدان الديمقراطية كان مقترنا بضرورات
سياسية واجتماعية واقتصادية، فقد ولدت الأحزاب الأوربية من رحم
الانتخابات واتساع المطالبة بالحريات والرغبة في الحد من شدة قبضة من
السلطة،وعليه كان الحزب السياسي بهذه الولادة قوة تغيير اجتماعية
مرغوبة وأداة حشد شعبي ناجحة، وضمانة مهمة للتداول السلمي للسلطة. لكن
لم يكن ظهور الحزب السياسي بمثل هذه الصورة في العراق، فأول احتكاك
للإنسان العراقي مع الأحزاب السياسية كان مع حركة الاتحاد والترقي
العثمانية، تلك الحركة التي مارس قادتها سياسة التتريك المعروفة التي
استفزت العراقي ابن القبيلة وابن المحلة وابن الصحراء ذلك الإنسان
الفطري الذي لا يعرف ما هو المبرر الذي يحمل النخبة الحاكمة على طمس
ثقافته ولغته وقيمه ومعتقداته هذا من جانب، ومن جانب أخر فأن هذه
النخبة ليست بنت البلد بل هي امتداد لقوة أجنبية تستنزف خيرات وعرق
ودموع العراقيين، فمن الطبيعي أن يكون كل ما تنتجه هذه النخبة متهما
وغير موثوق به، وإذا كان الحزب السياسي احد نتاجاتها فأن الاتهام سيلحق
به وترسم له صورة سيئة، فضلا عما تقدم فأن هذه الحال لم تتغير بعد ظهور
الدولة العراقية مطلع القرن العشرين،بل وجد العراقيون أن كثيرا من
أحزابهم السياسية تشكل إما امتداد للإرادة البريطانية المحتلة آنذاك او
امتداد لإيديولوجيات مستوردة غريبة يحاول أصحابها فرضها عليهم متناسيين
خصوصيات الزمان والمكان والحضارة، فبقي ذكر الحزب السياسي عند
العراقيين رديف لكل ما هو أجنبي طامع، او مستورد هجين.
ثانيا: عجز الأحزاب عن قيادة التغيير
الاجتماعي
تمر المجتمعات على اختلافها بتحولات ثقافية وحضارية متعددة، وكل
تحول لا بد له قيادة اجتماعية تعززها تنظيمات مؤسسية فاعلة، والمجتمع
العراقي هو واحد من هذه المجتمعات التي مرت بتحولات مهمة منذ نشوء
الدولة العراقية والى الوقت الحاضر، إلا أن ما نلاحظه في هذه التحولات
هو أن الأحزاب لم تكن صاحبة المبادرة في التغيير، بل تتأثر بالتغيير
شأنها شأن الأفراد من حيث الحرمان او المكاسب وحسب طبيعة التغيير، فلم
يكن لها مثلا دور يذكر في اختيار النظام الملكي وفرضه على الشعب
العراقي، ولم يكن لها دور في اختيار الشخص والعائلة التي يعطى لها
الملك، ولم يكن لها دور في تغيير النظام الملكي بل كانت أحيانا عقبة
حالت دون هذا التغيير وأعطت بسلوكياتها المبادرة إلى العسكر لقيادة
تغيير ملئ بالعنف والدماء، واستمر هذا الحال منذ قيام العهد الجمهوري
وحتى الوقت الراهن، وهكذا أمر جعل العراقي يشعر بقرارة نفسه أن الأحزاب
عاجزة ودورها محدودا في معالجة كثير من همومه التي يرزح تحت نيرها
وبالتالي لا نفع فيها.
ثالثا: الطابع الشخصي للأحزاب
ما يميز الكثير من الأحزاب في العراق أنها تفتقد الطابع الجماهيري
لها، فأغلبها أحزاب تدور في فلك شخصيات معينة، وتتحول هذه الشخصيات
بمرور الزمن إلى عنصر فعال في بقاء وانهيار الحزب، بل وفي تحديد برامجه
وأولوياته ونمط ائتلافاته او تحالفاته، وهذه الحقيقة يعرفها كل من يدرس
تاريخ الأحزاب العراقية سواء في عهدها الملكي ام الجمهوري، فعلى سبيل
المثال حزب الاتحاد الدستوري الذي نشأ عام 1950 وحل في عام 1954 فقد
نشأ آنذاك بقرار من نوري السعيد وحل بقرار منه أيضا، وعلى هذه الشاكلة
سارت كثير من أحزابنا فيبدو الحزب لمراقبيه وكأنه امتداد للفناء الخلفي
للشخصية المتحكمة فيه لا شأن للناس في رسم برنامجه وتحديد أهدافه
واتخاذ قراراته، ويظهر أعضاءه أمام مجتمعهم وكأنهم أزلام وأتباع
للشخصية الحزبية الرئيسة ليس إلا وهذا ما انتبه إليه تشارلز تريب في
كتابه القيم صفحات من تاريخ العراق.
