للإنسان، في المنظور القرآني، بُعدان أحدهما مادي والآخر معنوي.
والبعد الذي يصوغ شخصية الانسان هو بعده المعنوي، وكلما كان الإنسان
أكثر عقلانية وحكمة، فإنه يتحرك نحو وضع بعده المادي في خدمة بعده
المعنوي. وتحفل كتب الحديث بالروايات التي تتحدث عن الحياة الدنيا
بوصفها لحظة عابرة بالنسبة إلى مسيرة الإنسان التي ابتدأت بمرحلة ما
يعرف بعالم الذر، مرورا بعالم الأرحام، وصولا إلى هذه الحياة، وانتقالا
إلى عالم الموت ثم البرزخ، وانتهاء بالآخرة، وكلما كانت معنويات الفرد
أكثر ارتقاء وتساميا، استطاع أن يستوعب انسجام تلك العوالم ويضع الحياة
في حجمها الطبيعي.
وتعتبر مرحلتا عالم الأرحام والحياة الدنيا أقصر تلك المراحل،
لكنهما الأكثر حساسية، بوصفهما عالم الاختبار والابتلاء والإنجاز،
ويدعم ذلك جملة من النصوص الشريفة التي تصف الحياة بالنسبة إلى باقي
العوالم الأخرى بأنها مجرد ساعة من نهار.. أنظر مثلا الآية 35 من
الأحقاف «كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار»، ولذا
فإن التوجيه الديني يُركِّز على ضرورة أن يتعامل الإنسان مع هذه
المرحلة الدقيقة بالكثير من الذكاء والفطنة، وعدم التفريط بها في
ارتكاب الجنايات والجرائم بحق النفس أو ضد الآخرين.
وفي الوقت الذي مال الفهم التقليدي لتفسير تلك النصوص، بكونها حاثة
على العزوف عن الحياة واعتزالها، والزهد في خيراتها، وتُرجم ذلك الفهم
عبر توجه المدارس الدينية نحو تأليف الكتيبات والنشرات المجانية التي
تتحدث عن الموت وعذاب القبر، وسؤال منكر ونكير، والبرزخ وغيرها، فإن
ثمة فهما حديثا يميل إلى ان المقصد من تلك النصوص ليس اعتزال الحياة أو
نبذها، وإنما هو إشعار الفرد بالمسؤولية والجدية في الحياة، وذم سلوك
التهاون لدى التعامل معها.
فالحياة -بمعناها الواسع- لها قيمة كبيرة في المفهوم الإسلامي، وهي
هبة إلهية لا يجوز لأحد أن يسلبها من مخلوقات الله إلا وفق الإحتياجات
الضرورية لتمام الحياة ذاتها، مثل ذبح الأنعام وقطف الثمار وغيرها، فلا
يحق للانسان أن يعتدي على الحياة البيئية، أو يمارس الصيد الجائر، أو
يقتلع الأشجار من دون سبب واضح. وفي الوصية النبوية للجيش الإسلامي «لا
تقتل طفلا، لا تقتل امرأة، لا تقتل شيخا، لا تجهز على جريح، لا تطارد
مولياً (هارباً)، لا تقطع شجرة مثمرة، ستجدون أناسا جلسوا في الصوامع
يعبدون ربهم فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له».
لقد منحت الحياة لبعض المخلوقات قيمة استثنائية، وتميز بعض الأحياء
بالعقل لتحمل مسؤولية أداء تلك القيم. إن أهمية الأديان والفلسفات تكمن
في تقديمها القيم على الشهوة ( السلطة- المال- الجنس) حتى لا تتحول
الحياة إلى مجرد لحظات من السطوة والوصاية السياسية والاقتصادية
والاجتماعية، وتغيب دور الانسان ومكانته الفريدة بين الخلق لصالح مظاهر
المدنية والتطوير والعمران، بما يفسح المجال للفساد بمختلف أشكاله
ورجاله بأن ينخر جسد الأوطان، ويشل الإرادة العامة، وينتهك كرامات
المواطنين. والدفع في اتجاه أن تكون الحياة لحظة إنجاز وحرية وعطاء
وتفاهم وعيش مشترك، فتكون الحياة وطنا للحرية، والعمران كرامة
للمواطنين، والسياسة آلية لمقاومة الفساد، والحكم أداة لتحقيق العدالة،
والعمل على بلورة مجتمع مدني، وبناء دولة المؤسسات التي يأخذ الأفراد
فيها دورهم ومكانتهم كفاعلين أساسيين في تحديد شكل حياتهم وتحديد
مصائرهم.
وتقوم حكمة الإديان على أن الإنسان العاقل لا يتعدى على مخلوقات
الله لإرضاء غروره ولذاته، ولا يقدم بعده المادي على بعده المعنوي..
لذا فإن المنظمات والجهات التي تتصدى للذبّ عن حقوق الإنسان، وترسيخ
مبدأ المشاركة، وتفعيل العمل المؤسسي، بل وحتى تلك التي تشرف على حماية
البيئة وتقاوم التلوث، وتدافع عن حقوق الحيوان وأمثالها، إنما تتفق
أهدافها العامة مع الشرائع السماوية كافة، وهو ما يُحسن من فرص
الإلتقاء بين الفلسفات الحديثة والشريعة الإسلامية.
وهي بمثابة النافذة المفتوحة على قبول قيم التعددية والتسامح،
وإرساء قيم الإختلاف وقبول الآخر، وإشاعة ثقافة التعايش والحوار بين
الأديان والثقافات والشعوب، وتحقيق التنمية والتقدم بواقع المجتمعات،
وعدها من جملة القيم التي حثّ، بل وحرّض الإسلام عليها، وأن العمل على
تغييبها وإهمالها، إنما يدل على عجز المسلمين على اللحاق بركب الحضارة،
وليس على عجز الإسلام عن استيعاب ذلك التطور، فالدين له القابلية
والمرونة على احتواء طموحات البشر، مهما بدت واسعة وممتدة وجديدة، بشرط
أن تكون نافعة ومثمرة.
* كاتب من الكويت
ahmed.shehab@awan.com |