مفهوم القطيعة المتداول بين الناس في خطاباتهم الثقافية
والاجتماعية, الشفهية والكتابية, هو غير مفهوم القطيعة المتداول في
الكتابات والدراسات العلمية والفلسفية, ولا يتعلق هذا الأمر بمفهوم
القطيعة فحسب, وإنما حدث ويحدث لمفاهيم أخرى أيضاً, ولعله يجري في
مختلف الثقافات على تعدد وتنوع مرجعياتها وأصولها الدينية والفلسفية,
اللغوية واللسانية, العرقية والقومية, وليس في نطاق الفكر الإنساني
الحديث, بل حتى في نطاق الفكر الإنساني القديم, ويحدث بصورة طبيعية,
ولا خشية فيه حين حدوثه.
ليس هذا فحسب, فقد يختلف معنى المفهوم من حقل علمي إلى حقل علمي
آخر, مثال ذلك مفهوم القياس الذي له معنى عند أهل المنطق, يختلف عن
المعنى الذي عند أهل أصول الفقه, ويعرف الأول بالقياس المنطقي, ويعرف
الثاني بالقياس الأصولي, وهكذا في مفاهيم أخرى.
كما قد يختلف المفهوم أحياناً من زمن إلى آخر, ومن مجتمع إلى آخر,
ومن لغة إلى أخرى, ومن ثقافة إلى أخرى, وهناك أمثلة على كل هذه الحالات,
قريبة من أذهان البعض, وغير قريبة من أذهان البعض الآخر.
والاختلاف الحاصل حول مفهوم القطيعة, يرجع بشكل أساسي إلى طبيعة
المفارقات بين المجال الاجتماعي المعبر عن مشاعر ومواقف وسلوكيات عموم
الناس, والذي يتصف بالعفوية والتلقائية والتسامح, وبين المجال المعرفي
المعبر عن تأملات وأفكار ونظريات شريحة العلماء من الناس, والذي يتصف
بالضبط والدراية والإحكام.
والذي بحاجة إلى توقف في هذا الشأن, هو المفهوم الذي يتصل بالمجال
المعرفي, لأنه المفهوم الغائب أو البعيد عن إدراك عموم الناس, ولكونه
المفهوم الذي يتصل بخبرات معرفية, وبحقول معرفية هامة ومؤثرة.
وفي هذا المجال المعرفي, جرى تداول مفهوم القطيعة المعرفية في
مجالين أساسيين هما العلم والفلسفة, في مجال العلم ارتبط هذا المفهوم
بالمفكر الفرنسي غاستون باشلار صاحب كتاب (الفكر العلمي الجديد), وأراد
منه القول أن العلم لا ينمو ويتقدم دائماً عن طريق التتابع والاتصال في
حركة مستمرة وممتدة من الماضي إلى الحاضر, ومن القديم إلى الجديد,
مثلما تنمو الشجرة متتابعة وبلا توقف من خلال الزمن المتصل, وإنما ينمو
العلم ويتقدم عن طريق القطيعة والانفصال.
بمعنى أن العلم أو الفكر العلمي يتشكل ويستند في كل مرحلة من مراحله
على كتلة من المفاهيم الأساسية, التي هي الأساس في توليد المعرفة
وإنتاج العلم, وبعد أن تصل هذه المفاهيم إلى حد الاستنفاد كاملاً تحدث
أزمة في حركة وبنية العلم والفكر العلمي, الأزمة التي لا تعالج في نظر
باشلار إلا من خلال ابتكار مفاهيم جديدة, تكون مغايرة للمفاهيم
السابقة, ومنفصلة عنها, بطريقة تنعدم حاجة العودة إليها.
ولعل هذا ما يفسر في رؤية باشلار حركة التقدم المستمرة في الفكر
العلمي الأوروبي, الذي ظل يشهد قطيعات معرفية منذ غاليلو إلى اليوم.
ومنذ باشلار بقي مفهوم القطيعة حاضراً في المجال التداولي الأوروبي
والفرنسي بشكل خاص, وبات عابراً بين الحقول المعرفية, ومتحولاً في
استعمالاته اللغوية والاشتقاقية, كالتحول من القطيعة بصيغة المفرد إلى
القطيعات بصيغة الجمع, وسيظل هذا المفهوم على ما يبدو متحركاً في
المجال التداولي العام بوصفه أحد المفاهيم التفسيرية والتحليلية لتاريخ
تطور حركة العلم والفكر العلمي في المجال الأوروبي.
