مزايا كامرة السرد.. قصص أسماء محمد مصطفى نموذجا

علي حسين عبيد

 

شبكة النبأ: تتفق بعض الطروحات النقدية على أن ثمة تقاربا وتداخلا مضطردا يحدث بين فن السرد وفن التصوير السينمائي وأن الوشائج بين الفنين تتآصر بمرور الوقت، واذا اتفقنا على هذا الرأي فإنني أظن بأن القاصة أسماء محمد مصطفى تتمتع بكامرة سرد تنطوي في ملتقطاتها على مزايا معتدلة احيانا ومغالية في أخرى وربما باردة في لقطات معينة، وليس عسيرا على المتتبع أن يكتشف إسلوبها السينمائي في تنفيذ النص القصصي ولا صعبا أن يلاحظ القارئ حالات الاحتدام والتوازن والحيادية وهي تغطي نسيج السرد وفقا لطبيعة الاحداث الملتقطة.

إن أسماء محمد مصطفى مولعة بمراقبة حراك الحياة اليومية (كما يبدو للرائي) عبر كامرة سرد تلتقط التفاصيل المهمة والعابرة منها وهذه الكامرة تبدو مستعدة على الدوام لقنص ما يلزم من التفاصيل وكأنها تشتغل ليل نهار بلا هوادة تجوب مساحات اليقظة والاحلام والواقع والخيال معا لتقدم للقارئ لقطات متناثرة على شاشة الورقة البيضاء مشوبة بعواطف متنوعة تشع وتتضاءل حدة وخفوتا في عمق الصورة الامر الذي يحيل الى تناوب مدهش بين التألق والانطفاء.

لقد شكل هذا المسار الفني هوية او منحى لعدد من قصص اسماء محمد مصطفى التي كتبتها ونشرتها في السنوات القليلة الماضية، وأرى انها تعمق هذا المسار من خلال الإفادة من تشابك العلاقات بين السرد والسينما او فن التصوير بشكل عام وهي احدى المزايا المهمة لها، كما ارى انها تتقصد ملاحقة الاحداث الصغيرة وتعمل على بعثرتها في مساحة السرد وتشتت سياقها الزمني أحيانا في محاولة يمكن ان تكون مستقاة من التطورات التي قطعتها التشابكات المتواشجة بين فنيّ السرد والسينما كما نلاحظ ذلك على سبيل المثال في تجربة السينما الفرنسية المعاصرة والرواية الحديثة وعلاقتها بالسرد حيث وردت ملاحظات مهمة من هذا النوع في دراسات عديدة ومنها مقال للقاص السينمائي العراقي طاهر عبد مسلم حمل عنوان (السرد في السينما الفرنسية) نشرهُ في مجلة عالم الفلم التي أشرف على صدورها في بغداد قبل ثلاثة اعوام تقريبا وكذلك كتابه الموسوم بـ (الخطاب السينمائي من الكلمة الى الصورة).

في قصة (هواجس صاخبة) لأسماء يندمج إنعكاس الكلام مع فعل الكامرة منذ الاستهلال الصادم إذ تبدأ هذه القصة بجملة (متى يحين دوري؟)، إن هذا التساؤل سيقود الى فعل ما مرتقب الامر الذي يتطلب ملاحقة نابهة من لدن القارئ غير ان القاصة تطفئ هذا التساؤل فور إطلاقه وتركنه جانبا لتعرض على شاشة الورقة صور كامرتها لهذا اليوم (ارتدي ثوبي الأخضر .. أضع حجاب الرأس الأخضر الفاتح .. أضع حاجاتي الصغيرة في حقيبتي الجلدية السوداء.. انتعل حذائي الاسود ..) هذا التتابع للجمل السردية يمثل لقطات متتابعة لكامرة تلاحق حركة بطلة هذه القصة كما أن صيغة الجمل الآنية تجعلها اكثر قربا من الصورة وأكثر بعدا عن السرد والتزاماته، إنك الآن وانت تقرأ قصة (هواجس صاخبة) ستتابع عرضا تصويريا لجسد يتحرك كي يبدأ يوما جديدا في حياة تغص بالمفاجآت الخطرة (عند الساعة السابعة صباحاً أودع أمي) ثم (في طريقي نحو الشارع الرئيس تمطر الأجواء وابلاً من الرصاص . أختبئ في احد الشوارع الفرعية مثلما يفعل آخرون . يسكت الرصاص فجأة . أستكمل طريقي الى الشارع الرئيس) إنك حين تقرأ هذه الجمل السردية ستبدو لك الصور الناتجة عن هذه الجمل قريبة ومجسدة على الارض كأنك تجلس في صالة خافتة وتتابع احداثا متواصلة، إن ميزة كامرة السرد هنا هي حياديتها الشديدة، إنها تعرض عليك أماكن مستباحة بالرصاص وربما يبرق الموت في أية لحظة ليخطف كائنا ما غير أن الحيادية السافرة تضع حاجزا بين الرصاص والخوف، إنني كقارئ لم أشعر بأجواء الخوف حين رأيت هذه الصور أقصد صور الرصاص على شاشة الورقة، ولعل ذلك يعود الى غياب العاطفة التي غالبا ما تهوَّل الحدث، إن وظيفة السرد هنا تجريد الكامرة من التأثير العاطفي، لذلك لا نصاب بالفزع حين نقرأ جملة تقول فيها بطلة هذه القصة ( أكسبني الخوف عادة جديدة .. مراقبة الناس وتفحص المقاعد التي تقع على امتداد بصري.. ) ثم نتهيأ لفعل الموت القادم حين نقرأ في مفصل قادم من القصة (إنها ورقة أخرى تتهيأ للسقوط من شجرة الزمن) ليبدأ عمل الكامرة من جديد (أرتدي قميصاً بنفسجياً فاتحاً وتنورة سوداء . أضع على رأسي حجاباً يجمع بين بعض تدرجات اللون البنفسجي . انتعل حذاءً بنفسجياً غامقاً، وأحمل حقيبة باللون نفسه) وهكذا سنعيش تباعا هذا التداخل بين السرد والصورة وهما في حالة تناوب وتمازج تقود الى خلق نوع من الاحساس او الشعور الحيادي اللاّمبالي واليائس أحيانا، وفي اماكن أخرى ستكون ميزة الكامرة أكثر حرارة اذا جاز التعبير وسيعيش القارئ عاطفة مسربلة بالجمال والتدفق والانضمام بقوة الى صف الحياة حين نقرأ هذا السرد المصور (في الشارع أجد قاسم سبقني الى انتظار سيارة تقله الى العمل . أقف قربه بعد أن يستقبلني بأبتسامة وإطراء لمظهري . يقول أنه يمنح الناظر إحساساً بجمال الحياة وصفائها) إن هذا التضافر بين السرد والصورة سيبقى فاعلا في عموم مساحة القصة، واذا كان هدف القاصة عرض حياة عراقية خالصة مدججة بالقهر والاخطار في ظل ظروف واقعية لا تخفى عن احد فإنها –القاصة- أجادت في الجانب الفني الذي تفوق كما أرى على المضمون او على الرسالة الانسانية التي وسمت قصتها هذه.

