يتميز مصطلح الحداثة, عن غيره من المصطلحات, من أنه يستدعي الكثير
من الأسئلة والإجابات المتعددة, المرتبطة بمسيرة هذا المصطلح وواقعه
الاجتماعي والحضاري, سواء في فضاء الآخر المعرفي, أو في فضائنا
المعرفي.
ولعل هذا الاستدعاء الدائم لجملة الأسئلة والإجابات, هو من جراء
اختلاف قاعدة الانطلاق, ومعايير التقويم.
إذ إن التكوين المعرفي المختلف, هو الذي يؤدي إلى النظرات المتباينة
والعديدة لهذا المصطلح, وبإشكالياته التاريخية والراهنة.
وبهذا تداخلت المفاهيم والمضامين, بين مصطلح الحداثة, وغيره من
المصطلحات كالعصرية والجديد والتقدم.
ويبدو أن مصطلح الحداثة في هذا الإطار, وكأنه نص مفتوح, على كل
مضامين التقدم المعاصر. بحيث إنك لا تفرق بشكل صارم في الكثير من
الكتابات, بين مضمون مصطلح الحداثة, وبين المضامين التي تطرحها هذه
الكتابات لمصطلح التقدم أو العصرية أو الجديد.
ويمتد التداخل, ليشمل المعايير والقيم وأنماط السلوك واللباس وطراز
السكن, أي كل مناحي الحياة في آخر المطاف.
وعليه نجد من يمد الحداثة عالميا إلى تخوم العصور الكلاسيكية (أدونيس
في بحثه مفهوم الحداثة في إطار الإتباع والإبداع انطلاقا, من أن
ازدواجية القديم - الحديث, ثنائية شاملة تبرز في كل عصر وحين)..
وهناك من يمد المفهوم (أوروبياً) من بدايات القرن السادس عشر (1513م
تاريخ ظهور البروتستانتية)حتى يومنا الحاضر. وبذلك يشمل المفهوم بين
دفتيه ثورة الكنائس ضد الكنائس, اللاهوت المعقلن ضد اللاهوت غير
المعقلن, ثورة العلوم الطبيعية في عصر النهضة الأوروبية (كوبر نيكوس -
غاليلو - نيوتن) والثورات الفلسفية (هوبز - بيكون - ديكارت اسبينوزا -
كانط) والثورات الصناعية والثورات السياسية (هنري لوفيفر : ما الحداثة)..
فالحداثة وفق هذا الفهم بنية مركبة إبستمولوجية - إنطلوجية. ولهذا
فإن الحداثة في النموذج الغربي إدغام عناصر تقليدية في مقدمة انطلاق
الحداثة.
ويجد هذا الإندغام نفسه مظاهر شتى على حد تعبير (فالح عبد الجبار)
انطلاقة تحطيم اللاهوت من اللاهوت نفسه, انطلاقة الفلسفة من أسر
اللاهوت, الاعتراف بثنائية العقل الإلهي - العقل البشري, وبالتالي
ثنائية الحقيقة (الرشدية في صورتها الأوروبية) وانفساخ المجال لانطلاقة
العلوم الطبيعية والإنسانية, إلغاء التوسط بين الخالق والإنسان عبر
الكنيسة وبالتالي إلغاء التوسط بين الحق الطبيعي (البشري) والحق الإلهي,
تصارع و / أو تصالح الفلسفة والدين المسيحي (توفيقية ديكارت, نزعات
التصالح مع الدين المسيحي عند كانط , توحيد الدين والفلسفة في صورة
الفكر المطلقة التي تتطور ذاتيا بفعل تناقضها الداخلي, كما عند هيغل.........
الخ.
إننا نجد هذا الإندغام والحركات الملتوية, على امتداد فسحة واسعة من
التاريخ الأوروبي.
فالحداثة تعني مجمل التفاعلات التراكمية التي يدعم بعضها بعضا. وهي
تدل على رسملة الموارد وعلى تراكمها وتحريكها, وعلى نمو القوى المنتجة,
وزيادة إنتاجية العمل, مثلما تدل أيضا على تمركز السلطات السياسية
المتمركزة,وعلى تشكيل الهويات الوطنية والثقافية. (يورغن هبرماس -
الخطاب الفلسفي في الحداثة).