وفي هذا الشأن يأتي كتاب (زمن القطيعات.. حول الأصول الثقافية
والعلمية للقرن الحادي والعشرين) الصادر في باريس سنة 2004م, لمؤلفه
أستاذ الفيزياء في المدرسة العليا للفيزياء والكيمياء الدكتور بيير
بابون الذي سبق أن شغل منصب المدير العام للمركز القومي الفرنسي للبحث
العلمي, وصاحب كتاب (أوروبا العلمية والتكنولوجية).
في هذا الكتاب حاول بابون التأكيد على أن ما حصل منذ مطلع القرن
العشرين من كشوفات وتطورات متعاظمة ومذهلة في شتى المجالات, أدى إلى
ثورة فعلية في أنماط الفكر وأنماط الحياة عموماً, وأحدثت هذه التطورات
قطيعات حقيقية مع مفاهيم العالم المتوارثة من الماضي, وأعلنت عن ولادة
زمن جديد, وأنماط جديدة للإنتاج المنهجي للمعرفة العلمية والكشوفات
العلمية, تصلح في نظر بابون أن تكون بمثابة الأصول الثقافية والعلمية
للقرن الحادي والعشرين.
مفهوم القطيعة المعرفية في المجال العربي
لعل أكثر من عرف بمفهوم القطيعة المعرفية في المجال العربي, هو
الدكتور محمد عابد الجابري الذي لا يخفي أخذه هذا المفهوم من المفكر
الفرنسي غاستون باشلار, ونقله من مجال تاريخ العلم إلى مجال تاريخ
الفلسفة, وتحديداً تاريخ الفلسفة العربية الإسلامية, وإعطائه بعداً
أوسع من البعد الذي كان يعطى له في المجال العلمي من جهة المعنى.
وأشار الدكتور الجابري لهذا المفهوم, وعرف به في كتابه (نحن والتراث)
الصادر سنة 1980م, وذلك في محاولة منه لتطبيقه في قراءة التراث الفلسفي
العربي الإسلامي, بقصد تكوين قراءة معاصرة لهذا التراث, منطلقاً من
خلفية أساسية يقررها بقوله (إن تجديد العقل العربي يعني في المنظور
الذي نتحدث فيه, إحداث قطيعة ايبستيمولوجية تامة مع بنية العقل العربي
في عصر الانحطاط, وامتداداتها إلى الفكر العربي الحديث والمعاصر).
وارتبطت قراءة الجابري للتراث بهذا المفهوم الذي تمسك به, وانجذب
إليه, وظل مدافعاً ومنافحا عنه أمام منتقديه, وبات يشكل مدخلاً في
تكوين المعرفة بهذه القراءة, وفيصلاً للتفرقة مع القراءات الأخرى, بحيث
لا يمكن تكوين المعرفة بهذه القراءة بعيداً عن هذا المفهوم, كما لا
يمكن نقدها أيضاً خارج نطاق هذا المفهوم.
وحسب رؤية الجابري فإن القطيعة مع التراث لا تعني القطيعة بمعناها
اللغوي الدارج, وإنما تعني في نظره التخلي عن الفهم التراثي للتراث, أي
التحرر من الرواسب التراثية في عملية فهم التراث.
وبمعنى آخر أن القطيعة التي يدعو إليها الجابري ليست قطيعة مع
التراث, بل قطيعة مع نوع من العلاقة مع التراث, القطيعة التي تحولنا
حسب قوله من كائنات تراثية, إلى كائنات لها تراث.
وظهر الجانب التطبيقي لهذا المفهوم حين درس الجابري العلاقة بين ابن
رشد وابن سينا في داخل الفلسفة الإسلامية, متخذاً من محاولة الفيلسوف
الفرنسي ألتوسير في تطبيق هذا المفهوم على العلاقة بين ماركس وهيغل في
داخل الفلسفة الأوروبية الحديثة نموذجاً.
