في إيران، الحراك السياسي أخذ منحىً آخر بعد الكلمة المهمّة التي
ألقاها المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي يوم الأربعاء الماضي 26
أغسطس، إذ أكد “أنّه ليس لديه ما يثبت التهم الموجهة لقادة التيار
الإصلاحي بأنّهم مرتبطون بدول أجنبية”. وقد نقل التلفزيون الرسمي عن
المرشد قوله:
“لا أتهم قادة الأحداث الأخيرة بالعمالة للخارج وأميركا وبريطانيا؛
لأن ذلك لم يثبت لي”. السيد خامنئي دعا إلى محاكمة بعض رجال الأمن من
الشرطة والباسيج، فقال في هذا الصدد: “أقدرّ عمل أجهزة الأمن، وأصدرتُ
أوامري بالتحقيق في ما وقع من جرائم ومحاسبة المسؤولين عنها”. أما أهم
ما في كلمة السيد خامنئي، فقوله: “إنّ دعمه للرئيس أحمدي نجاد ليس دعماً
مطلقاً”، وفي المقابل، قال الرئيس الإيراني الأسبق محمد خاتمي الأربعاء
الماضي إنّ الاعترافات التي أدلى بها محتجزون أثناء محاكمة جماعية
لمتهمين من التيار الإصلاحي بإثارة اضطرابات بعد انتخابات الرئاسة “لا
أساس لها من الصحة” واعتبرها “مدمرة” لصورة إيران في العالم.
بدورنا نتساءل: لماذا اتخذ المرشد الإيراني هذا المنحى الجديد بعد
أن صرّح بعد الانتخابات مباشرة بأنّه يميل إلى أفكار أحمدي نجاد أكثر
منه إلى أفكار الشيخ رفسنجاني؟ ما الجديد في المشهد السياسي الإيراني
بعد الاتهامات المتبادلة بين الأجنحة السياسية؟ وهل يمكن ترميم الشرخ
الذي حدث في صفوف القيادات والمرجعيات الدينية؟
في الواقع إنّ ما حدث من اصطفاف سياسي وتصدع اجتماعي بعد الانتخابات
كان كبيراً... الإصلاحيون اتهموا المحافظين بتزوير آراء الشعب واستغلال
الفتاوى الدينية في دعم مرشح ضد مرشح آخر، وإقحام قوى الأمن في العملية
الانتخابية، وما تلاها من دعاوى بحدوث انتهاكات في السجون، في المقابل
اتهم المحافظون خصومهم الإصلاحيين بالعمالة للغرب، والتخطيط للثورة
المخملية لإسقاط النظام.
الأحداث في إيران كانت وما زالت شأناً داخلياً، فلم يكن لأميركا ولا
لبريطانيا أيّ يد في ذلك. نعم، الدولتان ركبتا الموجة إعلامياً من أجل
الضغط على النظام بهدف كسب تنازلات في الملف النووي، إلا أنّ شيئًا من
ذلك لم يتحقق، وأدركوا أنّ إيران في أوج زلزالها الداخلي لم تتراجع،
فكيف إذا كانت مستقرة سياسياً وأمنياً؟! بعد أن وصل الخلاف بين الأجنحة
إلى مراحل خطيرة، أدرك المرشد الإيراني واقتنع بضرورة إيجاد توازن بين
الأجنحة المتخاصمة، وبات من الضروري كبح جماح الرئيس الراديكالي أحمدي
نجاد الذي تطاول على الركن الأساس من أركان النظام وهو الشيخ رفسنجاني،
واستهزأ كثيراً بالقيادات الإصلاحية، وطالب بمحاكمتهم، ومن جانب آخر
ماطل نجاد في عزل صهره “رحيم مشائي” بناء على أوامر المرشد، وفي تحدٍ
آخر، قام بإرجاع مشائي مرة أخرى وعيّنه مديراً لمكتبه، وأقدم على عزل
وزير الداخلية وكثير من القيادات الأمنية؛ مما زاد من امتعاض المحافظين،
وهدّدوه بأنّهم سيكونون له بالمرصاد تحت قبة البرلمان إذا حاول التمرد
مجدداً على ولي الفقيه.
اليوم، وبعد الموقف الجديد للمرشد، وعزل المدعي العام لطهران
المتشدد سعيد مرتضوي من قبل رئيس السلطة القضائية الجديد صادق
لاريجاني، وتشكيل لجنة تحقيق في الانتهاكات الأخيرة يتجه المشهد
السياسي الإيراني إلى مرحلة الهدوء وتعديل التوازن السياسي، ومحاولات
رد الاعتبار إلى الإصلاحيين، إضافة إلى محاكمة عدد من رجال الأمن الذين
ارتكبوا جرائم بحق السجناء، بيد أنّ هذه الخطوات لا تبدو كافية لإقناع
أنصار خاتمي وموسوي وكروبي؛ لأنّهم يطالبون بإيقاف المحاكمات، والإفراج
عن جميع المعتقلين، واحترام الدستور وحقوق الإنسان، وإعادة الحريات،
ورفع الحذر عن صحف المعارضة، وعدم احتكار الإعلام الرسمي من قبل
المحافظين.
المراقبون يعتبرون الموقف الجديد للمرشد جاء نتيجة إصرار الاصلاحيين
على المضي في مواقفهم، إضافة إلى كسبهم المزيد من التأييد من قبل مراجع
الدين والتجار والمثقفين، خصوصا بعد أن تبيّن للجميع مدى براءة
الإصلاحيين من تلك التهم التي أُلصِقت بهم كالعمالة للغرب، ومحاولة
إسقاط النظام. في الحقيقة، طريقة محاكمة قادة الإصلاحيين أساءت كثيراً
لسمعة البلاد.
إيران اليوم أحوج ما تكون إلى حالة من التوازن بين الأجنحة
السياسية، فهذا المجتمع الحيوي لا يمكن أن يتحكم في مصيره جناح محافظ
متطرف، أو جناح إصلاحي منفتح، ولا حتى جناح براغماتي، فإذا ما انفرد
جناح معين بإدارة البلاد، فإما أن يحوّل النظام إلى نظام أمني وعسكري،
أو إلى نظام يتسم بالنعومة السياسية.
المكوّنات الفكرية والسياسية التي تؤمن بنظام الجمهورية الإسلامية
يجب السماح لها بالتحرك وممارسة أنشطتها بكامل الحرية وفقاً للدستور.
في الختام، يبدو أن الثنائي (خامنئي ورفسنجاني) هما اليوم أحوج ما
يكونان إلى بعضهما في إدارة البلاد وإيصالها إلى بر الأمان، وباعتقادي،
هذا ما يحصل اليوم. |