لم تبرز القطيعة بين الدين والدولة في الغرب إلاّ بعد سلسلة من
الأحداث يمكن تحديد معالمها في نهاية القرن الثامن عشر، في حين لم يشهد
العالم الإسلامي أي ظهور لها، وقد ظلت غائبة عنه منذ مراحله التأسيسية
الأولى حتى الوقت الراهن.
تاريخياً عرف الإسلام المبكر تحديداً في الفتنة الكبرى وما نتج عنها
من تداعيات، حالة من المزج الحاد بين المعطى الديني والسياسي تجلت
نتائجها في التأسيس للمذاهب التي قسمت المسلمين بين السنّة والشيعة،
على خلفية حروبٍ على السلطة أو ما يمكن التعبير عنه بمسألة مَنَ سيتولى
أمر قيادة الجماعة الإسلامية بعد وفاة النبي.
هذا الانقسام المذهبي ساهم في توظيف النص القرآني لصالح الأهداف
السياسية، وأدى بدوره الى تعثر وحدة الإسلام الغابر والحاضر لأسباب
يتداخل فيها العاملان الديني والسياسي؛ فالعقل العربي الإسلامي يرتكز
على المنهجية التوفيقية التي تجمع بين النص المقدس والواقع، وعليه
فالاحداث والوقائع تستمد قوتها من خلال السلطة الإلهية العليا، فلا
سلطة بعد سلطة الله، بمعنى أن الفعل السياسي يستنبط شرعيته منها.
إن الوضعية الالتباسية السائدة في ديار المسلمين يمكن تفسيرها في
عجز المرجعية الدينية عن إقامة خطاب مشترك، بالمقابل فالدول الوطنية
الناشئة بعد مرحلة الاستقلالات لم تنجح في بناء منظومات قائمة على
الحداثة السياسية، الأمر الذي أحبط كل المحاولات التغييرية، مما دفع
رجال الدين والسياسة في آن الى إستغلال الانقسام المذهبي، والتحجر
الاعتقادي، وحالة الارتهان، لإضفاء المزيد من الانقسام على المستويين
الديني والسياسي، خاصةً مع سيادة ثقافة جماهيرية إستلابية لا تمتلك
الحد الأدنى من آليات المحاسبة، التي لا تعود أسبابها لتعاقب الديني
والسياسي فقط، وإنما أيضاً لإفتقار الجمهور العربي الإسلامي للمقومات
الذاتية الدافعة لأحداث التغيير المطلوب على مستوى السلطة والاجتماع.
ومع تنامي حركية الأصولية الإسلامية كنتيجة لتراجع التيارات
القومية والليبرالية، عاد المعطى الديني ليشكل الاجابة عن حالة الفراغ
السياسي، ولكن هذه المرة اتخذ طابعاً عنفياً، بمعنى أن الإسلامويين
وظفوا النص القرآني لصالح مشروعاتهم بأسلوبٍ عنفي لم يؤدِ إلاّ لمزيد
من الانكسارات على صعيد التعاطي مع الدولة أو لجهة تحقيق حلم الخلافة
الإسلامية المنشودة.
سوسيولوجياً قدمت الحركات الإسلامية نفسها كقوة إنقلابية تحت شعار
الإسلام هو الحل، واستغلت ضعف السلطة، وعملت على ترسيخ قاعدتها الشعبية
وشرعيتها بناءً على تأويلات انتقائية للنص القرآني بغية شرعنة عملها.
إزاء ذلك دخلت في حالة صراعٍ محموم مع الدولة وعجزت عن تقديم البدائل
للإخفاقات الداخلية، الأمر الذي جعل الإسلام مزيج من السياسات والأحزاب
(حزبيات دينية) والحروب أيضاً.
إن الفصل بين الديني والسياسي في الإسلام المُعاصر فيه الكثير من
الصعوبات، والصعوبة الاولى، داخلية بإمتياز فالإسلام يتم استنزافه من
قبل الحركات الإسلامية التي وإن حققت بعض النجاحات إلاّ أنها بقيت
تقليدية ومحافظة رغم مناهجها الاصلاحية، التي قُدِمت بأسلوب دوغمائي
وصل الى مرتبة التقديس؛ والصعوبة الثانية خارجية ترتبط بالسياسات
الدولية المجحفة تجاه العالم الإسلامي المنقسم على ذاته، والمتخاصم مع
النخبة السياسية المتواطئة مع الغرب على حساب مصالح شعوبها، ولهذا تمسك
المسلمون بهويتهم الدينية كآلية دفاعية تربط العادي بالمقدس، التاريخي
بالميتاتاريخي، مما انتج مجتمعاً متديناً.
لا ريب أن إشكالية الفصل بين الديني والسياسي في الإسلام لا تعني
محاربة الدين وإقصائه بشكل قطعي عن حياة الجماعة، وإنما المطلوب إدخال
الاسلام في دائرة الحداثة المنفتحة على التطورات التي يشهدها التاريخ
الحديث، الأمر الذي يؤدي الى خلق بيئة قادرة على مواكبة المتغيرات
العالمية ويؤهل المسلمين على ابتكار ما يمكن تسميته بالعلمانية
المؤمنة، وذلك لأن القطيعة النهائية بين الدين والدولة غير ممكنة
حالياً، وربما قد نصل الى هذه المرحلة بعد تحولات داخلية تراكمية
تنتجها الحداثة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، تقصي بدورها مسألة
توظيف الدين لصالح السياسة، وتلغي التعاقب بينهما على مستوى السلطة
والجمهور المنضوي تحت إهابها. والحال لقد تمّ إستغلال الإسلام في
الماضي والحاضر لصالح الأهداف السياسية، وهذا ما عبر عنه الشيخ يوسف
القرضاوي حين قال:" إن الله أراد الإسلام ديناً وشاء البعض أن يكون
حزباً سياسياً".
* كاتبة لبنانية |