في قصة أخرى تخلو من اجواء الموت والرصاص حملت عنوان (صبي الاشارة الضوئية) ستلقي بنا أسماء في لجة الواقع العراقي العصيب ظنا منها انها بذلك تعمق المضمون الانساني لتقف الى جانب الانسان وهو هدف نبيل قطعا لكنها سوف تتفوق في الجانب الفني وكأنها بذلك ترحب بكلمة جون كوكتو التي يقول فيها (ان السينما ليست مجرد حرفة وصناعة انها فن ساحر يصنع الجمال) اذ يتأتى ذلك من خلال الطرائق الفنية التي سبكت بها قصتها هذه، حيث اللقطات تتناثر فوق مساحة السرد وكأن الكاتبة تعد قصتها للتصوير السينمائي، ولربما هي تعني ذلك او لا تعنيه غير انني أجزم بتأثر القاصة بجماليات السينما وقدراتها الكبيرة على تحويل الوقائع السردية الى حياة تنبض بالحركة.

ان القاصة هنا لا توظف الاحداث وحدها لصالح مزايا كامرتها بل تسلط العدسة على ادوار متتابعة لشخصيات القصة الثلاث، صبي الاشارة الضوئية / الأب الموسّر / ابن الرجل الغني، كما اننا سنلاحظ غياب العاطفة وحضورها في آن ونحن نستجلي وقائع الصور السردية المعروضة على شاشة الورقة، وسنلاحظ فتور السرد او خموله على لسان الصبي وهو يقول (اعتدتُ يومياً، أن امسح زجاج مقدمة السيارة الفارهة التي تمر بهذا التقاطع المروري، وأن أتأمل ذلك الفتى الوسيم الذي يجلس على المقعد الامامي الى جانب السائق الأنيق.) إن هذا الكلام لا ينطوي على مشاعر محددة كأن تكون مشاعر حزن او فرح او حتى حسد، إن الصبي يتأمل الفتى الوسيم بعين حيادية وهذه العين هي كامرة السرد التي تخلو من العواطف، وهنا تكرر أسماء اسلوبها الذي سيمتد ليسم عموم مساحة السرد التصويري لهذه القصة.

وفي أماكن أخرى ستتخلى كامرة السرد عن سلبيتها مثلما حدث في القصة السابقة كما سنلاحظ في هذه الصورة (رنّ الهاتف النقال في السيارة. ضغط الرجل على الزر .. جاءه صوت خشن يطالبه بتسليم المال في موعد محدد، لكن الرجل رد عليه بقسوة ممزوجة بالسخرية:

- لا مال لكم عندي.

 إن سطوة السرد هنا بائنة بوضوح غير ان القارئ سيكون أكثر تفاعلا مع الحدث حين يبني استنتاجاته على حادثة خطف تم تصويرها عبر جمل سردية تنبض بالألم.

إن الكلمات في قصص أسماء محمد مصطفى يمكن أن تتضافر وتندمج ببعضها لتتحول الى صور وهي لا تحتاج كثيرا من الخيال او قوة المخيلة لدى القارئ لكي تنجو من صيغتها السردية وتصبح كائنات متحركة وأحداثا متجسدة، ان هذا الاسلوب يذكرني بجهود خلاقة بذلها الساردون في هذا المضمار لكي يتلاقح السرد مع الصورة وأقرب مثل على ذلك ما قدمته الروائية الفرنسية مارغريت دورا في تجربتها المدهشة بتحويل الكلمات الى صور لا سيما في نصها السينمائي المعروف (هيروشيما حبيبتي).

قاص وناقد من العراق

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 10/أيلول/2009 - 20/رمضان/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م