شبكة النبأ: عندما هممتُ بكتابة هذا
التحقيق اكتشفت انني أمام حيرة، فهل الأولى أن ألقي الضوء على القيمة
الفنية للتماثيل الموجودة بساحات وميادين مصر، أم اني أواجه رمزاً من
رموز تعبير الامة عن حبها وتقديرها لشخصياتها الكبرى والاسباب التى
دفعتهم لهذا التكريم وقصة كل من هذه الرمرز، أم أعمل على تقديم نقد
لاذع لحالات الاهمال التي تتعرض لها هذه الميادين التاريخية التي أضحت
جزءً من روح القاهرة النقيّة المعطاءة... ولكن هلمّوا معي لنرى الى اين
سوف تأخدنا جولتنا فى أهم ميادين القاهرة وأشهرها.
تمثال نهضة مصر
انه ليس بميدان وليس بتمثال عادي انما هو رمز كبير للامة المصرية
كما انه تمثال يوصف بالعالمية لأنه صُمم على يدي الفنان المصري العالمي
محمود مختار.
القصة تبدأ منذ مؤتمر الصلح في باريس حيث اشترك محمود مختار في معرض
الفنون الجميلة السنوي في باريس فى نفس الفترة التى عقد فيها المؤتمر
كي يلفت الانظار للمسألة المصرية فى ذلك الوقت، وعندما ذهب سعد زغلول (رائد
الحركة الوطنية ومؤسس حزب الوفد) ورفاقه من اعضاء احزب الوفد الوطنى
انبهروا بالتمثال فقد كان له دلالة خاصة في الإشارة للأحداث السياسية
التي مرت به مصر في تلك الفترة الهامة حيث كانت تطالب بالاستقلال.
يصوّر النصب امرأة واقفة فى ملابس الفلاحة المصرية ترفع عن وجهها
الحجاب بيُسراها، بينما يُمناها مفرودة لتلمس بأصابعها رأس تمثال أبي
الهول الذى يفرد قائمتيه الأماميتين فى تعبير عن النهوض، في هذا
التمثال يشير الفنان الى الشعب المصري بالفلاحة الأم، اي ان الفلاحين
في مصر هم اصحاب النهضة واصحاب الارض وهم اصحاب الحضارة لذلك كان
التمثال تحدِ للملك فؤاد (ملك مصر) وتحدِّ لسلطة القصر والحاكم المطلق،
فحتى ذلك الوقت لم يكن هناك تمثال فى أي ميدان فى القاهرة إلا تماثيل
أفراد الأسرة الحاكمة ورجال الدولة الكبار، وحتى تمثال الزعيم مصطفى
كامل لم يُسمح بإخراجه من مكانه فى مقر الحزب الوطني ومدرسة مصطفى كامل
إلا بعدها بسنوات طويلة، فكان اختيار الفلاحة المصرية رمزا لنهضة مصر
وتحديّا للسلطة.
والذى زاد من ضراوة هذا التحدي أن مختار وقد أصبح النحات الأول فى
مصر الذى تلتف الجماهير حول فنّه لم يصنع تمثالا واحدا للملك فؤاد،
وعندما وجّه له بعض أصدقائه النصح بضرورة عمل بورتريه نصفي للملك حتى
يرضيه بدأ فى تشكيل تمثال نصفي للملك فؤاد فأبدى الملك ملاحظات عليه من
الناحية الفنية، فما كان من مختار إلا أن دمّرَ التمثال تماما ولم
يكمله ولا توجد له إلا صورة فى مرسمه فى مرحلة التشكيل بالطين..
ميدان طلعت حرب
يقع تمثال طلعت حرب في شارع يحمل نفس الاسم، انه تمثال رائع حقا يقف
شامخا ينظر بتحدِ، لم لا وصاحبه هو رائد الاقتصاد الأول فى مصر، وقد
قام رجال الثورة بصنع هذا التمثال تكريما لروح هذا الرجل الذي يُلقَّب
بأبي الاقتصاد المصري وتقديرا لإنجازاته المتعددة.
