العراق ولبنان هما الدولتان العربيتان الوحيدتان اللتان تتبعان نظام
(الديمقراطية التوافقية) في إدارة البلاد. البعض يعتقد أن أزمة الحكم
التي يعاني منها البَلَدان ترجع إلى نظامهما السياسي، وآلية تشكيل
الحكومة، وتوزيع المناصب بين الأحزاب والطوائف والأقلّيات.
في الحقيقة إنّ (الديمقراطية التوافقية) تحتوي في مضمونها على
الكثير من التعقيدات، كما نجد في تطبيقاتها شيئًا من التقليص لمبدأ
الديمقراطية، إلا أنها تُعتبر أهون من الانفلات السياسي، والاستئثار
بالحكم تحت ذريعة الأغلبية الانتخابية أو النيابية، المعروفة بالأكثرية.
غالباً ما تعتبر (الديمقراطية التوافقية) صمام أمان في البلدان التي
تتعدّد فيها الطوائف والأعراق والأقليات، فمن خلالها يُكبح جماح
الأكثرية سواءً كانت حزبية أم دينية أم عرقية، كما تضمن حقوق الأقليات
والأحزاب الصغيرة.
لقد كُتِب الكثير عن (الديمقراطية التوافقية) في بُعديها الإيجابي
والسلبي، إلا أنّ أكثر من خاض في غمار هذه النظرية السياسية هو المفكر
والباحث الهولندي (آرنت ليبهارت). في عام 2007 صدر عن معهد الدراسات
الإستراتيجية في بيروت كتاب جديد للكاتب بعنوان (الديمقراطية التوافقية
في مجتمع متعدد)، وجاء فيه: “في هذه المرحلة من تاريخ التجربة
الديمقراطية نشأ اهتمام غير مسبوق بمفهوم الديمقراطية التوافقية. وقد
ولدت النظرية التوافقية من الحاجة إلى توسيع ديمقراطية الأغلبية
المعهودة، أي منع الأغلبية من التسلّط على الأقلية، ومنع الأقلية أيضاً
من تخريب الديمقراطية ذاتها بحجة وجود أغلبية تستبد برأيها”.
ويسرد الكتاب مساعي بناء التوافق في بلدان أوروبية غربية، منها
بلجيكا وهولندا وسويسرا والنمسا وكندا. ويرى الكاتب أن هذه المساعي لم
تصدر عن أية نظرية مسبقة، بل كانت وليدة حاجات عملية في مجتمعات منقسمة،
أي غير متجانسة من الناحية القومية.
العديد من الباحثين والكتّاب العرب، خصوصا من لبنان والعراق لمسوا
ويلمسون في الوقت الراهن التطبيقات العملية للديمقراطية التوافقية في
بلدانهم، وقد كتبوا الكثير عن سلبيات وإيجابيات هذا النظام. وإنني في
الواقع سعدت كثيراً لقراءتي لهؤلاء الباحثين، خصوصا وأنهم قد وضعوا هذه
النظرية على طاولة المشرحة، واستطاعوا الخوض في تفاصيلها والكثير من
جوانبها القانونية والسياسية، ودورها في حفظ التوازن السياسي
والاجتماعي.
شبكة الإعلام العراقي قدمت عرضاً موجزاً للكتاب المذكور بقلم الكاتب
العراقي (شمخي جبر)، وجاء في إحدى فقراته: “ان أحد المآخذ على
الديمقراطية التوافقية أنها ليست على درجة كافية من الديمقراطية؛ لأنها
لا تتمتع بالقدرة الكافية على تحقيق حكومة مستقرة فعالة. فحكومة
الائتلاف الواسع تستلزم حتماً إما معارضة صغيرة وضعيفة أو غياب أية
معارضة رسمية في المجلس التشريعي. مع إن المعارضة مكوّن جوهري في
الديمقراطية الراسخة مثل بريطانيا. جاءت (النظرية التوافقية) بعد
التجربة وليس قبلها، إننا لا نملك أيّ تنظير إزاء النظرية التوافقية،
حتى اكتسبت هذه النظرية شكلها الملموس على يد مفكرين سياسيين بارزين،
منهم آرنت ليبهارت، وغيرهارد لمبروخ”. رغم اشتداد التنافس السياسي
والطائفي في لبنان، فقد أثبتت تجربة (الديمقراطية التوافقية) على
الطريقة اللبنانية نجاحها رغم كل علاتها، وربما أحد أسرار بقاء النظام،
وعدم تكرار الحرب الأهلية هو التوافقات السياسية، والتوزيعات للحقائب
الوزارية والمناصب الحكومية وفق نظام المحاصصة الطائفية والحزبية.
وبخصوص العراق الذي يخوض تجربة جديدة منذ عام 2003 يرى رئيس الوزراء
نوري المالكي في (الديمقراطية التوافقية) أحد أسباب مشاكل العراق. في
مقابلة له مع جريدة (الصباح) العراقية، أوضح المالكي: “إن النظام
الرئاسي أفضل من البرلماني، في حال كان وفق الاستحقاق الانتخابي”،
وأضاف: “أؤيد مبدأ الديمقراطية الذي يمنح الأكثرية الانتخابية حق تشكيل
الحكومة... إلا أن مصطلح الديمقراطية التوافقية غريب على الديمقراطية،
ومتناقض معها، ويحمل في طيّاته مشاكل عانى منها العراق والحكومة
الحالية”، موضّحًا أن “النظام الرئاسي أفضل من البرلماني، إذا كان
الأخير وفق الاستحقاق الانتخابي، أي عن طريق الانتخاب المباشر من قبل
الشعب”، بينما رئيس الجمهورية جلال طالباني يرفض مطالبة المالكي بإلغاء
المحاصصة وفق نظرية الديمقراطية التوافقية، ويقول: “إن ترسيخ التوافق
الوطني وسيلة ناجعة لتوحيد صفوف الأطياف المتنوعة في البلاد، فالعراق
لا يحكم بالغالبية فالوضع مازال يتطلب التوافق”.
الديمقراطية التوافقية رغم ما لها من سلبيات ومآخذ، إلا أنها تختزن
في تطبيقاتها بعض الإيجابيات لا يمكن إنكارها. يكفي أن نرى دولة صغيرة
كلبنان الذي تتصارع على أرضه القوى الإقليمية والدولية، لم يستطع الشيخ
سعد الحريري تشكيل حكومة ائتلافية فيه رغم مرور ثلاثة أشهر على
تكليفه. باعتقادي، يعتبر ذلك دليل قوة النظام السياسي في لبنان رغم كل
الاختراقات الخارجية.
وفي الختام أنهي مقالي بضم صوتي لأصوات المؤيدين “للديمقراطية
التوافقية”. |