رابعا: التصارع على السلطة بهدف الاستحواذ
عليها
على الرغم من أن الوصول إلى السلطة هو واحد من الأهداف التي يسعى
إليها كل حزب سياسي، فأن ما ميز اغلب الأحزاب العراقية أنها جعلت هذا
الهدف هو هدفها الوحيد المقدس ومحور نشاطاتها، فنتج عن ذلك نسيانها
لدورها في تمثيل الناس وخدمة مصالحهم، وكانت شعارات الأحزاب كل الأحزاب
هي سعيها في الحرص على مصالح العامة في حين أنها تعمل من اجل الاستحواذ
على السلطة لخدمة مصالح النخبة الخاصة، ولكون الاستحواذ على السلطة
وعدم التنازل عنها هو الهدف برزت العقلية التآمرية والتسقيطية
والاقصائية في سلوك الأحزاب وفي علاقتها بعضها بالبعض الآخر والشواهد
على ذلك كثيرة نحن في غنى عن ذكرها.
وهذا الأمر طرح إلى ساحة البحث والنقاش مسألة الكيفية التي تنظر بها
الأحزاب إلى السلطة، فهي تنظر إليها لا على أنها أداة لخدمة الشعب بل
على إنها أداة قمع له تستخدم لمنعه من رفع صوته والمطالبة بحقوقه
وحرياته، وفي ذلك خسارة للبلد من جانبين: الأول في تصور الناس لدور
السلطة حيث أنهم جعلوها مرادف لكل شر، والثاني في عزوفهم وكرههم للعمل
الحزبي كونه مرتبط بالسلطة.
خامسا: ضعف الامتداد الوطني للأحزاب
يجد من يراقب بدقة أن كثيرا من الأحزاب العراقية لم تستوعب كامل
المجتمع العراقي في برامجها، إذ بقيت على الرغم من ادعاءاتها الوطنية
أحزابا يغلب فيها الولاء الضيق على الولاء الوطني فهي إما تمثل طيفا
مذهبيا معينا او طيفا قوميا معينا او طيفا دينيا معينا بل وأحيانا طيفا
عشائريا معينا، لذا ما إن يستحوذ الحزب على السلطة حتى يمارس المحسوبية
والمنسوبية في توزيع المناصب وإقصاء بقية المكونات وحرمانها من الحصول
على حقوقها، وهذا الواقع جعل الأحزاب أداة انقسام وفرقة بدلا من أن
تكون مؤسسة تكامل وشد للحمة للمجتمع.
وهذه الأسباب الخمسة شكلت الأساس الذي جعل مفردة الحزب السياسي
تحمل صورة سلبية لدى الإنسان العراقي، لا تكاد تذكر حتى تسمع الذم
واللعن والتحسر لدى الكثير، ومثل هذا الأمر لا يمكن السكوت عنه والقبول
باستمراره إذا أردنا بناء دولة عراقية حديثة، تنفض عنها ويلات وكوارث
الدكتاتورية التي صادرت واستهانت بحريات وحقوق العراقيين وامتهنت
كرامتهم طويلا، ولكن عند النظر إلى الأحزاب العراقية التي ظهرت بعد عام
2003، نجد انه على الرغم من أن كثير من قياداتها قد عرفت ولمست مقدار
الألم الذي ينجم عن الدكتاتورية فان بعضها لم يلتفت كثيرا إلى إزالة
بذور الطغيان ومسبباته، وابرز هذه البذور هو عدم تقديمها نفسها بشكل
مقنع للشعب فوقعت في الأخطاء القاتلة التي عانت منها أحزاب العراق
السابقة، متناسية حقيقة أن العجز المؤسسي يصاحبه رفض شعبي والرفض
الشعبي معناه غياب الرضا، وعدم الرضا المستمر سينزع عن النظام السياسي
شرعيته ولا استمرار لحكم لا شرعية له.
وعليه فالأحزاب العراقية اليوم مطالبة بان تكون أحزابا تمثل شعبها
تمثيلا حقيقيا وبما ينسجم مع ظروف المكان والزمان والواقع العراقي، وان
تكون أحزابا شعبية لا أحزابا نخبوية او شخصية هدفها خدمة الناس ومعالجة
مشاكلهم، مستعدة للقيام بدورها هذا سواء كانت في السلطة او خارجها،
وقادرة على استيعاب مختلف أطياف الشعب وشد لحمته من خلال برامج وطنية
تخدمه بصرف النظر عن الاختلافات القومية او المذهبية او الدينية او
الفئوية..
وهناك بوادر مشجعة بهذا الاتجاه قد برزت مؤخرا لدى بعض الأحزاب إلا
أن المرجو أن لا يكون ذلك عملا مرحليا يزول بزوال مبرراته لان الخطر في
حال الفشل كبير واقصر السبل لتلافيه هو استعادة ثقة الإنسان العراقي
بأهمية دور وعمل الأحزاب السياسية.
* معاون مدير مركز الفرات للتنمية والدراسات
الإستراتيجية
http://www.fcdrs.com |