فالثورة الصناعية الغربية,وما رافقها من تطورات ومتغيرات هائلة على
مختلف الصعد, أنتج طفرة أو قفزة في حركة التطور الاجتماعي والاقتصادي,
بحيث توسعت قوى الإنتاج وتطور العلم والتقنية تطورا واسعا, حيث إن
التقنية جعلت الإنسان سيد الطبيعة ومالكها. وبهذا دخل العالم المتقدم
في طور جديد من التقدم, ميزته الأساسية تحول نمط العلاقة بين العلم
والتقنية.
بمعنى أن الأهمية المتعاظمة التي تمثلها الأعراض التقنية في العالم,
بحيث لم يعد هناك إنسان وطبيعة, بل هناك أنا والعالم.
وأن هذا الأنا متضمن في بيئة إنسانية - تقنية على حد تعبير(إبراهام
مول). وحسب الفيلسوف الألماني فردريك هيغل(1770- 1831م) فالحداثة بدأت
مع عصر الأنوار بفعل أولئك الذين أظهروا وعيا وبصيرة باعتبار أن هذا
العصر هو حد فاصل ومرحلة نهائية من التاريخ.
في هذا العالم الذي هو عالمنا وحاضرنا يفهم على أنه قيمومة الزمن
الحاضر انطلاقا من أفق الأزمنة الجديدة التي تشكل تجددا مستمرا..
وقد استخدم هيغل مفهوم الحداثة, ضمن أطر وسياقات تاريخية للدلالة
على الأزمنة الحديثة. وهو مفهوم زمني يعبر عن القناعة بالمستقبل الذي
سبق وبدأ والزمن المعاش, المرهون بالمستقبل, والمنفتح على الجديد
الآتي.
أما (أوزفالد شبغلر) (1880- 1936م) فقد صاغ في كتابه (انحطاط الغرب)
مفهوما للحداثة أطلق عليه حضارة الرجل الفاوستي [ نسبة إلى فاوست
والفاوستية هي محصلة خصائص الإنسان الغربي الحديث أما فاوست فهو
العملاق المبدع النهم الذي لا يشبع طموحه وظمأُه إلى المعرفة, ولا
يتوقف في البحث عن الحقيقة المطلقة. والنموذج الفاوستي هو عكس النموذج
الأبولوني - الديونيزي نسبة إلى الإله أبولو الديونيزي في الأساطير
الإغريقية. وفاوست عند الشاعر الألماني (غوته) هو العبقري المغامر دوما
وبلا هوادة نحو المعرفة ]..
ومن خلال هذا العرض المقتضب, نستطيع أن نقرر أن مفهوم الحداثة
يمكننا تعريفه من خلال النقاط التالية :
1- إن الحداثة ليست مجموعة من الشكليات والعناوين ذات المضمون
الضحل. وإنما هي مرحلة تبلغها المجتمعات من خلال عملية التراكم
التاريخي, والجهود التي يبذلها أبناء المجتمع في سبيل الخروج عن القصور
الذي يقترفه الإنسان في حق نفسه, وعجزه عن استخدام عقله وإمكاناته في
سبيل البناء.
2- وإن أكثر ما تتطلبه الحداثة للنمو والبروز في أي حركة اجتماعية.
الحرية بمعنى الاستخدام العلني للعقل في أمور المجتمع وقضاياه
المختلفة. ولهذا نجد في التجربة الأوروبية, أن هناك علاقة طردية, تربط
مستوى الحداثة مع انبثاق مبادئ حقوق الإنسان والفلسفة العقلانية وفكرة
التقدم الاجتماعي.
3 العقلانية : ويمكننا أن ندرك هذه الرؤية السوسيولوجية أيضا في علم
الاجتماع النقدي, الذي طرح العلاقة الجدلية المباشرة بين تطور التفكير
العقلاني والتطور التكنولوجي, الذي أدى إلى الهيمنة الشاملة على
العالم. بحيث لم يعد العالم في ظلها سوى مجال للمراقبة والخداع حيث
تحولت مبادئ التنوير والحداثة, إلى ذرائع سياسية متكاملة. |