ودون الدخول فى نشاته ومولده فقد نجتاز ذلك بالقول انه اكبر اقتصادي
مصري بدءَ رحلته فى إنشاء شركة مالية سمّاها (شركة التعاون المالي)
كانت تقوم بالأعمال المصرفية الصغيرة وأهم ما قامت به هذه الشركة هو
تقديمها قروض لأصحاب الأعمال الصغيرة فى القاهرة عندما كان يهددها
الإفلاس.
ولكن هذا لم يرضِ طلعت حرب وكانت فكرة إنشاء بنك للمصريين تراوده
فقام بإقناع عدد كبير من المصريين بالاكتتاب لإنشاء بنك مصري.
وتم الاحتفال بتأسيس البنك فى 7 مايو 1920 وانتعش اقتصاد مصر خلال
تلك الفترة وزادت فرص العمل في جميع المجالات، كما نجح في إنشاء فرع
لبنك مصر في الشام حيث أنشأه في سوريا ولبنان وافتتح فى عام 1930.
وبالرغم من شهرة طلعت حرب كأقتصادي بارع فانه كان أديباً بدأ حياته
بتأليف الكتب كما اشتغل بالصحافة حيناً آخر وكانت له آثار صحفية وأدبية
بارزة.
وأصدر طلعت حرب عدة كتب منها (تاريخ دول العرب والإسلام) عام 1897
وأشار فى مقدمة الكتاب إلى ما يراه من أهمية فى كتاب التاريخ للنهوض
بالأمم.
وكتاب ثاني وهو (تربية المرأة والحجاب) وكتبه رداً على كتاب (تحرير
المرأة) لقاسم أمين ينتقد فيه رأي قاسم أمين فيما يدعو إليه، و يدافع
فيه طلعت حرب عن الحجاب.
ولكنه تعرض لمواجها كبيرة من قبل الانجليز حيث تناقضَ الاصلاح
الاقتصادي وسياسة التدخل والسيطرة على الاقتصاد المصري من جانب
الانجليز وتعرضَ للكثير من الاضطهاد وبذلك اصبح في عيون الامة المصرية
ليس اقتصاديا بارعا فحسب انماً رجلا وطنيا ورائدا للوطنين فى ذلك الوقت
وكرم بهذا التمثال وبهذا الميدان الذى سُمّي باسمه.
ميدان لاظ أوغلي (لاظ أوغلي والسقا)
لاظ أوغلي، الذي نعرفه جميعا صاحب التمثال الشهير في منطقة الدواوين
والذي يتوسط تقاطع شارع نوبار ومجلس الشعب، وهو كان" كتخدا مصر" أي
نائب أو وكيل محمد علي الكبير، كانت تتجمع في يديه كل السلطات..
ومنها الأمنية بالطبع، وفي عهد الخديوي اسماعيل (مؤسس القاهرة الحديثة)
أمر بإقامة تماثيل لتجميل القاهرة وتخليد ذكرى كبار رجال الدولة الذين
قدموا لمصر انجازات ملموسة.. ولما كان لاظاوغلي منهم أمر بعمل ووضع
تمثال له في الميدان (المعروف باسمه الآن)، وصدرت لأحمد باشا الدرمللي
أوامر بتوفير صورة ليعمل منها النحات التمثال المطلوب… ولم يجد
الدرمللي أي صورة (ربما لأن أوغلي قد مات صغيرا أو لأنه باعتباره رجل
أمن كان لايحب التصوير… فوقع الدرمللي في حيرة.. كيف يوفر صورة لشخص
مات..
وفي مرة يسير هو ومحمد باشا ثابت (وزير المعارف) في خان الخليلي،
شاهدا رجل يعمل "سقّا حريم" يشبه لاظ أوغلي تماما؛ فأمره الدرمللي (المحافظ)
بأن يأتي للمحافظة في اليوم التالي، وألبسوه ملابس كالتي كان يرتديها
لاظ أوغلي وقلّدوه سيفا.. والتقطوا له صورة والتي صُنع منها التمثال
تمثال عمِّ "محمد السقا…"!