في هذا الدرس وجد الجابري أن ابن رشد لا يمثل تكملة لابن سينا, ولا
استمرارا له, بل هو ثورة عليه, ويسمي هذه الثورة قطيعة من ناحية النقد
الايبستيمولوجي لتاريخ الفلسفة, أي أن ابن رشد قطع مع ابن سينا الذي
كان يمثل قمة الفلسفة في المشرق, بحيث لا يمكن العودة من ابن رشد إلى
ابن سينا أو الفارابي, مثلما يمكن العودة من الملا صدرا الشيرازي إلى
السهروردي مباشرة ثم إلى ابن سينا فالفارابي.
وعلى هذا الأساس يعتقد الجابري أن الفلسفة في الأندلس, وخلافاً لما
كان جارياً ليست استمراراً للفلسفة في المشرق, وتبين له حسب قوله أنه
قد نشأت في الأندلس مدرسة تختلف تماماً عن المدرسة الفلسفية في المشرق,
لا من جهة المضمون الفلسفي والمضمون الأيديولوجي اللذان يختلفان على كل
حال من مكان إلى مكان, ومن زمان إلى زمان, ولكن من جهة المنهج والرؤية
والإشكالية.
هذا التصور أثار ردة فعل سلبية في المشرق العربي, واعتبره البعض أنه
كرس ضرباً من القطيعة بين المغرب والمشرق, وأظهر تحيزاً واضحاً إلى
جانب المغرب في مقابل المشرق, وكأنه جاء ليضع حداً لما يقال عن تبعية
المغرب إلى المشرق, وليعيد الاعتبار إلى المغرب, بل ويعلن عن تميزه
وتفوقه أيضاً, بوصفه يمثل مشروعاً ثقافياً ذا طابع عقلاني, في مقابل
مشروع ثقافي مشرقي ذي طابع غنوصي غير عقلاني.
الكلام الذي دفع البعض لتصوير هذا الموقف بأنه ضرب من الشوفينية
المغربية, الأمر الذي يفسر شدة الحنق والانفعال من ذلك الكلام.
الموقف الذي استغربه الجابري واندهش منه, واضطره على أن يوضح هذه
المسألة من جديد في مقدمة الطبعة الثانية من كتابه (نحن والتراث)
الصادرة سنة 1981م, لكنه التوضيح الذي أعاد فيه الجابري ما سبق أن ذكره
من قبل, وأكد عليه, فجاء توضيحه دفاعياً في المنحى العام.
في هذا التوضيح أشار الجابري إلى أنه استعمل مفهوم القطيعة المعرفية
بطريقة إجرائية لا غير, ساعدته كما يقول في تكوين إدراك أعمق لخصوصية
فكر المشرق, وخصوصية فكر المغرب, ومكنته من ملاحظة أشياء لم يكن يلحظها
من قبل.
وأراد الجابري من هذه الملاحظة التأكيد على أمر مزدوج, على تفريغ
قراءته للتراث من الطابع الأيديولوجي, وإعطائها الطابع المعرفي من جهة,
وعلى إلباس الطابع الأيديولوجي لموقف الناقدين له من جهة أخرى.
بمعنى أن الجابري أراد القول أن المشكلة ليست مشكلته الذي لم يكن
أيديولوجياً في قراءته, وإنما هي مشكلة النقاد الذين نظروا إلى كلامه
من زاوية أيديولوجية, وأهملوا الجانب الإجرائي.
ومن جانب آخر, وفي سياق الرد والتوضيح يرى الجابري أنه استعمل مفهوم
القطيعة المعرفية لكي يتجنب استعمال مفهوم الخصوصية لأنهما يختلفان
تماماً, فالخصوصية في نظره تحيل إلى الشروط الاجتماعية والتاريخية ومن
ضمنها الخصائص القومية, في حين أن مفهوم القطيعة الايبستيمولوجية يجعل
التحرك داخل نفس الثقافة وبعيداً عن الاعتبارات القومية. وبالتالي فلا
معنى في رأيه للتخوف من انزلاق هذا المفهوم إلى تكريس نزعة شوفينية,
لأن إجرائية هذا المفهوم ينحصر مفعولها في الميدان الايبستيمولوجي
المحض, ولا يتعداه إلى غيره.
فهل كانت من حسنات استعمال هذا المفهوم إثارة كل هذا النقاش حسب قول
الجابري نفسه, قد تكون هذه من حسناته, لكن لو كان النقاش بطريقة
مختلفة!
* باحث في الفكر الإسلامي والإسلاميات
المعاصرة
رئيس تحرير مجلة الكلمة
www.almilad.org |