لقد أراد اسماعيل تخليد من بدأَ سنة الحكم بالأمن والتي تكون الاولى
للمواطن (وإن لم تكن الأخير أيضا) فيشاء القدر أن يكون التخليد لمواطن
من عامة الشعب. ويرجع ذلك الى تخليد التمثال الى يومنا هذا بعد أن أسقط
مجلس قيادة الثورة الكثير من التماثيل ولم يسقط هذا التمثال بل انه فى
مكان يكتظ بالدواوين والوزارات.
آراء المواطنين بالميادين وأهميتها المعنوية
والتاريخية
عماد عثمان، 38 سنة، محاسب قال، في اعتقادي اننا في حاجة اكبر
للاهتمام بالميادين اكثر من ذلك ليس فقط لأنها وجه حضاري للبلد او انها
تخليد لكبار الشخصيات ولكن الاهتمام بهذا المجال سوف يفسح مجالا
للاهتمام بالشوارع، وخاصة في محافظة الجيزة التى تتعرض للإهمال الكبير
خلال الربع قرن الاخير، وتزايد الاماكن العشوائية وما الى ذلك من مظاهر...
حسام الدين بركات 30 سنة، قال، من الجيد أن تزخر عاصمتنا الحبيبة
بكل هذه اللميادين وما يتوّجها من تماثيل ولكن اين تماثيل كبار
الفنانين والعلماء والشخصيات الاجتماعية البارزة، فهناك العديد من
الناس الذين تركوا بصماتهم بمختلف مجالات الحياة على الارض المصرية
والمجتمع المصري والعربي، ولا أرى لهم اية تماثيل او نصُب تخلّد ذكراهم
وترد بعض الجميل لهم...
مريم عماد المحمدي 25 سنة، مهندسة معمارية قالت، انا ليس ضد
الاهتمام بهكذا مجال ولكن لديّ تحفظات من ناحية الصرفيات التي يجب على
وزارة الثقافة بذلها لإصلاح وصيانة وإقامة النصُب والتماثيل التذكارية
لشخصياتنا التاريخية، حيث ان المتوقَّع ان تتذرع وزارة الثقافة بنقص
الميزانية وعدم توفّر الامكانيات، ومع ان هذا العذر لن يسكِت الجهات
المهتمّة الاخرى فسوف يتم اللجوء للتبرعات من اجل الحفاظ على مكانة
الميادين وتماثيلها، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا، هل يمكن التبرّع
لهكذا اعمال وترك شرائح واسعة من العوائل المصرية التي تعاني من ضيق
العيش وانعدام الدخل؟!
اضافت مريم، الامر الثاني هو تحفّظ قد يكون نابع من قناعات شخصية
حول خشيتي من أن يقام التكريم لشخصيات غير مرغوب بها اي أن يتم تخليد
شخصيات لايريدها الشعب من خلال نصُب وتماثيل قد يتم فرضها كأمر واقع...
معاذ الجمل 29 سنة، مهندس كهرباء قال، اعتقد ان هناك بوادر اهتمام
متصاعد في مجال اقامة وصيانة التماثيل والميادين الهامة في القاهرة،
فمؤخرا قد امتلكت هيئة الاثار المصرية قصر البارون، وها هي تستكمل
تمثال نجيب محفوظ وتضعه فى ميدان سفنكس..
واضاف معاذ، نأمل ان تنتبه المؤسسات الحكومية الى ان هذه الميادين
هي امتداد تاريخي لحضارة القاهرة وتجسيد لاهتمام المصريين بعلمائهم
وشخصياتهم الفذّة حيث ان من صفات الامم الحيّة تكريم وتخليد ابنائها
البررة الذين خدموا الانسانية في اتجاهات ونواحِ مختلفة...
|